مقالات

لم تعد تتسع الجزائر إلا لصوتي تبون وشنقريحة، فما عداهما إرهاب وخيانة وصهينة ومَخْزَنة

قبل سنتين من انتهاء ولاية تبون الأولى، تشهد الساحة الوطنية حملات ترويج محمومة غير معلنة ومترددة في آن واحد، تمهيدا للانتخابات الرئاسية المقبلة (يقول تبون في حواره مع الصحيفة اليمينية لوفيغارو، أنّ “قرار التقدم لعهدة ثانية، يعود للمواطنين!”). تعبيدا لطريق العهدة الثانية، تعمل السلطة منذ فترة، بيد من حديد، على تذليل كل العقبات والمنغصات، تجد ترجمتها على أرض الواقع، في توسيع رقعة حملتها القمعية إلى أبعد حد، بما يُذكّرنا بنفس الحرص من قايد صالح على تنظيم انتخابات 12 ديسمبر 2019 التي أتت بتبون، وكان الهدف منها بالأساس، التخلص من عبء الظهور في الواجهة، والعودة وراء الستار، دائمًا وفق القاعدة الضمنية “السيطرة على كل شيء، دون تحمّل المسؤولية عن أيّ شيء”.

إذا نظرنا إلى هذه الحملات القمعية الزاحفة، يبدو واضحًا أنّ السلطة لم تعُد تتحمّل أيّ صوت أو قلم أو رأي، مهما كان معتدلا، يغرّد خارج السرب، أو ينتقد النص المُعَدّ لتهيئة الجو للانتخابات الرئاسية المقبلة، مثلما يشهد على ذلك (نموذج فحسب) اعتقال الصحفي إحسان القاضي في منتصف الليل من داخل مقر إذاعة راديو آم، وتشميع المقر، لتضع سلطة الجزائر الجديدة، حدًا لآخر وسيلة، رغم تواضعها ومحدودية انتشارها، داخل البلاد. وجريمة هذا المنبر، أنه حاول قدر المستطاع الاحتفاظ بشيء من الاستقلالية، مما يؤشر إلى جنوح هذه السلطة نحو القمع الشامل للحريات، مع اقتراب موعد الانتخابات، الذي يراد فرضه فرضا على الجزائريين، مهما بلغت تكلفته، وبعث في الوقت نفسه، رسالة فعلية مفزعة إلى كلّ من تحدثه نفسه إبداء رأي مخالف، ومن ثم زرع اليأس والإحباط، وإقناع مَن لم يرضخ بعدُ، بعبثية المحاولة قبل الشروع فيها. هذا المسعى من السلطة القائمة ليس ابتكارا ولا اجتهادا، بل مجرد نسخة مستحدثة من الحرب النفسية التي استعملتها القوى الاستعمارية إبان حرب التحرير، بعد أن أدركت كبير أثر كسر طموح الناس وآمالهم وعزيمتهم في المقاومة. ومن جملة ما لجأت إليه القوة الاستعمارية آنذاك من تدابير، تشويه سمعة المجاهدين، ووصفهم بـ “الفالاغة” (اسم الإرهاب يومذاك)، لتنفير الناس من حولهم وزرع الهلع في نفوسهم، مثلما نراه اليوم في ممارسات السلطة للنيل من كلّ من يقاومها سلميًا، فتعتقل البعض منهم لجعلهم مثالًا رادعًا، خاصة أصحاب الكلمة والموقف والقلم.  ويأتي اعتقال إحسان القاضي قبل أيام، والعشرات من معتقلي الحراك قبله، رجال ونساء، بل وأطفالا، لِيثبت مرة أخرى، وبشكل واضح، أن هذا النظام لا يطيق أيّ صوت (فرد أو تنظيم أو جمعية)، يحاول التحرر عن قبضته.

سياسة الهروب إلى المجهول

قد يسأل البعض، ما الذي يفسر إصرار النظام على السياسة القمعية الشاملة، دون أن يحاول حتى التستر على طابعه المستبد، خاصة خارج حدود الوطن. اطمئنان السلطة على ما تفعله ويقينها بعدم دفع الثمن، يعود ببساطة للبحبوحة المالية التي تجنيها من ارتفاع أسعار المحروقات، وتمكنها من شراء، مرة أخرى، السلم الاجتماعي والسياسي داخل البلاد وذمم العديد من الجهات التي تشارك السلطة قصعتها، وضمان أيضًا سكوت العواصم الغربية، بسبب حاجتها الماسة إلى النفط والغاز، الأمر الذي يجعلها تنأى بنفسها عن تقديم أيّ انتقاد يُعرّض مصالحها ويعرقل سبل تزويدها بالمحروقات. هذا الوضع الظرفي أكسب السلطة “شجاعة” مواصلة حملتها لكتم كلّ صوت لا يخضع لهيمتها ولا يلتزم خريطة طريقها. اطمئنان مدفوع الثمن، أطلق يدها للمضي قدمًا في طريق تعبيد الطريق لتنظيم انتخاباتها الرئاسية المقبلة غير عابئة بأحد. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الحملة القمعية لم تتوّقف على عناصر الحراك وأصحاب الآراء المستقلة، بل تمتدّ إلى أفراد أسرهم وجيرانهم وإلى كل من يقدّم لهم يد المساعدة الإنسانية أو يتحدّث عنهم بخير أو يتضامن معهم، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتُلصِق بهم تهمة المساعدة أو الإشادة بالإرهاب، بموجب المادة 87 مكرر، التي تمّ سنّها لهذا الغرض تحديدًا.

من جملة هذه الممارسات العقابية الجماعية:

– فرض غرامات باهظة تقوق طاقة المُتابَعين قضائيًا، بغرض إفقارهم ومن ثمّ تأليب أهاليهم ضدّهم، وتحريضهم على تحميل الحراك المسؤولية، وتعميق نقمتهم على كلّ من لا زال ينادي به؛

– ترهيب (بالتهديد) وترغيب (بالنصيحة) أسرهم وأقاربهم وأصدقائهم، لحثهم على التوّقف، ودفعهم إلى التخلي عن نضالهم ومطلبهم في التغيير؛

– زرع أخبار التيئيس والإحباط لضرب المعنويات وإظهار عبثية مواصلة الحراك؛

– تسليط سيف الحراسة القضائية على من ينجو من السجن، لجعل كلّ معتقل أفرج عنه، مؤهل للعودة إلى زنزانته، حتى لا يفكر في أيّ خطوة قد تعيده من حيث خرج؛

– الإفراج عن عشرة والقبض على عشرين، سياسة باب الدوار، كوسيلة مكر تهدف إلى إنهاك أهل الحراك وتفقيرهم وإشغالهم في دوامة قبض/إفراج، في مسلسل لا ينتهي، يشتت صفوفهم، ويمنعهم من التفكير الهادئ البنّاء لمواصلة مقاومتهم؛

– مداهمات ليلية (زوار منتصف الليل) لبيوت أسر الملاحقين داخل البلاد أو خارجه، لترويع ذويهم، والضغط عليهم، مع تهديدهم بالاعتقال في حالة فضحهم ما يتعرضون له من تعسف وظلم، أو استمرار أبنائهم (خارج البلاد) في فضح جرائم العصابة.

إلى جانب ما يتعرض له الأفراد، لم تنجُ الجمعيات هي الأخرى من نفس المعاملة، على غرار عملية “الحل” لإتمام عملية تصفية الجمعيات المستقلة من خلال متابعتها أمام القضاء وحلها كما هو الشأن مع جمعية راج ثم الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان (دون حتى إخطارها بالقرار)، ومنظمات اس او اس مفقودينSOS Disparus ، لإفراغ الساحة من أي صوت يعكر جو [السير الحسن لتنفيذ خطة طريق “الجزائر الجديدة”] والاعتماد في ذلك على مجتمع مدني مصطنع يلعب دور الواجهة الداعمة للسلطة بنفس الطريقة التي تنظم كافة القطاعات الأخرى، من إعلام وأحزاب ومنظمات جماهرية ونوادي ثقافية ورياضية وغيره، أو ما يدخل في إطار مفهوم السلطة للتعددية الحزبية وحرية الرأي والمجتمع المدني.

في وقت تبذل فيه الدول التي تستمد شرعيتها من صوت شعوبها، قصارى جهدها لتنفيذ وعودها وتحقيق مطالب شعوبها وزيادة رفاهيتهم، يظل الهدف الأسمى بالنسبة للأنظمة القائمة، عندنا وفي كل دول الاستبداد، هو إفراغ الساحة من أي نشاط سياسي أو جمْعَوي حقيقي. بعد أن أحكمت عصابتنا قبضتها على وسائل الإعلام، بدون استثناء، لم تعد تخف ما تصبو إليه، من تصحر سياسي وقتل كل إرادة معارضة حقيقية، من خلال مقايضة العفو (عن نكاز مثالا، وغيره مما عرضت عليهم الصفقة) مقابل اعتزال السياسة، ولم تكلف نفسها إلى حد الآن عناء تفنيد هذا الربط المشين بين الأمرين، هذا الربط العضوي الذي يحمل رسالة واضحة مفادها أن ممارسة السياسة باتت مستحيلة في الجزائر إلا إذا تجسدت في تزكية خيارات السلطة والدعوة إلى المشاركة في الانتخابات التي تنظمها بشكل دوري.

إن الصمت المطبق والمريب من الطبقة السياسية والأحزاب والشخصيات والمنظمات والجمعيات، حيال هذا الوضع، علامة مادية على وصول الرسالة والالتزام الكامل بمضمونها.

لكن استماتة النفوس الحرة الأبية، على الرغم من حملات القمع والاعتقال والترهيب والتجريم والتخوين، تثبت أنّ فكرة التحرر ومطلب التغيير لا يزالان عميقان في نفوس وعقول غالبية المواطنين، ودليل على أنه ما زال يقضّ مضجع العصابة التي تتحسس جنبها عند كلّ صرخة أو صوت أو منشور عصيّ على تهديد عصاها وترغيب جزرتها. أليست حالة الاستنفار التي تدفعهم إلى إنزال فيالق الأمن بمختلف الأجهزة، لحصار الشوارع وقهر ساكنيها، هي محاولة لقتل بذرة الحراك التي يدركون في قرار أنفسهم أنها لا تزال موجودة؟ هوسهم وحالة تخبطهم جعلتهم لا يرون أنّ البذرة عميقة ومحمية بعزيمة أصحابها وبيقينهم في جني ثمارها، عاجلًا أو آجلًا.

د. رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد