قد يكون لتقديم موعد الانتخابات أسبابه وتفسيراته، تخصّ أصحاب الشأن حصريًا، دون حتى تكليف أنفسهم، كالعادة، إبلاغ المواطن بهذه الأسباب إمعانًا في جعله خارج المعادلة؛ قد يرى البعض أنّ هذا القرار له علاقة بزيارة تبون المرتقبة إلى باريس، أو مناورة بين أطراف داخل السلطة، أو استباق من تبون لكل محاولة “العبث” بمصيره، كلّ ذلك ممكن ويدخل في إطار التخمينات التي لا يمكن للمواطن ولا حتى المتتبّع لشأن البلاد التأكد منها. لكن مع ذلك، تظل كل هذه الزوبعة مجرد لعب على الهامش، أو جعجعة من دون طحين، لا تعالج جوهر الأمر، لأن الانتخابات تتم أصلًا على هذا النحو منذ عقود، في حين لا يُعْقل اختصار مصير البلاد في موعد انتخابي معروفة مسبقًا نتائجه، لن يغيّر من المعضلة التي تعيشها البلاد. إنّ جسامة الأزمة وخطورتها تحتاج إلى أكثر من مجرد انتخابات، سواءً تمت في موعدها أو كانت مسبقة أو مؤجلة، بل تقتضي هبّة ويقظة ضمير لمواجهة الحقيقة بمسؤولية وبصيرة، والإقرار بأنّ البلد يمرّ اليوم أكثر من أيّ وقت مضى بأزمة طاحنة، وتصحّر سياسي قاحل، أفقد الشعب الثقة التامة في الطبقة السياسية، داخل السلطة أو على هوامشها، فهو لا يرى أيّ خروج من الأزمة طالما استمر النظام في تسيير البلاد بنفس الآليات والممارسات والكيانات والأشخاص.
عندما تُلقي نظرة خاطفة على المشهد يُخيّل إليك وكأنك في زمن متجمّد، لم تُستخلص فيه دروس التجارب الماضية، ولم يُعترف بعدُ بأنّ المشكلة ليست (ولم تكن يومًا) في منْ يشغل منصب رئيس الجمهورية ولا في مناصب الوزراء ولا كراسي النواب، بل المشكلة (والحلّ في آن واحد) في طريقة الوصول إلى هذه المناصب وإعادة الثقة واللحمة بين الحاكم والمحكوم. للأسف لا زالت كلّ الجهود تُبذل من أجل هدف أوحد، وهو الالتفاف على مكمن الداء، ونسف كلّ مساعي الحل الجدّي الكفيل بانتشال البلد من أزمته الطاحنة. وهل ننسي أنّ حراك فبراير 2019 جاء أصلا بعد أن استفحل الوضع وفاض الكأس، ليُسهم في إعادة قاطرة البلاد إلى سكتها الصحيحة، ويُجَدد للأمة الأمل في تحقيق هذه الهبة، قبل أن تجتمع معاول الهدم لمحاصرته واضطهاد فواعله، وإعادة البلد إلى ما قبله 2019، ليحلّ محله تصحر سياسيي قاحل أفقد الجميع أيّ بصيص أمل في الخروج من النفق المُظلم.
إذا كان النظام قد أبان بوضوح أنه يرفض التغيير الذي نادى به الحراك، وقام بخطوات مناقضة تمامًا لمطالبه، لنا أن نسأل ما الذي تغيّر حتى “يقتنع” البعض بأنهم يمكنهم المشاركة في “زردة” السلطة، لتقديم بديل وهم يرَوْن أنّ الوضع لا يختلف قط عن الوضع ما قبل الحراك، بل قد يكون اليوم أشد وأكثر تعسفًا وقمعًا وقتلًا للحريات، بحيث قد يكلّف منشور واحد صاحبَه السجن لسنوات عدة، لكتم أنفاس كلّ من تسوّل له نفسه التعبير عن رأيه المخالف. فهل من يضيق ذرعًا بمنشور يتيم، يسمح بتولي رئيس خارج “العلبة”؟ وهل يعتقد فعلًا “المرشحون”، أنه بوسعهم إحداث التغيير الذي ينادون به دون أن تتغير آليات العمل السياسي وأدواته وذهنيته؟ وإذا كانوا يعلمون استحالة تحقيق هذا الغرض، وفق كلّ التجارب والمعايير أمامهم، فلماذا إذن يغامرون ويمدّون السلطة بمساحيق تعددية ديموقراطية للمرة الألف؟
لا أعتقد أنّ الساسة المترشّحين، يجهلون أنّ النظام في البلد لا يقبل لهم أن يكونوا أكثر من أرانب في السباق وواجهات أثناء الممارسة السياسة، أو بلغة صريحة، شهود زور، بعلمٍ منهم أو بدونه، ولهذا السبب يرفض كل سياسي يحترم نفسه المشاركة في مثل هذه المهرجانات، ليس رفضًا للانتخابات كوسيلة للتناوب على السلطة وإنما ليقينه بعبثية المحاولة في ظل غياب الإرادة والنية في انتخابات حقيقية، مثلما فعل المرشحون الستة في أول انتخابات بوتفليقة، بانسحابهم جماعيًا ليلة الاقتراع بعد تأكدهم من أنّ العملية محبوكة ونتائجها معروفة مسبقًا.
نظرة إلى خريطة العالم تثبتُ لنا أنّ المرات الحصرية التي “نجح” فيها التغيير في الأنظمة المستبدة، عن طريق الانتخابات، تمّت أغلبها بمباركة القوى الغربية (على غرار الثورات الملوّنة)، والسبب رغبة هذه القوى تنصيب أنظمة ديموقراطية شكليًا، موالية لها، وهذا النموذج لا يمكن أن يتحقق إلا عندما تتوفّر عناصر محدّدة، منها وجود داخل مؤسسات الجيش المخابرات والأجهزة الحساسة الأخرى، أجنحة موالية لهذه القوى الغربية تنتظر صفارة الانطلاقة؛ وإمكانية حشد الجهود لتسهيل عملية “توافق” على مرشّح ينافس مرشّح السلطة، تجسّده شخصية تتمتع بشعبية كبيرة؛ وتغطية دعائية واسعة، مع تجنيد مختلف التنظيمات الاجتماعية والنقابات والمنظمات الطلابية لإقناع الشعب ودفعهم إلى المشاركة فيها بعد فقدانهم الأمل واليأس من التغيير عبرها. ويرافق هذه العملية برمتها وعبر كافة مراحلها مراقبون يحصلون على الدعم ورعاية هذه القوى الأجنبية، فضلًا عن المراقبين الأجانب؛ وتختتم العملية باستباق الإعلان الرسمي عن النتائج، بإعلانٍ موازٍ، ينشر نسبة المشاركة ونتائج الاقتراع، لقطع الطريق على ما تعتزم السلطة تقديمه من نتائج. في هذه الحالة، يجد رئيس السلطة نفسه أمام خيارين، إمّا الرضوخ وتتم الأمور بسلاسة، أو رفض هذه النتائج، فيُحاصر من قبل المعارضة بتنظيمات جماهرية، مع تنظيم التظاهرات الشعبية للمطالبة بتكريس “الشرعية الانتخابية”، وإذا أصرّ رئيس السلطة على رفض الانصياع، وشرع في قمع المعارضة، يتم التصدي له من قبل الجناح داخل الأمن والجيش والمخابرات الموالي للغرب للإطاحة به.
مثل هذا السناريو تم تنفيذه في الدول التي تسعى القوى الغربية إلى إحداث تغيرات سياسية تناسبها، أو تكون سياسيات هذه البلدان عائقًا لمشاريعها ومصالحها، فتفرض فيها رجالها مثلما حدث في الكثير من دول أوروبا الشرقية سابقًا. أما في الدول الوظيفية، كما هو الحال في معظم الدول العربية، فغالبًا ما تبذل القوى الغربية كل ما تستطيع لفرض حالة الجمود ورفض أيّ تغيير عبر انتخابات حرة، عملًا بالمثل الشائع، شيطانٌ نعرفه (ويخدم مصالحنا) خير من ملَكٍ نجهله، ورأينا (تنفيذًا لهذا المثل) موقف الغرب عمومًا إزاء ثلاث حالات من التغيير عبر الانتخابات، كيف أنّ القوى الغربية في معظمها، وقفت إلى جانب الدكتاتوريات، وفي أحسن الحالات التزمت صمتًا مريبًا، وهي في الجزائر (1991) وفلسطين (انتخابات غزة 2006) ومصر (2011).
الكل يعلم أن القوى الغربية بذهنيتها الاستعمارية والعنصرية، ليست معنية بتاتا بالتحوّل الديمقراطي في الدول الوظيفية (العربية بالأساس) كما أثبتته تجارب الربيع العربي، وتدخلاتها عبر عقود من الزمن كشفت أنها أينما حلّت عمّ الخراب، بما يجعل من “الواجب الوطني” ومسؤولية كل الشرفاء رفض أي تدخل منها في شؤون هذه البلدان، ولا يُعتَد بمن يقول بأن الاستعانة بها ضد المستبد المحلي “أخف الضرر”؛ ومن السذاجة الانتحارية الاعتقاد بأن هناك قوى غربية تدعم تغيير انتخابي للنظام القائم سواء في الجزائر أو غيرها من الدول العربية، لأنها ببساطة لا تكترث بل تناهض أي تغيير لا يخدم مصالحها، وقد شهدنا ذلك عمليا، كيف أن هذا “المجتمع الدولي” الديمقراطي تجاهل حراك الجزائر مدة سنتين، وتغاضى عما تعرض له عناصره من قمع وسجن ومطاردات، لأن هذا المجتمع الديمقراطي الغربي في معظمه أدرك بأن هذا الحراك لا يخدم مصالحهم اللامشروعة.
السؤال المشروع، هل يملك الذين يعتزمون خوض هذا السباق، أدنى ضمانات تجعلهم يشاركون في هذه العملية؟ هل لديهم جهاز وطني موازٍ قوي لمراقبة الانتخابات، وحتى لو توّفر لديهم مثل هذا الجهاز، هل يوجد في الجيش والمخابرات وأجهزة الدولة النافذة من سيردّ لهم حقهم في حالة انتهاكه من قِبل السلطة؟ لا يوجد أيّ مؤشر يدل على أن هناك أيّ إمكانية ليدعم جزءٌ من القوى الفاعلة النافذة أيّ مرشّح خارج “العلبة” صانعة الرؤساء، لسبب بسيط، فهم لا يريدون (ولا يقوون) على ركب مغامرة غير محسومة قد تكلّفهم الكثير، لذا يؤثرون الإبقاء على الوضع، الذي خدمهم حتى الآن وحقّق لهم مآربهم.
وفوق ذلك، لا يمكن التذرع بأنّ الترشّح هو في الواقع خدمة للحراك وتنفيذًا لمطالبه، فهذه الحجة غير مقنعة، لأنّ الحراك وضع أسس للتغيير وأصرّ على أنّ التغيير ليس في استبدال الوجوه بل في تغيير نمط تسيير شؤون البلاد وآليات التناوب السلمي، ولا يمكن لأحد أن ينكر أنّ ولا عنصر من هذه العناصر متوفّرة، لكي يركب مغامرة مثل هذه العمليات والمناورات، فضلًا على أنّ معظم من ظل يرفع هذه المطالب ومصرّ عليها، إمّا في السجن أو مطارد أو تحت رقابة قضائية، بما يبرهن عدم وجود لا الرغبة ولا الإرادة ولا النية في السير على هذا الطريق.
لا أحد ينكر أنّ الجزائر تمرّ بأوقات عصيبة بالنظر إلى الاضطرابات والأزمات المحدقة والمحيطة بنا، لكن هذه الأوضاع العصيبة بدلًا من أن تتخذ ذريعة للالتفاف على حقيقة الأزمة الداخلية وتمرير انتخابات كرنفالية، بحجة حتمية توحيد الصفوف للتصدي لهذه المخاطر، أولى للماسكين بالسلطة، درءًا لهذه المخاطر العمل على استعادة الشرعية الفعلية وثقة الشعب في ممثليه وفي النظام السياسي الذي يحكمه، من خلال حلّ متفق عليه بكل حرية ونزاهة، يشارك فيه كافة الفاعلين السياسيين، بدل الاستمرار في الهروب إلى المجهول بحجج مختلفة، لأن أخطر هذه المخاطر، هو الجمود المرعب السائد وفقدان الأمل في حل حقيقي يعيد الثقة إلى كافة فئات الشعب، لبناء جزائر الجميع.
بقلم د. رشيد زياني شريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد