مقالات

جنوب أفريقيا تنقذ الموقف، تكشف عنصرية قيادات الغرب وتغسل عار قادة العرب

لماذا جنوب أفريقيا تحديدًا؟

لم يكن مفاجئًا أن تكون جنوب أفريقيا هي من ترفع الدعوى أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، بل كان من الطبيعي جدًا والمتوقّع أن تكون هي من يتّخذ مثل هذا الموقف الأخلاقي المسؤول، خاصة بالنظر إلى ما تقوم به آلة القتل الصهيونية من إبادة جماعية متواصلة، سواء من أفعال مادية على أرض الواقع أو من تصريحات عن نيّتهم الصريحة لاجتثاث شعب غزة برمته. أمّا من اعتقد أن تكون دولة عربية، في المشرق أو المغرب، هي من ستتولى رفع قضية ضد الكيان المغتصب، لاسيما تلك التي تاجرت بالقضية الفلسطينية عقودًا من الزمن، فيكون في الواقع قد علّق آماله على أوهام، ولا يعلم شيئًا عن طبيعة نُظم حكمها وكيفية توَلّي ساستها الحكم فيها وتنصيبهم في هذه الدول. لقد كانت جنوب أفريقيا هي الأقرب أخلاقيًا وشرعيةً ومكانةً لرفع الدعوى تماشيًا مع مسارها، وهي الدولة التي لم تكتف بالتصريحات المؤيّدة للقضية الفلسطينية والمُدينة للاحتلال، منذ أمد بعيد. وكانت حتى قبل رفع هذه الدعوى أمام محكمة العدل الدولية قد اتخذت مجموعة من الإجراءات العملية، التي لم تتخذها أيّ دولة عربية أو إسلامية “شقيقة”، ومنها الضغط الدبلوماسي لعدم قبول الكيان الصهيوني ضمن الاتحاد الأفريقي وتشجيع مواطنيها على مقاطعة منتوجات الكيان وسحب الدبلوماسيين من تل أبيب وصوّت برلمانها لغلق مقرّ سفارة الكيان في جنوب أفريقيا وتعليق عمل الدبلوماسيين الإسرائيليين في البلد.

من الجدير التذكير بأنّ شعب جنوب أفريقيا عاش نفس الوضع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ 75 سنة، وتجرّع ويلات نظام الميز العنصري والقمع، لذا لم يكن موقفها مناورة سياسية أو متاجرة أو شعبوية، بل كان موقفًا مبدئيًا يؤكد مواقفها السابقة، الممتدّة عبر عقود من الزمن. وما مكّنها من اتخاذ مثل هذا الموقف، رغم ابتزازات ومضايقات القوى الكبرى، هو أنها دولة ذات سيادة، تستمد شرعيتها من كفاح شعبها ولا تخشى أيّ تهديد من أيّ جهة، فضلًا عن عدم نسيانها أنّ الدول التي كانت من أشدّ داعمي نظام الميز العنصري في جنوب أفريقيا قبل انهياره، هي نفسها الداعمة للكيان المغتصب منذ نشأته وإلى يومنا هذا. وإنّ ما يعزز موقفها ويجعلها أكثر حسمًا وإصرارًا، أنها تشعر بأنها تواصل مقاومتها لهذا النظام المقيت من جديد، دعمًا لضحية أخرى، وكان نيلسون منديلا نفسه عبّر، نيابةً عن شعبه، عن هذا الموقف منذ خروجه من السجن وبعد تبوّئه منصب الرئيس. واتخذت جنوب أفريقيا هذا الموقف بشموخ لأنها لا تخشى الدول الغربية المهيمنة، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، التي جعلت كلّ الدول العربية تنكمش ولا تجرؤ على تحديها، في عملية ابتزاز ومقايضة استمرارها في الحكم مقابل التزامها الموقف الذي تمليه عليها هذه القوى. وليس من المستبعد أن يكون ضمن الأهداف التي جاء من أجلها بلينكن في زيارته الأخيرة إلى المنطقة، تذكير قادة العرب وتحذيرهم من مغبّة أيّ شجاعة غير محسوبة لدعم دعوى جنوب أفريقيا.

إنّ العديد في مواطني جنوب أفريقيا الذين زاروا فلسطين المحتلة، صرّحوا بأنّ ما شاهدوه من تمييز عنصري هناك هو أبشع ممّا عرفوه هم أنفسهم في جنوب أفريقيا، مع إشارتهم إلى فرق جوهري بين نظام الميز العنصري في جنوب أفريقيا، والميز العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو أنّ نظام الميز العنصري في جنوب أفريقيا كان منبوذًا في غالبية دول العالم (باستثناء أمريكا وبريطانيا، وإسرائيل… هل هي صدفة؟)، أمّا نظام الميز العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيحظى بتضامن ودعم أغلبية النظم في الدول الغربية، أوروبا وأمريكا بالأساس، التي تضع الكيان الصهيوني في موضع الضحية الأبدية، المسموح لها بفعل أيّ شيء دون حسيب أو رقيب مثلما تفعله منذ 7 أكتوبر، ممّا يمنح الصهاينة الحصانة التي تجعلهم يشعرون بأنهم فوق القانون فيرتكبون جرائمهم علانية دون خشية تحمّل تبعات أفعالهم بل وهم متأكدون أنّ هناك قوى كبرى تحميهم من أي عقوبة، مثلما تؤكده الصورة المروّعة لمسؤولين صهاينة يصرّحون علانية وبكلّ صلف دعمهم لاجتثاث أهل غزة ومحقهم والدفع بهم إمّا تحت الأرض أو خارجها، ويحذو حذوهم أفراد من جيشهم، يأخذون لأنفسهم صورًا يتباهون فيها بجرائم مروّعة.

استراتيجية قلب الحقائق لم تعد تنطلي على أحد في زمن الإعلام البديل

ولم يكن من باب الصدفة أنّ الدول “المتحضرة” التي تدّعي التزام القانون الدولي وقِيَم العدالة والحقوق، والاعتراض على جرائم الحرب، مثل أمريكا وبريطانيا، هي نفسها التي اتخذت موقفًا معارضًا بل ومشككًا حتى في شرعية رفع الدعوى وفي قانونية ما تتضمنه من وقائع، تناغمًا بين هذه الدول والموقف الصهيوني الذي من شدّة هلع ساسته من تبعات هذه الدعوى فقدوا توازنهم، مثلما تبيّنه ردودهم الهستيرية، محاولة يائسة منهم للطعن في الدعوى، بل واتهام جنوب أفريقيا بكونها الذراع القانوني “للإرهاب الفلسطيني”، مثلما عبّر عنه ألون ليفي الناطق باسم الكيان الصهيوني، الذي قال في تصريح له:

“دولة إسرائيل تدين بشدة قرار جنوب أفريقيا بلعب دور المدافع نيابة عن الشيطان وجعل نفسها متواطئة في الجريمة، مع مرتكب مذبحة 7 أكتوبر.

في 7 أكتوبر، اختارت جنوب أفريقيا الاصطفاف إلى جانب نظام حماس المغتصب للنساء عندما اتهمت إسرائيل، في حين أن حماس هي التي انتهكت وقف إطلاق النار وتسترت (جنوب أفريقيا) على جرائم حماس ضد الإنسانية، وتقوم اليوم بمساعده وتحريض آلية الإبادة الجماعية هذه من خلال توفير غطاء سياسي وقانوني لمذبحة 7 أكتوبر، واستراتيجية حماس في استخدامها الدروع البشرية الجماعية.

لقد جعلت جنوب أفريقيا نفسها متواطئة في الجريمة مع حملة الإبادة الجماعية التي تقوم بها حماس ضد شعبنا، وهي بذلك تتقاسم معها المسؤولية في تمكينها من إلحاق بنا الخسارة المأساوية في الأرواح البشرية، وستمتثل دولة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي لتبديد فرية الدم (التي تزعم بقتل اليهود للأطفال لأغراض طقوسية) السخيفة التي تتهمنا بها جنوب أفريقيا؛ كم هو مأساوي أن أمة قوس قزح التي تفتخر بمحاربة العنصرية سوف تقاتل مجانًا من أجل العنصريين المناهضين لليهود.

وبينما يقوم نظام حماس مغتصب النساء بكل ما في وسعه لتعظيم الخسائر في صفوف المدنيين من خلال استراتيجيته الدنيئة للدروع البشرية، فإن إسرائيل تستخدم تدابير غير مسبوقة في تاريخ الحرب لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين.

لقد أوضحنا قولاً وفعلاً أننا نستهدف وحوش 7 أكتوبر ونبتكر طرقاً لدعم القانون الدولي بما في ذلك مبادئ التناسب والاحتياط والتمييز في سياق معركة مكافحة الإرهاب التي لم يواجهها أي جيش من قبل.”

إنّ الناظر فيما أورده الناطق باسم الكيان يُخَيّل إليه وهو يسمع إلى الجرائم التي يُعَدِّدها، أنه “فلسطيني” يتحدث عما يتعرض له شعب غزة، في تحدٍّ سافر للوقائع على الأرض التي يتابعها العالم أجمع على المباشر، ويشاهد أنّ إسرائيل هي من تقترف يوميًا ومنذ 7 أكتوبر هذه الفظاعات. في الواقع ليس ثمة غرابة ولا جديد في استراتيجية قلب الحقائق، فهذه السردية تمّ استخدامها طويلًا حتى شكّلت الذهنية الجماعية في الغرب وصاغت الرأي العام هناك عبر عقود، لكن العالم لم يعد كما كان، وأكاذيب هذا الكيان أصبحت ليست مكشوفة فحسب، بل عُرضة للسخرية من شدّة سخافتها وغطرستها، إلى درجة جعلت أحد الملاحظين يقول، إذا أردتَ أن تعلم متى يكذب الإسرائيلي، فانظر متى فتح فمه، فهو يكذب.

طيلة عقود من الزمن وخاصة منذ 1948، تاريخ نكبة فلسطين وسرقة أراضيها لإقامة الكيان الصهيوني المغتصب، عمدت آلية الدعاية الغربية والصهيونية، عبر الإعلام والسينما، إلى قلب الحقائق، بحيث تمكّنت من جعل معظم سكان الدول الغربية يتعاطفون ويتضامنون ويدافعون عن الكيان الصهيوني، اعتقادًا منهم أنّ أهله يتعرّضون لبربرية العرب الفلسطينيين، وبيّنت بعض عمليات سبر الآراء أنّ الغربيين عمومًا يعتقدون أنّ العرب (التسمية التي تطلقها آلية الدعاية الصهيونية على الفلسطينيين) هم المعتدون وأنّ اليهود الصهاينة هم الضحايا، وكشفت هذه الاستطلاعات بأنّ الغالبية من المستجوبين يعتقدون أنّ إسرائيل تخضع لاحتلال من قِبَل “العرب” الفلسطينيين وليس العكس. وقد استمرّت هذه الصورة المرسّخة بعناية وإصرار عبر عقود، بفعل الدعاية البارعة في جعل المحتلّ يبدو دائمًا في هيئة الضحية الأبدية، حتى توفّر الإعلام البديل، خاصة منصات التواصل الاجتماعي، التي تحرّرت من قبضة الوسائل الاستعمارية المهيمنة التي دأبت على فرض ونشر ودعم السردية الصهيو-غربية، ومحاربة كلّ صوت يغرّد خارج السرب.

وبعد سقوط احتكار الإعلام للسردية، اكتشف العالم الحقيقة التي دفنتها هذه الوسائل، وأصبح متحررًا من قبضة دكتاتورية المعلومة وقوْلبتها وفق أجندة المؤسسات المالية ومؤسسات صناعات الأسلحة ومخابر صنع القرار الغربية. فاليوم يمكن لكلّ فرد أن يبحث دون وسيط أو وصيّ عن المعلومات التي لا يمكن للمقصّ أن يحجبها عنه، ويشكّل بذلك رؤيته المستقلة، والوصول إلى حقيقة نكبة فلسطين، منذ 48 وإلى غاية الإبادة الجماعية التي تجري على المباشر ويراها العالم بالصوت والصورة، دون أن تستطيع الآلية الصهيو-غربية حجبها عنه، رغم عملها الدؤوب على منع نشر فظائع ما يحدث في أرض الواقع، من خلال منع أيّ صحافي مستقلّ دخول غزة لتغطية حية من قلب مسرح الأحداث، وفي نفس الوقت، قتل كل من تجرّأ من الصحفيين الفلسطينيين المتواجدين في عين المكان، على نشر ما يعيشه الشعب الغزاوي من إبادة جماعية وغيرها من المآسي، مثلما تؤكده عمليات استهداف الصحفيين والمصوّرين والأطقم التي ترافقهم، التي أودت بحياة أكثر من 100 فرد منهم وعشرات من أفراد أسرهم، وبالمقابل إغراق المشهد الإعلامي، بما تريده وتفبركه هذه الآلية من روايات لصحفيين معتمدين من طرفها على ظهر دبابات جيش الاحتلال.

شرفٌ لجنوب أفريقيا أن تجرجر قتلة الأطفال أمام محكمة العدل الدولية

أن تكون جنوب أفريقيا هي التي ترفع دعوى لانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية ضد إسرائيل يحمل كل دلالته لأنّ موقف هذا البلد موقف ملتزم مبدئي لم يتغيّر، ولم تتوقّف جنوب أفريقيا يومًا عن النضال من أجل حق فلسطين ومناصرة قضيتها والوقوف إلى جانب شعبها، ولا ننسى أنّ ما عاشته جنوب أفريقيا من تمييز عنصري وقمع وإبادة، تراه اليوم ينفذ في فلسطين، وكان نيلسون منديلا حتى قبل أن يصير رئيسًا قد سُئِل من طرف صحفي أمريكي لماذا ينخرط انخراطا تامًا في قضية الكفاح الفلسطيني، فكان جواب منديلا أنّ كفاح فلسطين وكفاح أفريقيا الجنوبية كفاح واحد، وقال بشأن نظام الميز العنصري في جنوب أفريقيا وفي فلسطين، أنهما يشكلان القضايا الأخلاقية الرئيسية في زمننا، وقد صرّح فور خروجه من السجن قائلا “حريتنا غير مكتملة من دون حرية الشعب الفلسطيني، والآن أصبحت قضية فلسطين هي الأكثر أخلاقية في زمننا “. ومن جانبه قال القس دسموند توتو “لِم لا أكون منتقدًا شرسًا لدولة تمارس تمييز عنصري مثل الذي عانينا منه نحن في جنوب أفريقيا؟”

وبصرف النظر عمّا سيتمخّض عن محكمة العدل الدولية، سواءً حكمت لصالح المدّعي، جنوب أفريقيا، أو المدّعى عليه، الكيان المغتصب، فإنّ جنوب أفريقيا قد دخلت التاريخ من أشرف وأنبل أبوابه، لأنها وحدها ولأوّل مرّة تجرّ الكيان المغتصب الذي طالما اعتقد أنه مُحَصّن، وبوسعه فعل ما يشاء دون أن يُحاسب، وتجعله يقف أمام المحكمة للرّد على اتهامه بالإبادة الجماعية، والعجيب في الأمر والأخطر، أنّ اتفاقية جريمة الإبادة الجماعية، التي بموجها يمثل الكيان الصهيوني اليوم أمام محكمة العدل الدولية، قد تمّ اعتمادها عقب الحرب العالمية الثانية، في أعقاب ما تعرّض له اليهود من إبادة على يد النازية، وتمّ النص على هذه الاتفاقية من أجل عدم تكرارها، فإذا بالعالم يشهد بذهول، أنّ ضحية إبادة النازية بالأمس، هي اليوم المُتَهَمة بارتكاب إبادة في حق شعب آخر، الفلسطينيين، الذين سرقت منهم أراضيهم وهَجَّرَتهم وتمعن في تقتيلهم على مدى 75 سنة.

خلاصة القول، سواءً ربحت جنوب أفريقيا هذه الدعوى لصالح وقف الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل وإدانة الكيان المغتصب، أو خسرتها، فإنّ دولة ماديبا، بعملها هذا طهرّت العالم من العار الشامل واستعادت ضميره المفقود، ويكفيها بذلك واجبًا وشرفًا.

بقلم د. رشيد زياني شريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد