مقالات

انتخابات 7 سبتمبر، خوف السلطة المرضي من التغيير، وتكرار المكرر

شهدت الفترة الأخيرة، استعدادا لمهرجان انتخابات 7 سبتمبر، حملات قمع واسعة النطاق من اعتقالات ومضايقات وترهيب، لم تستثن حتى أصحاب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، بتهمة تعطيل مؤسسات الدولة ومصالحها. والسؤال المطروح، لماذا تبالغ السلطة في حملات القمع والتشدد في كتم كل الأصوات، رغم “هدوء الساحة” (غياب مسيرات الحراك)، وفتور الأجواء السياسية المعارضة؟ قد يقول قائل إن هذه ممارسات روتينية ومن ثم فلا جديد، لكن إذا صح هذا الجواب في جزء منه، إلا أنه لا يفسر شدة الإطباق المفروض، الذي أصبح يخنق أنفاس أي صوت يغرد خارج سرب السلطة، وجعل الجزائر تعيش جوا من تصحر سياسي غير مسبوق. ومحاولة للجواب على أبعاد هذا شدة هذا القمع، فلا بد من العودة إلى الحالة النفسية التي لا تزال تقض مضجع السلطة منذ فبراير 2019.

لا تزال السلطة تخشى احتمال عودة الحراك وخروج الجماهير إلى الشارع تعبيرا عن رفضهم للوضع السائد المتردي سياسيا واجتماعيا وخاصة في مجال الحريات.

لا تزال السلطة تحارب بكل ما أوتيت من قوة، أي محاولة للتغيير، على شاكلة هبة فبراير 2019، التي تعيد إلى أذهانها تلك المرحلة الحرجة المفصلية التي كادت تعصف بمنظومة الحكم برمته، وأجبرتها على التضحية بأجزاء منها (جزء من العصابة في السجون) لإبقاء جوهر المنظومة، وجعلها تبذل كل ما بوسعها لعدم تكرار المشهد.

وقد يكون السبب التقني للمبالغة في القمع، أن القائمين عليه اليوم، طاقم يقوده أشخاص لا يتقنون سوى القمع والشينيول، على غرار المجرمين، ناصر الجن وجبار مهنة، خلافا لمن سبقهم من طاقم توفيق، الذي كان يحسن إلى حد ما فن المراوغة وتقديم وجه شبه مقبول يسمح بالتعبير ولو تحت المراقبة والمناورة.

تستمر السلطة في قبضتها القمعية، مستفيدة من الوضع الدولي الذي يتيح لها ذلك دون مساءلة، لأن قوى الاستكبار العالمي تناهض كل تغيير شعبي جذري في العالم العربي، خاصة إذا كان سلميا، إدراكا منها أن حكومات منبثقة عن الشعوب ستفقدها سيطرتها على الانظمة الوظيفية القائمة، وهو ما يفسر دعم هذه القوى لكل أنماط الحكم الاستبدادية، أيا كان لونها، طالما أنها تثبت نفوذها ومصالحها، ومن هنا نفهم دعمها الواضح للثورات المضادة، سواء في مصر بمباركتها الانقلاب على أول تجربة ديموقراطية تعددية أتت برئيس مدني منتخب واستقبال رسمي لقائد الانقلاب في عواصمها، ومساهمتها في تعفين الوضع في سوريا لمنع تحول ديمقراطي سلمي سلس، وفي تدجين التجربة في تونس ليتمخض عنها نظام مستبد من عصر آخر، وفي ذات السياق يستفيد النظام في الجزائر هو الآخر، من الوضع الدولي ويشترك مع أقطابه لإبقاء دار لقمان على حالها.

مرشحون معارضون لتزيين كرنفال التجديد، والإفلات من مطب العزوف عن التصويت

إن ما يفزع السلطة هو عزوف شامل عن حضور زردتها، عزوف قد يطعن في العملية برمتها، نظرا لعلم الغالبية العظمى من المواطنين بنتائج هذه المسرحية مسبقا، وعلمهم منذ زمن بعيد أن الانتخابات في البلاد، مجرد إجراء “تقليدي” موجه إلى العالم، لإعطاء صورة ديموقراطية تعددية، وهي منافسة فارغة من أي محتوى سياسي تنافسي. ولتجاوز هذا الهاجس، تم انتقاء مرشحيْن، ينافسان شكليا المرشح المعيّن ليخلف نفسه؛ “منافسان” أحدهما “ديموقراطي” في محاولة بائسة لجلب الصوت الديمقراطي، وهو في نفس الوقت من منطقة القبائل لاستمالة سكان هذه المنطقة التي يخشون مقاطعتها الشاملة التي تفسد عليهم بهجة العرس، ومرشح “إسلامي” لاستمالة هذا التيار، أو على الأقل إعطاء الانطباع بأن كل فئات الوطن ممثلة في هذا السباق، رغم علم الجميع، أن المواطن لا يرى في هاذين “المنتقين” سوى شهود زور في عملية مزيفة. وخشية ألا يكون ذلك كافيا، أقحموا في الساعات الأخيرة وجها آخرا (رغم إقصائه من المسابقة الرسمية)، ممثلا في شخصية “حداثية” معارضة تطالب التصويت “بورقة بيضاء”، وهو بالضبط ما تسعى إليه السلطة، أي ملء مكاتب الاقتراع، وتفادي انكشاف العزوف العام؛

توظيف المخاطر والأعداء الخارجيين (الموجودين فعلا لا خيالا) لدفع المواطن باتجاه ما تريده السلطة، أي المشاركة، بحجة أن ذلك يحمي الجزائر ويحصنها من مخططات الأعداء، باعتبار أن المشاركة في التصويت عمل وطني بل واجب على كل جزائري لحماية بلده، وبذلك يتضح أن نظرة السلطة للأمن القومي والمواطنة وحماية بيضة الجزائر لا تزال قائمة على رؤية بالية عقيمة، تقوم على المعالجة الأمنية الشاملة، ولم تدرك بعد أن هذه المقاربة لا تحمي الأوطان والشعوب، بل تزيد من هشاشة وضعها، لأن مثل هذا الجو يُشعِر المواطن أنه عدو وغريب في وطنه؛ وقد رأينا كيف أن الدول الاستبدادية، سقطت في أيامها الأولى بعد تعرضها لعدو خارجي، وغزو العراق خير مثال على ذلك؛ مثلما أن الانتخابات محسومة النتائج لا تحمي الأوطان، لا من الداخل ولا من الخارج، بل إن وحدة الشعوب وحريتها وإرادتها المعبر عنها بشفافية وحرية، هي الضامن لحماية الوطن من كل المخاطر، فالرئيس والحكومة والنواب المنتخبون حقا، الممثلون فعلا لإرادة وسيادة واختيار الشعوب، هم الضامنون لحماية وبيضة بلدانهم بما يجعلهم في وضع يستطيعون فيه مجابهة المخاطر، من أي جهة كانت.

ماذا يمكن انتظاره بعد 7 سبتمبر؟

لا شيء، لأن الانتخابات في الجزائر، ومنذ استقلال البلد، ليس لها أي معنى أو حقيقة ديمقراطية، ويظل السبب الأوحد والجوهري من تنظيمها هو إعادة إنتاج “النظام القائم” وإكسابه الشرعية الانتخابية (للتسويق الخارجي) وإطالة أمد الوضع القائم المفروض بالحديد والنار وشراء الذمم.

وإذا كان الغرض والمهمة الأساسية من عهدة تبون الأولى، تتمثل في منح السلطة شرعية وقف الحراك، ووضع الإطار القانوني لتنفيذ حملات القمع (منها المادة 87 مكرر)، بما يفسر الحرص والتسريع في تنظيم انتخابات ديسمبر 2019، مهما كلف ذلك، فما هي مهمة “الرئيس” في العهدة الثانية؟ في ظل انسداد الأفق وغياب أي نية انفتاح وتغيير فعلي ولو تدريجيا، ورفض أي تنازل عن الحكم المطلق، لا يبقى أمام أصحاب القرار سوى مواصلة المسار لمنع أي احتمال لعودة الحراك، وسد كل المنافذ التي تخوض في الحديث عن التغيير السلمي الجذري، والتعويض بدلها، إلى جانب القمع، توجيه الجهود والموارد للمعالجة الاجتماعية وشراء السلم بفضل عائدات النفط، والابتعاد عن كل معالجة للوضع سياسيا. والسؤال الذي يطرح بإلحاح من جانب كل من يسأل “ما العمل”؟ ليس هناك حل سحري آني، يضل الأمل معلقا على كاهل الإرادات الصادقة التي لا تزال تؤمن بأن الحراك فكرة تحررية، تقتضي إرادة راسخة، وجهدا متواصلا، وتنظيما محكما، ومشاركة الجميع بمختلف مشاربهم، ليستمر الأمل ممكنا، مثلما شهد الجميع باكورة ثماره طيلة أشهر من حراك فبراير 2019. ومن اعتقد أن الحراك مات، وأن الحديث عنه هو غوص في أحلام اليقظة والتمنيات، فليسأل السلطة رأيها فيه؟

د. رشيد زياني شريف | عضو المجلس الوطني لحركة رشاد