بعد خمس سنوات من الحراك السلمي، الذي كشف حقيقة منظومة الحكم وهشاشته، وبعد عهدة شبهة كاملة لرئيس “الحراك المبارك”، يظل نظام العصابات الفاسدة، التي عاش في ظلها أربعة عقود، راسخا ولم يقض “الرئيس” كما ادعى ووعد، على حكم الدهاليز التي رهنت مصير البلاد. والتعزيزات البوليسية الأخيرة، المنتشرة في الشوارع وكأنها تنذر بأن دار لقمان على حالها، أما إذا أضفنا لها تعيين أحد أمقت المجرمين، مديرا لمطار العاصمة، فنذير الشؤم أعظم وأخطر.
منذ انطلاقة الحراك، قبل خمس سنوات، عبر كافة التراب الوطني، في سلمية أبهرت العالم، كان الخياران الأساسيان المطروحان، خيار استجابة السلطة لمطلب الشعب، من خلال المبادرات العديدة المطروحة، لتحقيق طموحات الشعب المشروعة، تنفيذا تدريجيًا بمشاركة الحكم الفعلي، عبر مسار شفاف يشارك فيه الشعب بكل أطيافه دون إقصاء، وانسحاب كافة أجهزة الأمن والمخابرات من الساحة السياسية، والتزامها بالمهام المخولة لها دستوريًا، أي بالمختصر، تطبيق المادتين، 7 و8، نحو بناء دولة القانون والعدل. أما الخيار الثاني، كان فرض الأجندة المعتادة، أي الإبقاء على المنظومة كما هي بتجديد بعض واجهاتها، من خلال عمليات انتخابية شكلية. هذا الخيار هو للأسف ما تم فرضه على الشعب قهرًا، في ظل حملات قمع وترهيب وتخوين، لكل رافض له، فضيّع على الجزائر فرصة ثمينة لانتقال ديمقراطي سلمي سلس، بعيدًا عن تصفية الحسابات وتنصيب المشانق وصراع العصابات. فرض هذا الخيار الثاني يقدم دليلا إضافيا على أن القيادة العسكرية المحتكرة للسلطة لا تؤمن بالتناوب على السلطة وليست مستعدة لوضع نفسها تحت رقابة مدنيين منتخبين في انتخابات تعددية حرة.
ماذا جرى خلال هذه السنوات الخمس؟ سعت السلطة في بداية الأمر إلى التخلص من الحراك، بالطريقة “الناعمة”، عبر محاولة استمالة بعض رموزه التي برزت في المسيرات، أو كان لها حضورٌ إعلاميٌ، لكن أمام فشل هذه الوسيلة في تحقيق مبتغاها، قامت بالتوازي مع ذلك بتنسيق حملات التشهير والتضليل وشيطنة كل من يستمر في العمل خارج منظومتها، فأطلقت العنان لترسانتها المعتادة، من قمع أمني وقضائي، لجرّ الحراكيين إلى موائد المشاركة في خطة طريق القيادة العسكرية، باسم الحراك. وبعد الترسانة القمعية أمنيًا، انتقلت العصابة إلى مرحلة محاربة الحراك من خلال تقنين الاستبداد، لتفكيك الحراك قضائيـًا، بحيث أصبح ممكنًا بموجب هذا القانون، تصنيف الدعوى إلى انتقال ديمقراطي خارج الدستور الاستبدادي، ضمن “الإرهاب” (قانون العقوبات، المادة 87 مكرر 14)، واعتبار الدعوة إلى استمرار الحراك، تحريضًا مباشرًا على التجمهر غير المسلح (قانون العقوبات، المادة 100)، ويمكن إدراج التنديد بالقمع ضمن تهم المساس بالمصلحة الوطنية (قانون العقوبات، المادة 96)، أو حتى “الأخبار الكاذبة” (قانون العقوبات، المادة 196 مكرر)، في حين يمكن لأي انتقاد لرئيس الجمهورية أو الجيش، أن يُشكل مساسًا بالوحدة الوطنية (قانون العقوبات، المادة 79)، أو حتى ازدراء هيئات نظامية (قانون العقوبات، المادة 144 مكرر و146). كما أن أعمال التضامن مع الحراك والمتظاهرين قد يدخل في إطار المساس بأمن الدولة أو تقويض المصالح الأساسية للجزائر (قانون العقوبات، المادة 95 مكرر)، وفي خضم هذا القمع “الدستوري” و”القانوني”، تعرضت الجمعيات والأحزاب السياسية المنخرطة في الحراك، لتعليق نشاطاتها، بل وحلّها، بسبب إدانتها واستنكارها القمع أو مقاطعة الانتخابات.
اليوم، بعد مضي خمس سنوات وضياع فرصة النجاة، نظرة خاطفة تبيّن لنا أن العكس هو ما حدث، فكل الانتخابات التي جرت “في الإطار المؤسسي الدستوري”، رئاسيات 12 ديسمبر 2019 ومراجعة الدستور في نوفمبر 2021 بحضور أنصار التغيير من الداخل، لم تنجح سوى في تكريس هيمنة منظومة الحكم التي نادى الحراك بإسقاطها ليقينه باستحالة اصلاحها.
الوضع في الجزائر متقلّب، والسياسات المتّبعة من قِبل منظومة الحكم تزيد الوضع كلّ يوم قتامة وانفجارًا. سياسة الهروب أو التهرّب من مواجهة خطورة الوضع وتحمّل المسؤولية لمعالجته بحكمة ونزاهة ووطنية مع التعنّت في تكرار المكرّر، لن يحمي أحدًا، بل سيُهدّد الجميع من مهالك جمّة لا قدر الله.
حريٌ بأن يدرك أصحاب القرار أنّ الهروب من الحقيقة، مهما طال الزمن، سيضعهم أمام المسؤولية والمحاكة، ومن ثمّ عليهم قبل فوات الأوان، الإسراع في تهيئة الوضع لإرساء مصالحة حقيقية بمشاركة جميع الأطراف، تقوم على مناقشة مفتوحة ونزيهة، تبحث عن الحقيقة وتسعى إلى التأسيس لعدالة انتقالية، بدلًا من استنساخ مصالحات ولمّ شمل وغيرها من الحيل، التي ستقذف إلى السطح الملفات المدفونة، ومن الجديرأن يدرك أصحاب القرار أنّ مكافحة الإفلات من العقاب، ليست وسيلة انتقامية بحقّ المجرمين بقدر ما هي ضرورية وحتمية لحماية المجتمع من تكرار تلك الفظاعات.
ولا تزال رشاد تؤمن وتناضل وتسعى إلى حل عبر الانتقال السياسي السلمي السلس الشفاف، وتحقيقًا لهذا الهدف تدعو إلى التفاف الشعب حول أرضية مشتركة لا تقصي أحدًا، بما في ذلك السلطة القائمة، بعيدًا عن الأحكام المسبقة أو التهم المعلّبة أو أيّ ما من شأنه أن يحول دون استماع الجزائريين إلى بعضهم البعض، لبلورة خريطة طريق جامعة شاملة تقوم على المبادئ الثلاثة الآتية:
– الحوار بين فئات الشعب وحتى أقطاب الحكم الفعلي القائم والنقاش يجب أن يكون شفافًا مفتوحًا وليس في الكواليس أو وراء الأبواب المغلقة؛
– ضرورة مشاركة كافة فئات الشعب بمختلف توجهاتها السياسية والأيديولوجية، دون إقصاء طرف، أو هيمنة طرف آخر؛
– يكون البند الأساسي الوحيد، على رأس جدول النقاش، الانتقال السلمي للسلطة، إلى نظام ديموقراطي، يقوم على سيادة الشعب، استنادًا إلى المادتين 7 و8، أي التفسير العملي لمبدأ “الشعب هو مصدر السلطة”.
إنّ مبادئ رشاد ونشاطها المعروف لدى الجميع، وقوانينها الأساسية المنشورة، تفرض عليها وتحتم عليها المواصلة على هذا الطريق، رغم الصعاب والعراقيل والمضايقات، متحملة المسؤولية الكاملة وإدراكا منها بجسامة هذه المسؤولية وحتمية التوّصل إلى حل متبصر واقعي يعيد قاطرة الجزائر على سكتها السليمة الآمنة.