مقالات

يقررون ما بعد غزة على الورق، والشعب ومقاومته يرسخونه على أرض الواقع

تتعدد التصريحات، خاصة من أمريكا وأوروبا، مع ترديدها من بعض التوابع العربية، عن صيغة الحكم ما بعد إنهاء الحرب في غزة، أو ما يطلقون عليه اسم “اليوم التالي” أو “ما بعد حماس” وقد تمّ بالفعل الإعلان عن صيغ مختلفة لتولّي تسيير شؤون “الأهالي”، كنوع من التوكيل بمهام محدودة لخدمة سكان غزة، على أن يكون القطاع منزوع السلاح والسيادة السياسية. أصحاب هذه المقترحات، وتماشيًا مع نزعاتهم العنصرية، لا يرَون في العربي الفلسطيني مواطنًا له إرادة وسيادة ورأي، بل مجرّد كيان تُوفَّر له بعض الاحتياجات ويُعيّن له خادم من الأهالي، يكون وسيطًا بين الشعب وأصحاب القرار الفعليين الذين يحدّدون مصائر الشعوب والدول. ومن بين هذه الصيغ المطروحة نسمع تارة عن توسيع حكم “فيشي” في رام الله، ليشمل هذه المرة غزة، وتارة أخرى عن نوع من الانتداب الدولي، تحت مسميات تضليلية، تديره قوات “حفظ السلام”، أو حكم قبائلي تحت إشراف بعض الدول العربية التي لا تقل عداءً وقمعًا لإرادة الشعب الفلسطيني في مقاومته للاحتلال، على غرار السعودية والإمارات ومصر والأردن (وكُلُها مشاركة في حصار أهل غزة ومتحمسة للقضاء على أيّ شيء اسمه القضية الفلسطينية).

ما الذي يقلق “الوسطاء فاعلي الخير”؟

جميع هذه الخطط تروم في جوهرها إطفاء شعلة المقاومة كليًا، وقبر كل حركة تنشد التحرر من قبضة الاستعمار الأجنبي (مثل فلسطين)، مثلها مثل الخطط المعتمدة من قِبَل هذه القوى لترسيخ نُظُم الاستبداد المحلي (النُظُم العربية الوظيفية). هذه الجهات الغربية يشغلها كثيرًا رؤية نجاح مقاومة تلتحم مع شعبها، وتحقق هدفها، مثل قضية تحرير فلسطين بسواعد أبنائها، وأخذ مصيرها بيدها. وخيبة هذه الجهات تتجلى بوضوح في تلك الشراسة التي تميّز بها إسنادها التام واللامشروط للاحتلال الصهيوني بعد 7 أكتوبر، بدءًا من أمريكا والغرب عمومًا، إلى عواصم بعض الدول العربية (الرياض وأبو ضبي والقاهرة وعمّان).

ثمّة نقطة أخرى جديرة بالاهتمام. لم نسمع عن مقترحات هذه الجهات، إلا بعد تأكدها من فشل القضاء على المقاومة مثلما وعدهم بذلك جيش الصهاينة، وتحطم النمر الورقي عند حصن مقاومة باسلة تؤمن بشرعية وعدالة قضيتها، حيث تحطم كبرياء الكيان الغاصب وانهارت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر وتبخرت الهالة الاستخباراتية والتقنية العالية التي روّج لها لربح المعارك حتى قبل إجرائها (السلاح الرادع). بعد هذا الإخفاق، بدأت تتوالى المقترحات، ليس لوقف الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون ولا لرفع الحصار الذي يقتلهم جوعًا ويقضي عليهم بتفشي الأمراض، بل لإنقاذ الكيان من هزيمة نكراء جعلته يشعر بخطر وجودي ويرى أنّ بيت العنكبوت الذي اعتقد أنه حصن منيع، يتفكك أمام أعينه. هذه الصدمة التي ألمّت بالصهاينة أدخلت الفزع أيضًا في نفوس القوى الاستعمارية الداعمة له، ممّا دفعها إلى التدخّل كعادتها بمزيد من المكر لعلّها تُنقذ قاعدتها المتقدمة من الورطة التي وقعت فيها، لتحقّق لها انتصارًا وفوزًا ماكرًا لم تستطع تحقيقه في الميدان، فتُحوّل صمود وبسالة مقاومة الفلسطينيين إلى هزيمة استراتيجية، بمساعدة السماسرة العرب، كلّ ذلك باسم الواقعية.

لم تخف بعض الدول العربية على لسان مسؤوليها ووسائل إعلامها تحميل مسؤولية ما يتعرّض له الفلسطينيون إلى المقاومة، علمًا أنّ جيوش بعض هذه الدول طالما مُنيت بهزائم نكراء في لحظات خاطفة من قِبَل الكيان الصهيوني، ولم يكن غريبًا أنّ هذه الدول العربية أحرص من الصهاينة أنفسهم على محاربة المقاومة وتشويهها بل وهزيمتها، مثلما كشفت عنه على سبيل المثال نائبة سفير الكيان في مصر (ودينيس روس من قبل)، وأكّده لفظيًا السيسي في شكل نصيحة وحلّ قدمهما للكيان، لمعالجة قضية غزة، بأن يدفع سكانها مؤقتًا نحو صحراء النقب، والانفراد بالمقاومة للإجهاز عليها دون حرج أو انتقاد من العالم، ثم إرجاع السكان إلى القطاع، ليتخلّص من كلّ المشاكل، ثم يحكم الغزاويين كيف يشاء.

محاولة استنساخ بيروت 1982

الصورة أصبحت جلية، فهم يسعون إلى فرض طبخة باسم هدنة إنسانية تُمَهّد لوقف إطلاق النار، تبدو ظاهريًا أنها استجابة للمطلب الفلسطيني وأغلبية الشعوب المناصرة للحق، لكنها سمّ في الدسم، من خلال ربط المقترح أو اشتراطه بتسليم المقاومة سلاحها وخروج حماس من أيّ معادلة في الحكم ما بعد الحرب، بل وخروج قيادتها من غزة. لو كان إقصاء حماس من المعادلة يحلّ فعلا القضية، بحيث يتيح للشعب الفلسطيني استقلاله ودولته كاملة السيادة، لا أعتقد أنّ حماس كانت ستعترض على ذلك، لكن الهدف من هذه الطبخة لا ينطلي على أحد، الأمر ليس أكثر من مخادعة وذرّ الرماد في العيون، يحصل الفلسطينيون بموجبها على كيان هزيل أقرب منه إلى حكومة “فيشي” في رام الله. لا شك أنّ حماس، الناشئة من رحم الشعب، والمكافِحة من أجل تحريره وسيادته، كانت ستقبل بالمقترح إذا كان الهدف الذي تناضل من أجله سيتحقق، قناعة منها أن التنظيم وسيلة لتحقيق الغاية وكانت ستقبل بالتضحية بنفسها حتى وإن كان من حقها النضال السياسي كباقي الفلسطينيين. ومن ثَمّ الإصرار على بقاء حماس والمقاومة هو ضمانٌ لتحقيق الهدف الذي يسعى إليه غالبية الفلسطينيين لوضع حد لـ 75 سنة من الاحتلال، و18 سنة من الحصار القاتل. والشعب الفلسطيني يدرك تمام الإدراك أنّ الحل القائم على إقصاء حماس وخروج قيادتها، خدعة تهدف إلى حرمان الشعب الفلسطيني من الركن الركين الذي سمح له بفرض قضيته ورفعها عالية في أرجاء المعمورة، وأجهض كل المخططات الغربية والعربية التي تعمل على قبرها نهائيًا، وآخرها الاتفاقية الإبراهيمية التي كانت على وشك أن تدفن القضية إلى الأبد.

من بين الطبخات الأخيرة المطروحة لحل القضية الفلسطينية، ما تقدّم به الثنائي الفرنسي السعودي، بحسب جريدة لوموند الفرنسية، ويقضي بنقل القيادات السياسية لحماس ومقاومتها المسلحة إلى… الجزائر، على غرار ما فعلوا مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي، وتشتيت عناصرها في عواصم العالم العربي وتمركز قيادتها في تونس سنة 1982، بما يلبّي ما يطالب به المحتلّ في التخلّص ممّن فجّروا بيته العنكبوتي، وفي الوقت نفسه مساعدة الكيان على غسل يده من الدمار الذي أحدثه وما قام به من قتل وإبادة جماعية، فيكافأ بفرض هزيمة على المقاومة، في صورة مخرج “واقعي”. ثمّة سؤال يُطرح، هل كانت السلطات في الجزائر على علم بالمقترح مسبقًا قبل الإعلان عنه، وهل أعطت مباركتها له؟ في حالة علم وموافقة السلطات بهذا الحلّ الخبيث، تكون السلطة في الجزائر متورّطة في الجريمة بحق القضية الفلسطينية، حتى وإن سوّقت لمشاركتها في المقترح (باعتبارها قبلة الثوار)، فهي تستقبل قيادات حماس خدمة للقضية. إنّ استقبال الجزائر للمقاومين المُفترض، إن حدت، ووافقت عليه السلطة، لن يكون ذلك خدمة ومساندة للقضية، بل هو دعم للاحتلال على شاكلة مساندة سلطة رام الله ومدّها بمئات الملايين من الدولارات التي تُدفع لعناصر الأمن والمخابرات لقهر واضطهاد وسجن رجال المقاومة.

وفوق ذلك كيف يُعقل أن يكافأ الاحتلال الذي فشل في تحقيق هدفه القاضي بالإبادة الجماعية والتهجير، مستخدمًا السلاح الفتاك، فيُمنح عن طريق الصفقات الماكرة ما عجز عن تحقيقه بالقوة، ويُعطَى هدية بالمجان تتمثل في إقصاء الطرف الوحيد الذي كشف أنه ليس ذلك الجيش الذي لا يُقهر والاستخبارات التي لا تخفى عنها شاردة ولا واردة، ويتمّ تخليصه من الذي أشعره لأول مرة منذ تأسيس كيانه أنه جسم غريب لا يمكنه البقاء في بيئة لا ينتمي إليها. وهل كانت القضية الفلسطينية أصلًا تعود إلى الساحة بذلك الزخم ويسمع بها العالم لولا المقاومة؟ وهل ستبقى القضية من الأساس، إذا تخلّى الشعب عن مقاومته؟

لا بد من الإشارة في الأخير إلى أنّ أيّ دولة، عربية كانت أو غيرها، تشارك في هذه الطبخة، مهما كانت مبرّراتها، ومزاعمها “الإنسانية”، أو تحت يافطة مناصرة الشعب الفلسطيني وقضيته، فمشاركتهم في فرض خيارات خارجة عن إرادة الفلسطينيين وضد مصالحهم، مثل ممارسة الضغط عليهم لخروج حماس والمقاومة عمومًا، فمشاركة هؤلاء لا تقلّ جرمًا وتواطؤًا عن جرائم كلّ من يمدّ الكيان بالقنابل والطائرات وشتى وسائل الفتك بالشعب الفلسطيني في غزة.

بقلم د. رشيد زياني شريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد