مقالات

تمويل الأونروا أولى من تمويل مليشيات دايتون في رام الله

صرّحت مديرة الاتصالات بوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أن “تعليق 9 دول (أمريكا وبريطانيا وألمانيا وأستراليا وكندا وإيطاليا وفنلندا وسويسرا واليابان) تمويلها للوكالة في خضم الحرب وتزايد الاحتياجات الإنسانية لسكان غزة وصمة عار على جبين الإنسانية”.

موقف هذه الدول جاء على إثر التهمة التي وجهتها مخابرات إسرائيل من أنّ بعض أفراد الوكالة الأممية للاجئين (12 حسب رواية الكيان المحتل) شاركوا في هجوم 7 أكتوبر 2023. والسؤال، هل هذه التهمة بحق الوكالة أمر جديد؟ أبدًا، موقف الكيان من الوكالة معروف بالنظر إلى ما تقدمه من خدمة للاجئين الفلسطينيين، وعنايتها بهم إنسانيًا بما يعرقل مشروع إسرائيل الكبرى. تجدر الإشارة إلى أن هذه التهمة “مرسخة” منذ سنين، بالنظر إلى موقف الكيان من الأمم المتحدة عمومًا ووكالة الأونروا على وجه التحديد، والدليل على ذلك، دعوة نوجا أربيل، مسؤولة إسرائيلية سابقة، إلى تدمير الأونروا أثناء جلسة في البرلمان الإسرائيلي، يوم 4 يناير، قالت فيها “سيكون من المستحيل كسب الحرب إذا لم ندمر الأونروا، ويجب أن يبدأ هذا التدمير على الفور”.

أما موقف العواصم الغربية الـ 12، فلم يكن مفاجئًا بتاتًا، وقد اتضح ذلك في تعتيمها المنهجي، إعلاميًا وسياسيًا، على الدعوى المقدَمة من قِبَل جنوب أفريقيا حول خطر الإبادة الجماعية، وبالمقابل تغطيتها الشاملة والمركزة (في تصريحات المسؤولين أو افتتاحيات كبريات صحفها وقنواتها) في ترويج التهمة إلى الأونروا، في عملية التغطية على قرار محكمة العدل الدولية وتبريرًا لمزيد من التجويع للفلسطينيين، بتهمة مفبركة تستند حصريًا إلى سردية الكيان، مثل استنادها إلى كل ما يروّجه الكيان حول وكالات الأمم المتحدة، واعتبارها “واجهات للمنظمة الإرهابية حماس”.

تشنّ مخابرات الكيان منذ عقود من الزمان، بالتنسيق مع مؤسسات صهيونية “بحثية”، حملاتها الدعائية، تقوم على تقارير تُعِدها مجموعة من هذه المؤسسات، ضد الوكالة وأنشطتها المختلفة. وكان أحد هذه المراكز الصهيونية Impact-se (معهد رصد السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي) “المتخصصة” في متابعة محتويات الكتب المدرسية في العديد من البلدان، وخاصة العربية، سبق وأن نشرت تقريرًا تحريضيًا بعنوان “التعليم في الأونروا: الكتب المدرسية والإرهاب” تدّعي فيه أنّ مدارس “الأونروا” تحوّلت الى مراكز لبثّ “الإرهاب” بدلًا عن محاربته.

وللتذكير، فقد استهدفت إسرائيل الأونروا منذ تأسيسها عام 1949 كهيئة تابعة للأمم المتحدة لأسباب إنسانية خاصة باللاجئين، وطيلة 75 عامًا كرّست إسرائيل مجهوداتها لغلق ملف اللاجئين إلى الأبد، لأنهم “لا يمكنهم العودة، ومن ثمّ لا داعي لإبقائهم في مخيّمات اللاجئين، وأنه يجب توطينهم في بلدان أخرى”.

من أهم أسباب عداء إسرائيل للوكالة:

– مدارس الأونروا تُعَلم الأطفال أنهم فلسطينيون ولهم حقوق كغيرهم من الناس، وهو ما تعتبره السردية الصهيونية تحريضًا ضد الرواية الرسمية التي قام عليها الكيان “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”؛

– الأونروا من خلال مساعدتها للاجئين تعرقل عملية تصفية القضية الفلسطينية التي يحاول نظام الفصل العنصري الاستعماري تنفيذها منذ 75 عامًا؛

– تصفية قضية اللاجئين تشكّل جوهر الهدف وراء اتهام الوكالة ومن ثمّ تحريض الدول الغربية الحليفة لها، لممارسة كافة أصناف الضغط، ومنها توقيف التمويل فضلًا عن تشويه سمعتها ونشر الأكاذيب بشأنها وشأن العاملين فيها؛

– ومن الأسباب وراء ذلك أيضًا أن محكمة العدل الدولية جعلت الكيان لأول مرة يقف كمتّهم وليس كضحية فريدة استثنائية للإبادة، وقد أصدرت قرارها بضرورة اتخاذ إجراءات فورية احترازية لوقف المجازر وإيصال المساعدات، بناءً، جزئيًا، على تقارير وكالة الأونروا؛

– وقد يكون الهدف من هذه التهمة والموقف المنسق من الدول الغربية، تلطيخ سمعة الأونروا والمساس بحيادها، بل واتهماها بالتواطؤ مع حماس، بغية نسف مصداقية التقارير التي قدّمتها إلى محكمة العدل الدولية، إلى جانب استباق التقرير المطلوب من إسرائيل في غضون شهر حول ما قامت به تنفيذًا لتوصياتها بشأن الأعمال التي تدخل في إطار مخاطر الإبادة الجماعية.

إنّ توقيت هذه التهمة للأونروا جاء مباشرًا وفوريًا ردًا على قرار محكمة العدل الدولية، مع تبنيه من قِبَل الدول الحليفة، دون أدنى مساءلة أو محاولة التحقق من هذه التهمة، فقامت بدل ذلك بسرعة البرق بمعاقبة الفلسطينيين من خلال وقف تمويل الوكالة برمتها، ولم تر هذه الدول جرائم إسرائيل بحق الوكالة وأفرادها الذين قُتل منهم أكثر من 150، ومدارسها وملاجئها التي هُدِّمت، في وقت كان العالم ينتظر أن تمارس هذه الدول الضغط على الدولة المتهمة بارتكاب الإبادة وحثها على السماح بعبور المزيد من المساعدات، وحتى إذا افترضنا أنّ التهمة صحيحة، هل تُعاقب الوكالة التي تُقدّم المساعدة لشعب يقتل في مثل هذه الظروف، فقط لأنّ نسبة المفترض اتهامهم، لا تساوي 0،04 في المائة من عدد الموظفين فيها؟ بدل توسيع حجم المساعدات والضغط لوقف التقتيل والتجويع والتهجير، تقرّر هذه الدول، تجفيف منابع الوكالة الأممية الرئيسية التي تسدّ رمق شعب يتضور من الجوع وتمنح لهم مأوى يعوّض بيتوهم المدمرة بنسبة 70 في المائة.

موقف هذه الدول يشكل في الواقع نوعًا من الانتقام من دولة جنوب أفريقيا التي “تجرأت” على رفع قضية إبادة ضد حليفتها واتهام هذه لدول ضمنيًا بالمشاركة في هذه الإبادة، وهو أيضًا انتقام من منظمة الأمم المتحدة التي يرون فيها منظمة يتبنّى معظم أعضائها موقفًا مناهضًا لنظام الميز العنصري الصهيوني، ولا ننسى أنّ ممثّل الكيان في الأمم المتحدة قد طالب من الأمين العام للأمم المتحدة الحالي بالاستقالة فقط لدعمه موقف وقف إطلاق النار ووصف ما يحدث في غزة من مجازر بأنه غير مقبول.

وليس من باب الصدفة أن جلّ هذه الدول كانت إلى جانب نظام الميز العنصري قبل سقوطه ومن أشد داعميه، وعدوة للمؤتمر الوطني الأفريقي الذي كانوا يصفونه بالإرهابي، مثلما هي اليوم داعمة لنظام الميز العنصري في الكيان، ومناهضة لمقاومة الشعب الفلسطيني واتهامه بالإرهاب. وكأنّ رسالة تعليق تمويل الأونروا تقول “تريدون من قرار محكمة العدل الدولية ليّ ذراع حليفتنا، فنحن سنمعن في إرغام الفلسطينيين على قبول من نطرحه من حلول، وتخييرهم بين جحيم الموت والتهجير، أو الموت جوعًا ومرضًا”.

أساس العداء للأونروا، يجد تفسيره في أن الوكالة تعمل على عكس أجندا وأهداف الكيان؛ ففي الوقت الذي تعمد فيه إسرائيل على “تقليل الشعب الفلسطيني” (thinning) بشتى الطرق، تمهيدًا للقضاء عليه ماديًا ومحو ذاكرته، تقوم الأونروا على إبقاء الشعب الفلسطيني حيًا وقضيته مرفوعة، بما يُعتبر أكبر جريمة لا يغفرها الكيان للوكالة. ويكفي من “عظم جريمة هذه الوكالة” أنّ اسمها يرتبط ارتباطًا وثيقًا باللاجئين، ويذكر بأنهم مُهَجَّرون من ديارهم، ويوجدون مؤقتًا في هذه الملاجئ في انتظار عودتهم إلى مدنهم وقُراهم، أي أنّ الوكالة تجسّد كلّ العناصر التي تنسف السردية الصهيونية وتقضّ مضجعها.

فلسطين مظلومة، فهل أنتم مناصروها حقًا؟

في ضوء هذه المواقف العدائية البيّنة للشعب الفلسطيني وقتلًا لقضيته، على الدول التي تزعم دعم فلسطين ومناصرة الحق الفلسطيني، إقران الفعل بالقول، وبدل دعم ميلشية رام اله التي أنشئت تحت قيادة الجنرال دايتون، لحماية الاستيطان والكيان، وبتمويل عربي غربي وتسليح وتدريب أمريكي، أولى بكلّ محبّ ومناصر للحق الفلسطيني أن يبرهن على ذلك حقًا وفورًا من خلال زيادة تمويل الأونروا، خاصة بعد عمليات الابتزاز الغربية، ومقايضة الشعب الفلسطيني ليتخلى عن حقه المشروع ويقبل عيش الهوام، حريّ بهذه الدول والجهات، أن تُعوّض الخصاص وتملأ الفراغ، الفرصة أمامهم للبرهنة على نواياهم، ولو من باب اعتبار ذلك مساعدات إنسانية لشعب يموت جوعًا ومرضًا، أي مساعدات إنسانية كالتي تمنح لشعب أصيب بكارثة إنسانية، مثل زلزال أو فيضانات، ألا يستحق الشعب الفلسطيني مدّ اليد لإغاثتهم؟

المقال الأسبوعي بقلم د. رشيد زياني شريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد