مقالات

الحلقة المفقودة بين توفّر عناصر التغيير، واستمرار الوضع القائم

يتميّز المشهد الجزائري بوضع يكاد لا يجد له نظيرًا في الوطن العربي أو العجمي، نجد من جهة، شبه إجماع لدى فئات عريضة من الشعب على أن النظام الحاكم مستنفد نظرًا لفساده واستبداده ولا شرعيته، يستحيل معه أي علاج من داخل أجهزته، يستلزم تغييرًا شاملًا عاجلًا، ومن جهة ثانية، معارضة تروم ذلك التغيير الفعلي، لكنها تعجز عن الجلوس حول طاولة لرسم خارطة طريق، وتوافق محوره المبادئ الأساسية، لإقامة دولة القانون والعدل التي يطالبون بها جميعًا. من نافلة القول إنني عندما أتحدث عن المعارضة، لا أقصد تلك الدكاكين التي تشكلت على عين وسهر هياكل هذا النظام لأغراض معروفة. والسؤال المُلِحّ يظل مطروحًا، لماذا رغم توفّر كل عناصر التغيير، وأدواته، لا زلنا نراوح مكاننا ونخوض حروبًا جانبية منهكة، تبعدنا كل يوم عن الهدف، وفي نفس الوقت تسهم في استمرار السلطة القائمة؟ سؤال مؤرق على كل لسان، دون أن يجد له تفسيرًا مقنعًا.

هذا الوضع مكّن النظام من تحقيق مبتغاه، والمقصود بمبتغى النظام، هو بقاؤه مستحكمًا، أي تحقيقه الشيء الوحيد والجوهري بالنسبة له، كما تجدر الإشارة أن هذا النجاح لا يعود لعبقرية السلطة بقدر ما يعود لتشرذم أنصار التغيير، وفشلهم في ترتيب أولوياتهم، التي يُفترض أن يكون على رأسها، التفاهم على آليات بناء دولة القانون التي يطالبون بها. لم يعد سرًا أو شيئًا متنازعًا عليه، أن مع مرور الأيام، تتفاقم أزمات البلاد، نتيجة افتقار السلطة إلى أي رؤية استراتيجية لإدارة الحكم، ما عدا المناورة وربح والوقت. هذا الوضع المتأزم رسخ في أذهان شريحة واسعة من المواطنين، نوعًا من فقدان الثقة في كل الأطراف والاستقالة، ممّا سهّل من بروباغندا السلطة التي ترسم لنفسها صورة الحصن المنيع الذي يقف في وجه بعبع الإرهاب والفتنة واليد الخارجية، وتوحي بأن ذهابها معناه الفوضى والاقتتال، مستغلة في ذلك، جراح الشعب الجزائري التي لم تندمل بعدُ، لصدّ كل المطالب المشروعة، من حرية وحق المشاركة السياسية، والزجّ بأصحابها في غياهب السجون، بدعوى “تهديد الاستقرار” و”زرع الفتنة” و”التخابر مع الخارج” وغيرها من التهم السياسية، التي كيّفتها بموجب مواد خاصة صاغتها لهذا الغرض.

استطاعت السلطة، من خلال توظيف معارضتها الوظيفية، وتدجين أخرى، ودق أسفين بين ما تبقى منها، على شيطنة الجميع وضرب مصداقيتها، مع زرع بذور الإحباط والتيئيس من كل إمكانية للتغيير. هذا الواقع يؤكده ما نسمعه من شرائح عريضة من المجتمع، يقول الكثير منهم بصراحة وصدق، أن الوضع مزرٍ بالفعل، لكنهم يخشون بدله وضعًا أكثر خطورة، ولهذا السبب يرفضون “المجازفة”، وتفسيرهم لذلك، أن فساد وفشل واستبداد يعرفونه، خير من وافدين قد يدفعون معهم ثمنًا باهظًا، بل وليس من المستبعد أن يوظفونهم ليفعلوا بهم لاحقًا ما يفعله بهم هذا النظام أو ربما أكثر، في إحالة إلى النموذج المصري أو التونسي أو حتى الليبي والسوري.

أين المخرج يسأل المواطن؟

هل هو الرضا بالوضع القائم و”إيثار السلامة” أم الاستجابة لنداء التغيير، الذي لن يأتي بسهولة ويتطلّب تفكيرًا وتفاهمًا وتوافقًا، بين الأطراف المطالبة به؟

بادئ ذي بدء، يجب ألا ننسى أن الحراك كان منبع أمل كبير هز أركان العصابة وكاد يسقطها برمتها، ولا زال يشكل رأس مال من الجريمة التفريط فيه، حتى في أضعف لحظاته، خاصة وأنه تميّز بصفات لم يسبق لهذه العصابة أن شهدت مثلها، كونه حركة جماهرية سلمية لا يتحكم فيها شخص أو حزب أو تنظيم أو جهة بعينها، يمكن استمالتها أو احتواؤها أو تدجينها، مما جعلها في مأمن من التوظيف من أي جهة كانت، “إسلامية” أو “علمانية”، ولا حتى من قِبَل السلطة القائمة، مثلما تؤكده كل محاولات الالتفاف أو السطو العديدة. هذه الحركية، تطوّرت مع مرور الأسابيع، وبلغت درجة من الوعي، مكنتها من إدراك طبيعة منظومة الحكم القائم منذ استقلال البلاد من جهة، واستيعاب آليات التغيير الواجب استعمالها.

وردًا على من يسأل ما هو الحل وأين المخرج؟ الجواب ليس سهلا، ولا أعتقد أن هناك وصفة سحرية، نظرًا لضخامة المهمة، وحجم التوجّس وفقدان الثقة بين المواطن والطبقة السياسية. التجربة أثبتت أن السير على طريق التغيير الشامل أمرٌ شاق لكنه غير مستحيل، ومن سار على الدرب وصل ولو بعد حين.

التجربة بيّنت أيضًا أن طريق التغيير، لا يمكن أن يظل حبيس الأنماط الكلاسيكية المعهودة المتمثلة في أحزاب يعرف القاسي والداني أنها لا تستطيع الوفاء بعهدها حتى وإن صدقت، بالمقابل يمكن تصوّر البديل في انتهاج طرق مغايرة مبتكرة، من قبيل التنظيم في إطار حركات عُمالية واجتماعية وحقوقية وطُلابية وغيرها، تعزز صفوفها الشخصيات النزيهة التي لم تتلطخ ولم تستطع هذه السلطة شراءها وتوظيفها أو كسر شوكتها.

لإعادة الثقة وعودة المواطن إلى ساحة النضال والأمل، لا مناص من تنظيم الصفوف، وتفادي التشرذم، على أي أساس كان، لأن التنظيم حتى لو جَرّمَته السلطة ولاحقت أصحابه، أصبح شرطًا أساسيًا للعمل، ولم يعُدْ من الكماليات أو ترف النظريات، بل يشكّل حجر الزاوية في كل مشروع فعال، وأكبر دليل على ذلك، المساعي الحثيثة من جهات شتى على كسر الحراك من خلال تشتيت صفوفه، ومنع (التجريم بالقانون) تنسيق الجهود. وخير مثال على ضرورية التنظيم والتنسيق ووحدة الصف، ثورات الشعب الجزائري، التي سبقت ثورة نوفمبر 1954، كثورات الأمير عبد القادر والشيخ الحداد وبوعمامة وغيرهم، رغم جهادهم وبسالة مقاومتهم تمّت محاصرتهم والقضاء عليهم لاحقًا، بعد احتوائهم جغرافيًا من قِبل القوى الاستعمارية، والشيء مثله تكرّره السلطة اليوم في تعاملها مع الحراك الحقوقي والنقابي ومع عائلات المختطفين، وغيرهم من الجماعات النضالية، من كل الاتجاهات، حتى لا تتوحّد صفوفهم في مطالب جامعة مانعة، لوضع حد لسبب مآسي الجميع.

حتى إذا تأخّر واعترته العقبات والحيل، يظل التغيير سنّة كونية، ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من السنن، ولن يحدث من تلقاء نفسه، وأول شيء يتطلب البحث فيه، هو العثور على الحلقة المفقودة، التي تسمح بالربط بين توفّر عناصر التغيير، وتجسيد الغاية المراد تحقيقها.

أهمّ عنصر في هذا البحث، على النُخب، بمختلف مشاربها، أن تدرك أولوية الاتفاق، الذي يقتضي بدل محاولة رسم صورة المجتمع وتحديد معالمه وفرضها عليه (ومن ثم خطر نسف الإجماع قبل الاجتماع)، السعي إلى إرساء دعائم الدولة التي توفّر الحرية وتسمح بالنقاش الهادئ، الذي يُمَكّن الجميع من التعبير بحرية عن رأيه وخياره، حول المجتمع الذي يريد، دون إكراه من أي جهة كانت. فلا ننسَ أن أصل معارضة السلطة القائمة، هو ما تمارسه من قمع وحرمان الشعب من ممارسة هذا الحق، ومنع المواطنين على مرّ عقود من الزمن من سبل الاجتماع للتحدث مع بعضهم البعض، واستعمالها كل الحيل لاستعداء بعضهم البعض، لتكون الفاعل الوحيد المُخَوّل للحديث والتصرّف باسم الجميع.

تحقيقًا لهذا الغرض، يمكن ذكر بعض بنود أرضية الحدّ الأدنى (القابلة للنقش والإثراء) التي يمكن أن توصل الأطراف إلى هذا التوافق:

– الإيمان بالتغيير الجذري، وعدم الانخراط والمشاركة في المهرجانات السياسية التي ينظمها النظام غير الشرعي ويفرضها على الأطراف، وهو من يحدد مخرجاتها؛

– الالتزام باللاعنف كمبدأ واستراتيجية ثابتة وكوسيلة في عملية إحداث التغيير، مع عدم السماح لأي طرف بفرض الأفكار، أو الأشخاص، أو الوصول و/ أو البقاء في الحكم بالقوة والإكراه؛

– عدم الإقصاء ورفض الوصاية على الشعب، والعمل على إيجاد جوّ من التسامح والتعايش في احترام بين مكوّنات الشعب؛

– احترام السيادة الشعبية كمصدر للشرعية، فلا شرعية إلا الشرعية الشعبية في إطار ديمقراطي واضح؛

– الالتزام الصارم بالوحدة الوطنية والترابية، ووحدة الجيش الوطني الشعب، ورفض الدعوات الطائفية والعنصرية والجهوية واللغوية والعروشية؛

– رفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية مهما كانت الأسباب والمبررات ورفض الهيمنة الأجنبية على مقدرات البلاد والعمل على تحقيق استقلال القرار الوطني وإنهاء النفوذ الأجنبي في المنطقة وعدم الاستقواء بالخارج أو الاستعانة بالقوى الأجنبية على مكونات المجموعة الوطنية.

د. رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد