مقالات

مصارع الإيديولوجية على مطاحن الإستبداد

اختطاف ذوي المتابعين

مَن اطمأن للاستبداد وتآلف معه، يوم كان ضحاياه غيره، قد يُطحن بدوره، ولن يجد من يتضامن معه

الجيوش وأجهزة الأمن مهمتها حماية الشعوب والأوطان؛ والمخابرات، أجهزة فائقة الحساسية، عملها استباقي، تُكْمل عملية الحماية، ولا يمكن إقامة دول محترمة محمية الجانب، من دون مثل هذه الأجهزة، فلا يعقل إذن أن تناصب الشعوب العداء لدعائم حمايتها، لكن عندما تنحرف العُصب المتحكمة في هذه الأجهزة وتستغل مقدراتها، لتكريس هيمنتها ضد الشعوب، يتغير الأمر. في هذه الحالة، يكون اعتراض الشعوب عليها لا يعني استعداءها للأجهزة بصفتها تلك، بل يعني استنكارها ومعارضتها للاستبداد المُمَارس من طرف هؤلاء، كذلك هو الأمر بالنسبة لمعارضة الدكتاتورية التي تشكل المرض العضال الذي يقوّض أركان دولة الحق والقانون التي تسعى إلى إقامتها الشعوب. إن مثل هذه الانحرافات الجسام، في تحوير مهام هذه الأجهزة وتوظيفها من قِبل عصب بداخلها، قد كلّف الشعوب، خاصة في الوطن العربي، ثمنًا باهظًا ومآسٍ تدمي القلوب.

تجاربنا مع هذه المآسي أكثر من أن تُحصى، ويكفينا ذكر بعضها في جوارنا القريب، جغرافيًا وزمنيًا، لاستخلاص الدروس وعدم ارتكاب نفس الأخطاء. الدرس المستخلَص عبر الأمصار والأزمان، أن الدكتاتورية لا يمكن مناقشتها ولا إصلاحها، إنها نزعة تسلطية دفينة لا تقبل مَن يعارضها أو ينافسها، لأنها تملك القوة ومقدرات الشعوب، واحتكارها السلاح الذي يغريها ويجعلها تنظر إلى الغير ككائنات دون بشرية. إنّ الاختلاف الفكري والأيديولوجي، مهما كان حادًا وعميقًا بين الأطراف، يمكن معالجته سلميًا ومناقشته في ظل الاحترام وتبادل الأفكار، للتوصّل ضمن آليات متفق عليها، إلى أرضية مشتركة بين كافة الأطراف، تسمح لكل الجهات والتوجّهات بالتعبير عن نفسها دون خوف أو إقصاء أو احتكار لوسائل الدولة، لقهر غيرها وفرض رأيها، ولهذا السبب تحديدًا تعمل كل الدكتاتوريات، على منع اجتماع فئات الشعب والتحدث إلى بعضهم البعض مباشرة، دون وسطاء، وتفرض نفسها على الجميع، كعنوان أوحد، لا بديل له.

يجدر بنا في هذا الباب، التذكير ببعض النماذج القريبة منا، أولها التجربة المصرية، وانقلاب السيسي على شرعية ثورة الشعب المصري 2011 على منظومة مبارك، ورأينا تعامل السيسي، بعد أن أحكم قبضته على البلاد، كيف تصرّف مع مَن ناصروه بالأمس ووقفوا إلى جانبه وبرّروا جرائمه في حق فئات عريضة من الشعب. هؤلاء الذين دعموه وسكتوا عن جرائمه، فقط لأن الضحايا كانوا خصومًا سياسيين، أو فكريين، فاعتبروا أن قمعهم والقضاء عليهم، ضرورة وجودية لإنقاذ مصر، لكن لم يدم الحال، حتى أصبح هؤلاء الداعمون للسيسي، بين سجين ومطارد ومعذب، ومُهَجّر، بل ومغتال. أين البرادعي؟ أين الجنرال شفيق؟ أين المساندون من العلمانيين والليبراليين وحتى بعض السلفيين؟ كلهم شملهم استبداد السيسي، الذي أذاقهم من نفس الكأس، فقط لأنهم عبّروا في لحظة ما، عن اعتراضهم، بعد أن استفحل التعسّف والفساد، لكن استفاقتهم جاءت بعد فوات الأوان، وأدركوا أن الاستبداد لم يكن محصورًا ضد الإسلاميين، ومن طبعه أنه يشمل كل من يعارضه، مهما كان توجّهه؛ والشيء مثله في تونس، فبعد انقلاب قيس السعيد على شرعية ثورة البوعزيزي، وحلّ المجالس المنتخبة، انفرد فرعون تونس الجديد، بكافة السلطات، بل تجاوز استبداد أستاذه الذي علّمه السحر بن علي، الذي شكل نقطة انطلاقة انتفاضات الربيع العربي، فتحوّل قيس سعيد، إلى مالك ملوك جمهوري، وأصبح معظم مسانديه من أحزاب وجمعيات وشخصيات ونقابات، في مرمى حجر الرئيس المستبد، الذي أصبح لا يطيق أدنى اعتراض، همسًا أو تصريحًا، من أيّ جهة كانت.

لا يمكننا الحديث عن تجربتي مصر وتونس، دون الحديث عما جرى عندنا في الجزائر، فقبل ثلاثة عقود من الزمن، شهدنا فئات عريضة من “المعارضين والمثقفين والصحفيين ورجال المال”، يباركون دبابات انقلاب اليناريين ويهللون لقمع الخصوم، ويباركون الانقلاب الذي “أنقذهم من الظلامية والبربرية”، الكثير منهم تَفَهّم (ومنهم من بارك بحماسة) ما اقترفه الانقلاب من جرائم جسام بحق الآلاف، دائمًا بحجة ضرورة “انقاذ الجمهورية”، ولم يكتفوا بتبرير قمع الضحايا، بل برروا حتى انتقال الظلم إلى ذوي الضحايا، فسمعنا من مناصري “إنقاذ الجمهورية” مثلًا من يعتبر أن ذوي المختطفين إرهابيون، مثلما جاء في منشور أحدهم “الفكر الإرهابي يختفي وراء عائلات المختفين”، وأنهم  هم أيضًا يستحقّون ما يتعرّضون له من ظلم وقهر وإذلال، مثلهم مثل أبنائهم وأزواجهم. لكن مع مرور السنوات، واكتشاف حجم التضليل وحقيقة الانقلاب والانقلابيين، سقطت ورقة التوت عن “منقذي الجمهورية” وتبيّن أن قهر الاستبداد لا يتوقّف عند أيديولوجية ولا توجّه سياسي بعينه، وإنما يسحق كل من يعترض عليه، مثلما أكدته عمليات التعذيب والسجن والاختطاف، ضد جميع فئات الشعب بعد حراك 22 فبراير 2019، حيث لم تستثن علمانيًا ولا ليبراليًا ولا إسلاميًا ولا قوميًا لا عروبيًا ولا أمازيغيًا، لا شماليًا ولا جنوبيًا، الجميع تجرّع كأس العلقم. نشير هنا على سبيل المثال إلى اعتقال الصحافيين بمختلف مشاربهم، ومن ضمنهم، إحسان القاضي (نخصه بالذكر نظرًا لما حظي به من تغطية إعلامية)، وتشميع مقرّ عمله واعتقاله ليلًا، لا لجريمة ارتكبها سوى حرصه على ممارسة حقه كصحافي، ثم وجاء اختطاف والدة وأخت أميرة بوراوي الهاربة نحو فرنسا (وهي التي كانت تبرّر مثل تلك التصرفات من النظام، وتمجدّها في كثير من الأحيان)، ليتأكّد أمام الجميع أن نفس النظام الذي اختطف أكثر 20 ألف مواطن، والعشرات من ذويهم، هو نفسه الذي تصرّف مع أفراد أسرة بوراوي وغيرها ممن لم تُنشر أخبارهم، لِتبرز بذلك بصمات الأجهزة وقادتها المعتادين على خطف ذوي الأسرى أو المطلوبين، وتعذيبهم ثم قتلهم قبل دفنهم في أماكن مجهولة أو رمي جثتهم في البحر.

واليوم نرى للأسف، البعض ممن دافعوا عن ممارسات هذه الوحوش البشرية في التسعينات يذوقون جرعة مما تجرّعه المستضعفون من هذا الشعب طيلة عشرية دموية، وحري أن يدرك الجميع أن الاستبداد شرٌ مطلق، ولا يمارس من قبل جهة دون أخرى، ولا ضد جهة دون غيرها، لذا يجب نبذه ورفضه من أي جهة كانت وضد أي جهة كانت ضحيته، قبل أن يُسقى المرء من نفس الكأس التي شربها من قبله.

د. رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد