مقالات

خطاب “الفاهم يفهم” لا يبني الدول ولا يبعث على الاطمئنان

قبل الحديث عن ذكرى الحراك الرابعة، هناك إشارات مقلقة، فاجأت الكثير، ومما يزيد من خطورتها، أنها صادرة عن رأس الدولة. فقد تضمّن حوار “الرئيس” مع صحافيين، الكثير من “الغرائب”، ليس هنا مجال مناقشتها، لكن أخطر ما فيها ما أطلقه من إنذارات مفزعة تزيد من ضبابية الوضع، خاصة ما تعلق منها بتحذيره من مزيد من الاضطرابات في تموين الأسواق بالمواد الأساسية خلال السنة الجارية والسنة القادمة، وذروة الفزع في هذه الاضطرابات، انها حسب تلميحاته، تعود “لصراعات مرتبطة بانتخابات الرئاسة المتوّقع تنظيمها أواخر 2024، ولم يخف أن هذه الصراعات تجري بين عصب أو أجنحة، وأن أن هناك قوى تفعل ذلك لتحقيق أهداف سياسية… وهذا اعتراف وتحذير خطير، وتهديد، لأن رأس الدولة، صوّر البلاد في شكل نظام تتنازعه الصراعات، في تناقض تام مع خطاباته والخطابات الرسمية السابقة، التي ما فتئت تسوّق لجزائر مستقرة بمؤسساتها، تعيش وضعا من الازدهار تحسد عليه، وتفند “مزاعم” كل من كان يتحدث عن صراع الأجنحة.

ما يزيد الوضع قلقًا أن تبون اختصر في حواره، المجال السياسي الشاسع في الصراع على السلطة، وتناحر العصب المتربصة، لأهداف خاصة بها، صراع لا حظ فيه للمواطن، ولا كلمة، ومما زاد الطين بلة، استخدامه العبارة الشعبية “الفاهم يفهم” التي دقت أخر مسمار في خطاب “الرئيس” وتطميناته المعهودة.

بعد أربع سنوات من الحراك السلمي، الذي كشف حقيقة منظومة الحكم وهشاشته، يثبت تبون في حواره الصحفي أن كل ما قامت به سلطته المعبرة عن “الحراك المبارك”، لم توقف ما ادعت أنها جاءت لوضع حد له، ولم تجتث نظام العصابات الفاسدة، التي عاش في ظلها أربعة عقود، ولم يقض كما ادعى، على حكم الدهاليز التي رهنت مصير البلاد.

ماذا لو أصغى إلى صوت الشعب؟

منذ انطلاقة الحراك، قبل أربع سنوات، بمشاركة ملايين المواطنين عبر كافة التراب الوطني، في سلمية أبهرت العالم، كان الخياران الأساسيان المطروحان، خيار استجابة السلطة لمطلب الشعب، من خلال المبادرات العديدة المطروحة، لتحقيق طموح غالبية الشعب، تدريجيًا وبمشاركة الحكم الفعلي، عبر مسار شفاف يشارك فيه الشعب بكل أطيافه دون إقصاء، وانسحاب كافة أجهزة الأمن والمخابرات من الساحة السياسية، والتزامها بالمهام المخولة لها دستوريًا، أي بالمختصر، تطبيق المادتين، 7 و8، الممثلة لسيادة الشعب، نحو بناء دولة القانون والعدل. أما الخيار الثاني، كان فرض أجندة القيادة العسكرية ومن يدور في فلكها، والإبقاء على المنظومة كما هي بتجديد بعض واجهاتها، من خلال عمليات انتخابية شكلية، مرفوضة من قبل معظم من خرج للمطالبة بالتغيير، إدراكًا منهم أن الغرض منها استدامة الوضع، برتوشات لا تغيّر من الواقع شيئًا. هذا الخيار هو للأسف ما تم فرضه على الشعب قهرًا، في ظل حملات قمع وترهيب وتخوين، لكل رافض له، فضيّع على الجزائر فرصة ثمينة لانتقال ديمقراطي سلمي سلس، بعيدًا عن تصفية الحسابات وتنصيب المشانق وصراع العصابات، التي يشتكي منها تبون الآن.

هذا الخيار المفروض، الذي ثبت فشله كما جاء في حوار رأس الدولة، يقدّم دليلًا إضافيًا على أن الحكم العسكري لا يؤمن بالتناوب على السلطة وليس مستعدًا لوضع نفسه تحت رقابة مدنيين منتخبين في انتخابات تعددية حرة، ولا يثق في قدرة المدنيين على تسيير شؤون الدولة وحماية الوطن، وهو ما يفسر صم أذنيه عن صوت الحراك ومطالبه، والتفافه عليها من خلال ما أسماه “الحل الدستوري”.

ماذا جرى خلال هذه السنوات الأربعة؟ سعت السلطة في بداية الأمر إلى التخلص من الحراك، بالطريقة “الناعمة”، عبر محاولة استمالة بعض رموزه التي برزت في المسيرات، أو كان لها حضورٌ إعلاميٌ، لكن أمام فشل هذه الوسيلة في تحقيق مبتغاها كما كانت تروم إليه، ولم تفلح في شراء سوى بعض الوجوه والتنظيمات الهامشية، لتقديمها كممثلة للحراك، وشراء المواقع على الانترنت والصحف (من خلال صفحات الإعلان السخية)، قامت بالتوازي مع ذلك بتنسيق حملات التشهير والتضليل وشيطنة كل من يستمر في العمل خارج منظومتها، فأطلقت العنان لترسانتها المعتادة، من قمع أمني وقضائي، لجرّ الحراكيين إلى موائد المشاركة في خطة طريق القيادة العسكرية، باسم الحراك.

بعد الترسانة القمعية أمنيًا، انتقلت العصابة إلى مرحلة محاربة الحراك من خلال تقنين الاستبداد، لتفكيك الحراك قضائيـًا، بحيث أصبح ممكنًا بموجب هذا القانون، تصنيف الدعوى إلى انتقال ديمقراطي خارج الدستور الاستبدادي، ضمن “الإرهاب السلمي” (قانون العقوبات، المادة 87 مكرر 14)، واعتبار الدعوة إلى استمرار الحراك، تحريضًا مباشرًا على التجمهر غير المسلح (قانون العقوبات، المادة 100)، ويمكن إدراج التنديد بالقمع ضمن تهم المساس بالمصلحة الوطنية (قانون العقوبات، المادة 96)، أو حتى “الأخبار الكاذبة” (قانون العقوبات، المادة 196 مكرر)، في حين يمكن لأي انتقاد لرئيس الجمهورية أو الجيش، أن يُشكل مساسًا بالوحدة الوطنية (قانون العقوبات، المادة 79)، أو حتى ازدراء هيئات نظامية (قانون العقوبات، المادة 144 مكرر و146). أما بالنسبة لمسيرات الجمعة، فلم يعد ممكنًا تنظيمها، خشية إدراجها ضمن التجمهر غير المسلح (قانون العقوبات، المادة 98)، كما أن أعمال التضامن مع الحراك والمتظاهرين قد يدخل في إطار المساس بأمن الدولة أو تقويض المصالح الأساسية للجزائر (قانون العقوبات، المادة 95 مكرر)، وفي خضم هذا القمع “الدستوري” و”القانوني”، تعرضت الجمعيات والأحزاب السياسية المنخرطة في الحراك، لتعليق نشاطاتها، بل وحلّها، بسبب إدانتها واستنكارها القمع أو مقاطعة الانتخابات.

وجدت السياسة القمعية أيضًا دعمًا من خلال حملات الدعاية التي تهدف إلى عزل قطاعات مختلفة من المواطنين وإبعادهم عن الحراك، عن طريق تشويه سمعة عناصره، وتقديمهم على أنهم عملاء، تارة يعملون على زعزعة استقرار البلاد، وتارة أخرى انفصاليون (منطقة القبائل)، أو مسيؤون للإسلام ومعتقداته، وفي نفس الوقت يُتّهم آخرون بالتطرف الإسلامي، أي “إرهابيون” في كل الحالات، بمعنى آخر، جعل معتقلي الرأي والأشخاص المتابَعين في سياق حملات القمع، أشخاصًا منبوذين. وهكذا أصبح من الممكن تجاوز الحقوق والحريات، بموجب القانون، من أجل الحفاظ على المبادئ الغامضة للنظام العام والأمن والثوابت الوطنية (المادة 34، الفقرة 2)، بحيث يمكن توجيه تهمة “الإرهاب السلمي”، لمجرد الرغبة في “تغيير نظام الحكم بوسائل غير دستورية” (قانون العقوبات، المادة 87 مكرر، 14) ومن ثمّ، وصد الأبواب تمامًا أمام أي عمل يصبو إلى “تغيير جذري للنظام”، فيحصر المنافسة السياسية عبر بوابة واحدة، الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في عام 2024.

إلى جانب ذلك لجأت سلطة “الجزائر الجديدة”، إلى وسيلتها المفضلة، لكسر الحراك، من خلال محاولات دق إسفين بين مكوناته المستعصية على الاندماج، في عمليات التصنيف الثنائية من قبيل المعتدلين مقابل المتطرفين؛ الحراك المبارك الأصيل في مواجهة حراك العملاء؛ الواقعيين/الحالمين، الوطنيين/الخونة؛ هذه العملية انتهت بفرز بين القابلين مشاركة موائد السلطة والمستعصين على ذلك، بما يذكرنا بالنمط ذاته، في التسعينات، بين من قبل مشاركة مؤسسات الانقلاب CNT مثلًا والرافضين لها، حتى وجدنا شخصيات من الحزب المنقلب عليه، قيادات داخل الجبهة الإسلامية للإنقاذ (المنشقين) مثل مراني وقشي، يُستوزَرون، ويُبعثون سفراء في دول لعالم، والشيء نفسه تمّ مع منشقين عن جبهة القوى الاشتراكية وحزب الثقافة الديمقراطية وكذلك مع الحركة البربرية من خلال قضية العروش، وحجة كل مشارك في هذه الموائد، عمله التغييري من داخل المؤسسات، أي وفق قواعد النظام الحاكم. والسؤال البسيط، لو كان مثل هذا التغيير (داخل منظومة السلطة وقواعدها) مُمْكنًا ولو بدرجة معيّنة مقبولة، هل كُنّا نصل إلى انتفاضة 22 فبراير 2019 ونظام يقر قادته أنه نظام عصابات، بل ويصرّ قائد أركان الجيش سابقًا، أننا كنا في استعمار ثان؟ كيف ينتظرون من مثل هذا التكرار أن يأتي بنتائج مغايرة؟

اليوم، بعد مضي أربع سنوات وضياع فرصة النجاة، نظرة خاطفة تبيّن لنا أن العكس هو ما حدث، فكل الانتخابات التي جرت “في الإطار المؤسسي الدستوري”، رئاسيات 12 ديسمبر 2019 ومراجعة الدستور في نوفمبر 2021 بحضور أنصار التغيير من الداخل، لم تنجح سوى في تكريس هيمنة منظومة الحكم التي نادى الحراك بإسقاطها ليقينه باستحالة استصلاحها. ألم يحن الوقت لتدارك ما يمكن تداركه، ووقف الهروب نحو الهاوية؟ هذا سؤال مواطن إلى منظومة “والفاهم يفهم”؟

د. رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد