مقالات

كَهَنَة الدولة الجديدة يريدونها دولة خبارجية، والشعب يريدها دولة مدنية ماشي عسكرية

قرأنا وسمعنا الكثير من الأصوات، طيلة سنوات عديدة، ولا نزال نقرأ ونسمع مثلها، تحاول إقناعنا أنه أمرٌ طبيعيٌ، بل وحتميٌ، ومن منطق الأمور و”صلاحها” أن نرضى بحكم العسكر، وأنه من المشروع تمامًا تدَخّل العسكر في كل صغيرة وكبيرة من شؤون البلاد، بل وتحكّمهم المطلق في تسييره، بدءًا من تحديد سياساتها العامة، من تعيين الرؤساء والوزراء والسفراء وممثلي الشعب في مجالس الدولة من البلدية إلى البرلمان، إلى تحديد الميزانيات والظفر بالجزء الأكبر منها، على حساب القطاعات الأخرى كالتعليم والصحة، بل وتحديد السياسات الثقافية والتعليمة وحتى الرياضية، ومن ثمّ فلا حرج في ذلك بل هو عين الحكمة والواقعية التي أثبتها الواقع، ويُبرّرها “فشل المدنيين في الحكم”. وانطلاقًا من هذه النظرة، يستهتر دعاة هذه “الواقعية” من مطلب “دولة مدنية ماشي عسكرية” ويتهكّمون على أصحابها، على غرار استهتار تبّون مؤخّرًا في حواره مع الصحفيين، واتهامه كل من يرفع هذا الشعار بالعمالة والانتماء إلى الطابور الخامس، عندما ربط هذا المطلب بأيادٍ خارجية تريد الدمار للجزائر وتستهدف استقرارها وثباتها، واتّهم أصحاب هذا المطلب بأنهم يتحرّكون بالإيعازـ وأنهم شاركوا لهذا الغرض في ورشات مشبوهة، تتحكم فيها أيادٍ دولية. وقبل تبّون كانت جهات أخرى أحالت هذا المطلب إلى “خلفية غربية علمانية، غريبة عن قيم ومبادئ شعبنا”، بينما طرف آخر من المُتَهِمين له، ربطه بجماعة الإخوان في مصر، دون أن يرى أي منهم في ذلك تناقض، ومزاعم تنسف بعضها بعضًا. هل هذه واقعية، أم نفسية مريضة تتستر وراءهما؟

بات واضحًا أنّ كل الحجج والتهم والسهام مقبولة بالنسبة لمُرَوّجيها، طالما أن الهدف منها يبقى واحدًا ثابتًا، تشويه هذا المطلب واتهام دعاته، وتصويرهم في صورة العميل “الخبارجي” على حدّ تعبير رأس الدولة، والنيل من مصداقيتهم ومسارهم.

هذه الذهنية لا ترى أي حرج أو خلل في أن تفعل هذه “القيادة العسكرية” المؤيّدة “بتأييد سماوي” غير مكتوب، وتتصرّف في رقاب الناس ومصيرهم كيفما تشاء، دون المرور عبر صناديق الاقتراع وخيار الشعب، ومن دون أدنى مساءلة أو مراقبة، ناهيك عن المحاسبة، ومبرّرهم في هذا “الحكم القدري” أن الجزائر منذ 62 وإلى يومنا هذا حكمها العسكر، بحكم الأمر الواقع والغلبة، ومن ثمّ لا بدّ من القبول به، والتعامل معه دون محاولة تغييره أو انتقاده أو حتى الهمس ضده، بل ذهب بعضهم إلى التباهي بذلك خارج الوطن… في باريس، حيث يُسمح للتظاهر، ورفع شعارهم، دون حياء أو وخز ضمير، مرددين “دولة عسكرية ماشي مدنية”!

مِنْ هؤلاء منْ يذهب أبعد، فيضيفون لتبرير هذا الوضع، أنّ العسكر وحدهم قادرون على الحكم نظرًا لفساد “السياسيين” وغياب البديل، غافلين أو متغافلين، مَن المتسبّب الأوّل في هذا “الفساد” وهذا “الغياب للبديل”. ولم يكلّفوا أنفسهم عناء طرح السؤال البديهي البسيط: أليس فساد الطبقة السياسية (المسموح لها بالنشاط) إلا نتيجة تدبير النظام العسكري الذي استحْوذ على كل شيء وعمل على إقصاء كلّ الكفاءات والإرادات الصادقة والصالحة المصلِحة، وثمرة جهوده الحثيثة على إفساد المجتمع والطبقة السياسية والإعلامية والثقافية والاقتصادية، بعد قضائه في المهد على كل فكرة لبديل ومنافسة شريفة مستقلة عن دوائره وتخطيطه، ودفن كل مبادرات الوطنين من أجل العودة إلى نظام سياسي مدني، يعيد البلاد إلى جادة الصواب والرقي، وقرّب إليه بالمقابل، الفاسدين والفاشلين، وجعل من ولائهم المطلق، المعيار الحصري لتقلد المناصب، مع استبعاد الكفاءات التي لا تتسوّل عند موائده، بل تفرض نفسها بفضل فكرها وقدراتها واستقلاليتها، فجعل منها عدوًا، يحارَب بكل الوسائل.

أليست هذه الممارسات هي التي أنتجت حكومات ووزراء وقيادات، كان فشلها وفسادها الذريع، سببًا لخروج ملايين المواطنين بشعارهم “يتنحاوْ قاع”؟

ألم يكن غياب البديل المدني الكفء (ذريعة أنصار ضرورة حكم العسكر)، إلا نتيجة مباشرة ومدبرة، لحكم العسكر الذي احتكر الحكم وأقصى كل من سعى إلى الإصلاح، فخيّره بين الاغتيال والسجن والتعذيب أو النفي؟ وهل نحتاج إلى ذكر الأمثلة؟

وهل صعبٌ على من يبيعنا هذه السلعة البائسة والدنيئة أن يفهم، بأن هذه الخطة المتّبعة من نظام العسكر كانت تهدف بالأساس، أولًا احتكار الحكم دون منازع أو منافس، وثانيًا، الإفلات من المساءلة والمراقبة، وثالثًا، “تَصَحُّر” الساحة السياسية désertification politique وإفسادها، لكي نجد، مثل هؤلاء، الذين يجترّون علينا، حججًا من قبيل “غياب البديل” وفساد الطبقة السياسية، لتبرير القبول بالوضع القائم وعدم جواز العمل لتغييره.

من غرائب الأمور، أننا نرى مبرري ضرورة حكم العسكر، بَدَلَ تحميل مسؤولية الوضع المزري الذي آلت إليه البلاد إلى المتسبّب فيه المباشر عنه، أي منظومة الحكم العسكرية المخابراتية، الحاكم الفعلي منذ استقلال البلاد، يحيلونه إلى الطرف المُقْصَى من العملية برمتها، والمحروم من حقه في المشاركة في تحديد مصير بلده، بل والمطارَد على كل الأصعدة!

ختامًا نتساءل، ذلك السؤال المؤرق والقديم قدم الزمن والمحن، هلْ لأن المرء فتح أعينه في محيط وسخ هالك مُهْلِك، فمحكوم عليه قبوله والبقاء فيه دون محاولة السعي إلى تطهيره وتغييره، بما استطاع إليه سبيلا؟

حقًا مثل هذه الذهنية لا يمكن أن تنمو إلا في أرضية الاستعباد الذاتي، التي تتكاثر فيها نفوسٌ إما مريضة أو متعفنة وجبانة أو كل ذلك مجتمعًا، ولن نستطيع بناء دولة، ذات سيادة وكرامة، تضع المواطن ومصالحه، على رأس قائمة أولوياتها، قبل التحرر من هذه الأمراض التي فرضت على نفسها سلاسل ذهنية من صنع مخيلتها.

د. رشيد زياني الشريف | المجلس الوطني لحركة رشاد