مقالات

بدل قراءة الرسالة والتفاعل معها؛ يقتلون حاملها

يومًا بعد يوم، تزداد الحريات قهرًا، مع سدّ كافة نوافذ الأمل للخروج من المأزق الخانق الذي تنجرف إليه البلاد. رغم وضوح مشهد الانسداد، تواصل السلطة ارتكاب نفس الأخطاء المصيرية، التي لا يمكن أن ينتج عنها سوى هذه الدوّامة. قد يسأل المرء، ما سرّ هذا الإصرار على السير في هذا الاتجاه رغم نتائجه الوخيمة والمتوّقعة سلفًا، ولماذا هذا الرفض المتنطع للإصغاء إلى صوت العقل والحكمة، وعدم الاستجابة للدعوات العديدة، الحريصة على انتشال البلد من وضعه البائس؟ والجواب ببساطة، لأن الجماعة الحاكمة عندنا على غرار الأنظمة المصابة بمتلازمة التوحّد، لا تصغي إلا إلى نفسها ولا تطمئن إلا لصداها المنبعث من تقارير أجهزتها الاستخباراتية. والسبب أن السلطة تُصَدِّق البروبغندا التي تنسجها لها أدواتها، وترتاح إلى الصورة التي ترسمها لها، عن جزائر مستقرة آمنة لا يعكر صفوها سوى بضع أصوات نشاز عميلة، لا يُعتد بها. ونظرًا لحالتها النفسية (فقدانها الشرعية الحقيقية) التي تجعلها قابلة لتصديق هذه الصورة المشرقة، تحاول بدورها إقناع غيرها، بأنّ جزائر الشعب مطابقة تمامًا للجزائر التي تنقلها نشرة الثامنة وبرامج إذاعاتها وقنواتها ووكالتها الإخبارية الرسمية، مثلما تبرزه تصريحات رأس الدولة، في حواراته المتعددة، استنادًا إلى تلك التقارير، التي يعتمد عليها في تبني استراتيجية الدولة.

من أهم ركائز هذه البروبغندا منذ إطلاق العنان لجهازي الأمن والقضاء، لكتم الأصوات “المغردة خارج سرب السلطة” (المطالِبة بدولة القانون وبناء دولة مدنية)، محاولة السلطة إقناع نفسها (والعالم الخارجي)، أنّ مَن يعارضها (الحراك بالأساس) ليسوا أكثر من مجموعة محلية تسيّرها أيادي خارجية، تستهدف استقرار الجزائر ورفاهية شعبها. تروّج السلطة لهذه الرواية، لأنها ترفع عنها حرج مواجهة الحقيقة، التي ترفض رؤيتها، وتصرّ على تشويه وشيطنة المعارضين لسبيلها، ولا تريد الإقرار بأنهم مواطنون كاملو المواطنة، سئموا العيش في كنف الاستبداد ويريدون إقامة دولة الحق والقانون، وأنهم جزائريون لا يقلّون حرصًا، إن لم يكونوا أكثر من سواهم، على سلامة بلدهم.

ولكي تُشَرْعِن استهداف من يعترض عليها، تمّ في مرحلة أولى اتهامهم بأنهم “حركات وتجمّعات هدّامة لا تريد الخير للبلاد”، بغية تشويه سمعتهم وفضّ الناس من حولهم، وجعلهم مثلًا لكلّ مَن تحدّثه نفسه السير على طريقهم (النضال التغييري السلمي الجذري). لكن بعد فشل مسعاها، لجأت إلى سلاح تهمة “الإرهاب”، فقنّنت التهمة، وسنّت مواد خاصة لهذا الغرض، تُدرج بموجبها كلّ معارض فعلي لها، بالانتماء إلى “العمل الإرهابي السلمي”، (التجمهر غير المسلح) الذي على أساسه صُنّفت رشاد (والمقصود ليس رشاد فحسب، بل كلّ من يسير على ذات الدرب، أيًا كانت أفكاره وتوّجهاته)، حركة إرهابية. والسلطة الحاكمة بتصرفها هذا، بدلًا من الإصغاء إلى الرسالة التي يحملها الحراك، لإنقاذ البلاد، فضّلت التهجم على حامل الرسالة، ولو أحرقت البلاد، كما لخّص المشهدَ أحد المعلّقين، حول ما يجري منذ تعليق المسيرات وفتح أبواب السجون مُشرّعة في وجه كل معارض.

لجوء النظام إلى استخدام أجهزة الأمن والقضاء، لشلّ قدرات المجتمع وإسكات صوته واغتصاب إرادته، وإجباره على تخلّيه عن مطلبه الجوهري، التغيير الجذري السلمي، يؤكّد أنّ أخشى ما يخشاه نظام العصابة هو بروز قوى سياسية منظمة، تنشط بكل 1) شفافية و2) سلمية و3) استقلالية عن سيطرتها. ومثل هذا الهلع، يفسر رفضها اعتماد أي حزب أو تنظيم أو جمعية أو نقابة، أو حتى قبول استمرار صحافي، ولو كان بمفرده، العمل باستقلالية. وخوفها المرضي من تحقق هذه المواصفات الثلاثة، يفسر من جانب آخر، لجوءها إلى القمع الأمني، مدعما بالقمع القضائي، من خلال اعتماد ترسانة قانونية تقنن العنف وتظفي عليه رداء الشرعية، بحيث يكفل لها إدخال كل نشاط سياسي مستقل، خارج عن أمرها ومنظومتها وقواعدها، إلى حاضرة الإرهاب ولو كان سلميا، خاصة عبر المادة 87 مكرّر بعد عجزها عن دفع أنصار التغيير الجذري السلمي نحو العنف، وفشلها في وجود من بين الحراكيين، من تستخرج منه مثل هذه التهمة، لتسقط بذلك عن الحراك صفة السلمية التي أصبحت سمته البارزة والمعروفة لدى الجميع.

د. رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد