عقب نشر أحد الأصدقاء على الفضاء الأزرق، منشورا قال فيه “الاستئصاليون لا يستطيعون أبدا أن يكونوا حراكيين، مكانهم في موقع آخر” (المنشور بالفرنسية)، وهو رأي فيه كثير من الواجهة وتثبته الوقائع الميدانية بما لا يدع أدنى شك، جاء ردُ أحد المتدخلين، مستنكرا، أنقل إليكم رده كما ورد “انا استئصالي ودرت أكثر من 300 مسيرة …؟ تجي تطردني؟”. لقد شدّ انتباهي واهتمامي هذا الرد، الذي اعتبرته جدير بالمناقشة الأخوية الهادئة مع صاحبه، ونظرا لأهمية الموضوع وتعليق هذا الأخ الاستئصالي (هو يصف نفسه كذلك ولستُ أنا)، ارتأيت أن أشارككم النقاش عبر هذه الورقة، لعله يكون فرصة للإثراء الهادي مع احترام كافة وجهات النظر وأصحابها.
بينتُ للأخ “الاستئصالي في أول رد مني “أن رده في حد ذاته متناقض، أوضحتُ له ذلك “لا اعتقد انه من حق احد ان يطردك او من حق أيا كان أن يطرد غيره، بالمقابل ألا ترى في وصف نفسك استئصالي، انك انتَ تطرد غيرك بل وتعمل على اجتثاثهم (هذا هو معنى الاستئصال)؟ كيف اذن تستنكر على البعض ما تقوم به انتَ بل وتفتخر به، الى جانب ذلك هناك تناقض اصلا بين الاستئصال الذي يقصي والحراك الذي جاء جامعا شاملا متضمنا للجميع؟”
جاء في رد ثاني منه، مبررا موقفه الاستئصالي وما يعني بذلك، على النحو التالي: “قولي (استئصالي) هو استئصال الارهاب وعدم تبرير جرائمه ولست مع من يدعمه ويجد له الاعذار وهذا لا يعني انني مع النظام الدكتاتوري الفاشل والقامع للحريات”
وهو بذلك وّفر لي فرصة ثمينة أخرى لتوضيح مسألة خطيرة لا يجب الوقوع فيها إذا أردنا أن نكون أوفياء مع أنفسنا وما نؤمن به، أخص بالذكر قضية تبني المصطلحات، وخطورة استعمالها جزافا للجم الخصوم واتهامهم وإقصائهم، دون تحري أو أمانة أو إنصاف، فأوضحت للأخ، قائلا: “كيف يستقيم أنك من جهة تسمي النظام دكتاتوريا فاشلا ومغتصبا، ثم تتبنى تصنيفه وتوصيفه وتهمه، لمن هو “إرهابي” وتقبل هذا الوصف كأمر لا يرقى إليه شك؟ هل من يصفه النظام العسكري إرهابي هو بالفعل إرهابي؟ ففي هذه الحالة، لن ينجو أحد من هذه التهمة، مسألة وقت فقط، وستُلحق التهمة بكل من يجرؤ على معارضته فعليا، بصرف النظر عن توجهه السياسي أو الثقافي أو الأيديولوجي.
إن في قبول التهم الصادرة عن الخصوم، مشكلة منهجية، لا يمكن تبريرها. إدانة الإرهاب أمرٌ مفهوم بل وواجب، ولا أحد يسانده لِما فيه من ترهيب وقمع للآمنين، لكن، يجب أن تكون هذه التهمة صادرة عن محاكم عادلة مستقلة، وليست من عدالة خاضعة تماما لنظام انقلابي عسكري دكتاتوري مثلما أنتَ بنفسه تصفه كذلك، ثم ألا ترى الآن بأم عينك كيف أن نفس هذا النظام الذي وصف خصوم الأمس بالإرهاب، تحت يافطة أيديولوجية محددة، يصف اليوم كل من يعترض عليه بأنه إرهابي، ولو بمنشور من بضعة كلمات، يفضح فيه جرائمهم ( هو سلوك دأبت عليه العصابات المتتالية في الحكم على فعله منذ 62 وليس فقط بعد يناير 92)، ثم هل فاتك أن هذا النظام هو نفسه من اتهم مهري وبن بلا وعلي يحيى عبد النور وأيت أحمد رحمهم الله، بأنهم خونة لوطنهم في يناير 1995، فقط لأنهم رفضوا استمرار مساره الإجرامي الذي يرفض أي حل سياسي للأزمة ويقود البلاد إلى الهلاك؟
وهل نسينا كيف استخدِمت التهم الغليظة، من إرهاب وخيانة وغيرها، مند استقلال البلاد؟ أليست بتهمة الخيانة ظل أبو الوطنية، مصالي الحاج منفيا في فرنسا إلى أن توفي هناك وحُرم من دفء وطنه، وظل منبوذا مشوّها في رواية السلطة الرسمية وإعلامها وكتبها المدرسية، حتى اعتقدت الأجيال التي لم تعرفه أنه لا يقل جرما من بيجار، وكذلك عاش شاعر الثورة مفدي زكريا منفيا في تونس إلى أن وفته المانية؟ ألم يُحَارب ويتهم ايت احمد وبوضياف واعتقلا غداة الاستقلال قبل أن يفر كل منها ويلجأ إلى المنفى، فقط لأنها اختلفا مع دكتاتورية السلطة، حريٌ بك أن تتصفح جرائد تلك المرحلة، لترى كيف كانت تصفهما السلطة القائمة؟
ألم يُعدم خيضر وشعباني وعبّان، بتهمة الخيانة، منهم داخل الوطن ومنهم خارجه، فقط لأنهم اختلفوا مع السلطة القائمة؟
ألم يوضع رهن لإقامة الجبرية، الرئيس لأسبق بن خدة رحمه الله لأنه اختلف مع السلطة القائمة، والشيخ الإبراهيمي، والقائمة طويلة… كيف إذن نتقبل هذه الأوصاف والتُهم، ونحن نعرف أن من صاغها وروّج لها، طرف مغتصب للسلطة، أراد إقصاء وشيطنة خصومه لتكريس شرعيته وتاريخه، واستخدم آليات ومؤسسات الدولة لنشر رواته مع حرمان الآخرين من حق التعبير عن وجهة نظرهم، تماما مثلما يفعل الآن بحق الحراكيين.
ليس من الأمانة ولا النزاهة ولا الصدق مع الذات أولا قبل أي اعتبار آخر، أن تستخدم تهم سياسية صادرة عن نظام شمولي عسكري ضد خصومه ثم تتبناها وتستند إليها لتصفية الحسابات مع من لا تتفق مع توجهاتهم. إذا كان من حق أي شخص أن ينتقد ويعارض بل أن يناصب العداء لمن يختلف معه، فليس من حقه أن يصف بالإرهاب كل من يخالفه، والأدهى أن يستخدم القوالب الجاهزة التي صاغها نظام إرهابي بامتياز، بناء على سجله وليس على خلاف أيديولوجي معه.
الحراك جاء أصلا بوحدة مقاصده وتنوّع مشاربه، ليؤسس لنظام رحب يقبل الآخر ويتناغم حتى مع التناقضات فيه، مهما كانت حادة، طالما تعبر عن نفسها بسلمية دون إقصاء وتتقبل غيرها.
قلم رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد