د. رشيد زياني شريف
“المظاهرات الشعبية ليست من ثقافتنا”، يقول الوزير
في ردّه على سؤال صحفية الجزيرة، عن سبب عدم خروج الجزائريين للتظاهر تضامنًا مع غزة وإدانة الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها أهلها، أسوة بغيرهم من الشعوب في دول العالم، قال وزير خارجية النظام، أحمد عطاف، أن ذلك يعود لغياب ثقافة التظاهرات في بلدنا وأن هذه الأساليب من التعبير غريبة عن شعبنا وثقافتنا، وأن هذا النوع من التعبير من مميزات النُظُم الديمقراطية!
أوّلًا، فيما يخص زعمه بأن التظاهرات هي من ميزات النُظم الديموقراطية، فهو بذلك يؤكد أن الجزائر لا علاقة لها بالديمقراطية، وهو مُحِق في هذه النقطة بالذات التي يثبتها الواقع، وتجد تجسيدها في حرمان المواطن من ممارسة حقه في التعبير والرأي والاعتراض على ما يراه ظلمًا أو تعسفًا. بالمقابل يُستشَف في نبرة تصريح الوزير في تبرئة الجزائر من الطابع الديمقراطي، وكأنّ الديمقراطية نوعٌ من العاهات والأمراض التي حمانا الله من شرّها ونحمده على معافاتنا منها.
ثانيًا، دائمًا بالنسبة لمسألة ربط غياب الديمقراطية بعدم خروج المظاهرات في الجزائر، فالواقع يُكَذّب مزاعمه، لأنّ العالم شاهدٌ على خروج الجماهير في العديد من الدول غير الديمقراطية، ومنها الدول العربية، بل وحتى التي طبّعت مع الكيان الغاصب، مظاهرات عارمة بانتظام، شارك فيها عشرات الآلاف، وأحيانًا مئات الآلاف، تنديدًا بالجرائم الصهيونية وتضامنًا مع الأشقّاء في غزة وفلسطين عمومًا.
ثالثًا (مربط الفرس)، يتحدث الوزير وكأنه يعيش في بلد آخر أو ينتمي إلى عالم آخر، ولا صلة له بالجزائر التي يشغل منصب وزير خارجيتها، أو ربما أصابه الزهايمر بحيث لا يتذكر أحداثها، أو لا يريد أن يتذكرها. فلا بأس إذن من تذكيره بما يلي:
1) انتفاضة أكتوبر 1988، حيث خرج المواطنون بالآلاف، في معظم مدن البلد وخاصة في العاصمة، دون نفي أن هذه الهبّة الجماهرية قد تخلّلها قدرٌ من العنف والتدمير للمحلات العمومية، وخاصة المملوكة للسلطة أو للحزب الواحد، وسبب ذلك راجع أساسًا إلى تذمّر شعبي واسع من احتكار السلطة قرابة أربعة عقود ورهن مصير البلاد بين أيدي جماعة ضيّقة تصرّفت في البلد وكأنه ملكٌ خاصٌّ بها، وحرمت المواطن من مجرد التعبير عن رفضه، حتى فاض الكأس وانهمرت الجماهير للتعبير عن جام سخطها من ممارسة هذه الجماعة الحكم المطلق، مع رفض أن تشاركها فيه أي جهة. تراكم عقود من الاحتكار والقمع والحرمان تسبّب في انتفاضة غضب، كان الغرض الأساسي منها التخلص من هذا الوضع والمطالبة بإصلاحات حقيقية، وتمكينه من حقه في التعبير والرأي والسيادة. كيف كان رد السلطة على هذه الهبّة؟ بالرصاص الحي الذي أزهق عشرات الأرواح البريئة (بين 500 إلى 800 بحسب المصادر، تمّ تبرير القتل بعدم توفّر الرصاص المطاطي، وفق تصريح الهالك وزير الدفاع سابقًا خالد نزار). تمخّض عن تلك الانتفاضة الشعبية، ولادة التعددية الحزبية، التي سمحت بنشأة أحزاب وتنظيم انتخابات تعددية حرة، في المجالس المحلية (البلدية والولائية 1990)، ثم الانتخابات التشريعية في جولتها الأولى (26 ديسمبر 1991)، قبل الانقضاض عليها في يناير 1992. شهدت شوارع البلاد طيلة تلك الفترة التي عُرِفت بالفسحة الديموقراطية، من فبراير 1989 إلى ديسمبر 1991، مسيرات وتظاهرات شعبية سلمية، وندوات سياسية وغيرها من الأنشطة التي ميّزت المرحلة على نحو غير مسبوق، حسدتنا عليها أكبر الديمقراطيات، قبل أن يغتالها مغامرون في حمّامات من دماء، بدءًا من جوان 1991 التي أزهقت فيها دبابات الجيش عشرات الضحايا المعتصمين سلميًا في الساحات العمومية، من أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تنديدًا بقانون الانتخابات والتقسيم الإداري المصاغ على قياس الحزب العتيد؛
2) بعد انقلاب 11 يناير 1992، شهدت البلاد من يناير إلى غاية منتصف مارس 1992 مظاهرات سياسية سلمية منددة بالانقلاب على خيار الشعب وعلى الرئيس والبرلمان والدستور ونتائج انتخابات 26 ديسمبر 1991، تميّزت بحضارية ومصابرة، رغم حملات القمع، وكان على رأس مطالبها العودة إلى الشرعية، والحرص على عدم الدفع بالبلاد إلى ما لا يُحمد عقباه، مع التحذير من أنّ السياسات الأمنية العسكرية لن تحلّ المشكلة، بل ستعمقها وقد تزجّ بالجزائر إلى مستنقع حرب مدمّرة، فكان ردّ السلطة كعادتها على هذه التظاهرات، بالرصاص والقتل والتعذيب والاختطاف، ممّا أسفر عن مأساة لا تزال البلاد تعيش على جراحها؛
3) حتى إن زعم عطاف أنّ التصدي لتلك التظاهرات كان في إطار “مكافحة الإرهاب”، الاسم المبتكر للتغطية على انقلاب يناير 1992، فمن الجدير تذكيره أنه بعد قرابة 30 سنة من القمع ومنع كلّ ممارسة سياسية للمواطنين أو حق للتعبير عن رأيهم، من خلال سنّ القوانين لهذا الغرض (من 1992 إلى مستهل 2019)، خرج الشارع الجزائري بدءًا من 18 فبراير، في حراكه السلمي الحضاري، وتظاهر في شوارع معظم مدن البلاد، وخاصة في عاصمته، بحضارية وسلمية أبهرت العالم، في حراك استمرّ عدة أشهر، وفرض نفسه على النظام القائم، ونزع عنه شرعية استعمال السلاح على عادته، فأفقده توازنه وهزّ أركانه، إلى درجة أجبره على الإقرار بحق الشعب في التعبير بل وفرض عليه التخلّص من بعض الوجوه والمسؤولين، على رأسهم الرئيس بوتفليقة، في محاولة للاحتواء والمناورة على مطالبه الشرعية الجذرية، ولم تتوّقف مسيرات الحراك إلا بعد أزمة الكوفيد وحرائق منطقة القبائل المريبة التي استغلتها السلطة، لتصدّ أبواب التظاهر من جديد، وتعيد البلاد إلى عهدها السابق، خلف ستار الحديد والرصاص الحي.
يَحِقّ لنا في الختام أن نسأل الوزير هل نسي هذا المسار المنير للشعب الجزائري أم خفي عنه تحضر الشعب في طريقة تعبيره عن رأيه من خلال التظاهرات السلمية الراقية، أم يعمد إلى تزييف الحقائق لأنه لا يملك جوابًا مقنعًا يبرّر به حرمان الشعب من التظاهر تضامنًا مع أشقائه، مما يفند ويفضح مزاعم شعار النظام المُستهلَك “الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”؟ وفي هذا الموضوع تحديدًا، من الضروري قبل غلق هذه الصفحة، أن نميّز بين جزائر الشعب (على غرار الشعوب العربية والإسلامية الأخرى وأحرار العالم) التي تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية حقًا وتتضامن معها ومع نضالها من أجل التحرر من قبضة الاحتلال الصهيوني، وتتوق إلى بذل أكثر من مجرد التظاهرات التي تُحْرَم منها، لولا منعها من قِبل حكامها، وبين الجزائر الرسمية المتاجِرة بالقضية، المتسترة بها للتغطية على تخاذلها إزاءها، من خلال دعم فلسطين رام الله، وسلطة مليشيات فيشي المدعّمة بملايين الدولارات من مال الجزائر، وإسناد سلطة وظيفية تقمع الثائرين والمقاومين من الفلسطينيين، بالتنسيق مع أمن وعسكر نتنياهو. وتصريح عطاف، هو في الواقع لسان حال وتعبير جزائر داعمة لسلطة فلسطين فيشي وليس جزائر تحمل هَمّ فلسطين الشعب وتشاركها آمالها.
د. رشيد زياني شريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد