مقالات

من وحي غزّة…ما الذي فجّر الربيع العربي؟

د. رشيد زياني شريف

غزة، الأنظمة العربية، الربيع العربي والنيتو

أصبح مشهد حالة العجز التي يبدو عليها وضع معظم الأنظمة العربية، مثيرًا للسخط ومستفزًا للشعوب. هذا العجز العربي الرسمي في واجب أضعف الإيمان، أي تقديم الدعم لأهل غزة، ولو الإنساني، يطرح أكثر من سؤال، ولا يكاد المواطن العربي يفهم سبب عدم تفاعل هذه الأنظمة مع مشاعر مواطنيها المتضامنة كليًا مع الشعب الفلسطيني. مشهدٌ يبدو غير مفهوم، لكنه في واقع الأمر، موقف “متجانس” يترجم حالة هذه الأنظمة الملتزمة بمسار مفروض عليها بحكم ميثاق غير مكتوب، يرهن استمرارها في الحكم أو حتى مجيئها إليه، بل هناك البعض منها من تجاوز عتبة العجز، وأثبتت أنها أكثر تحمسًا لاستمرار الحرب حتى القضاء المبرم على المقاومة وكسر صمودها ودفن القضية الفلسطينية “المزعجة لها” إلى الأبد، خاصة وأن هذه الأنظمة تعتبر (وتتّهم) “طوفان الأقصى” أنه خرّب عليها التسويات التي كانت توشك على الانتهاء من تحقيقها مع الشركاء الغربيين وكيان الاحتلال، في إطار تطبيع شامل يلغي موضوع القضية الفلسطينية ويقفل ملف حقوق الفلسطينيين إلى الأبد. معظم هذه الدول تتطلع إلى هزيمة المقاومة (ربما أكثر من تطلّع الكيان نفسه) مثلما أكده الكثير من كبار المسؤولين الغربيين، على غرار دنيس روس، الذين نقلوا عن نظرائهم العرب، رغبتهم في كسر المقاومة في فلسطين. وهل هي مصادفة أن نجد أنّ هذه الأنظمة تحديدًا كانت من أشدّ العاملين على إجهاض ثورات الشعوب العربية، خشية أن تصل إليها رياح التغيير التي تهدد بقائها.

الربيع العربي حراكٌ تحرّري خالص أم أداة مناورة للنيتو؟

لماذا هذا السؤال الآن ونحن نعيش محنة الشعب الفلسطيني؟ أطرح هذا السؤال لأنني أعتقد أن ما يحدث في غزة، ومواقف وتصرفات شتى الأطراف، غربية وعربية، يقدم لنا جوابًا مقنعًا إلى حد كبير لهذا السؤال.

من نافلة القول أنّ الغالبية الساحقة من الشعوب العربية متضامنة مع الشعب الفلسطيني ومع أهل غزة تحديدًا ولن يتردد معظمهم في مساعدتهم، لكنهم لا يجدون سبيلًا لتجسيد ذلك، سوى ذرف الدموع على ما يشاهدونه من دمار لأشقّائهم في غزة، فما سبب هذا العجز إذن؟ السبب هو جدار المنع والقمع الذي تفرضه معظم الأنظمة العربية في وجه الشعوب وتضامنها، وحرمانها من ترجمة هذا التعاطف إلى فعل إيجابي. لنا في النظام المصري أوضح مثال، فرغم كون هذه البلد الأقوى في المنطقة بقرابة 100 مليون مواطن، ومليون جندي، والمَنفَذ الوحيد للشعب الغزاوي المحاصر، فلم يكتف هذا النظام بعدم تقديم المعونة الواجبة، بل يُمعن في خنق شعب غزة ويتركه يموت جوعًا وعطشًا ومرضًا، وقد ذهب أحد المسؤولين المصريين إلى حد التصريح ، دون خجل، بأنّ مصر لا تستطيع إدخال أيّ شيء من دون موافقة المحتل؟ أين هي سيادة مصر العظمى أمام كيان مصطنع لا يساوى عدد أفراده سكان محافظة واحدة في مصر؟ والشيء نفسه ينطبق على السلطات الأردنية في ما يخص علاقاتها مع سكان الضفة الغربية، مما يجعل الشعب الأردني، المنحدر في أغلبيته من أصول فلسطينية، يرى ما يعانيه الأشقاء دون أن يستطيع فعل شيء أمام القمع والمنع الأمني الأردني، دون أن ننسى بطبيعة الحال، سلطة مليشيات عباس التي تحرم الفلسطينيين حتى من التضامن مع إخوانهم في غزة.

ونعود إلى السؤال المحوري، ما سبب تخاذل هذه الأنظمة؟ ببساطة لأنها تدرك أنّ مصيرها بل وشرعية استمرارها في الحكم لم تأت من صوت الشعب وإرادته، بل تنبع من الجهة التي ضمنت تعيينها، سواءً ضمنيًا بالسكوت على اغتصابها الحكم أو بالتدخل الفعلي لفرضها على هذه الشعوب. ولا نذيع سرًا إذا قلنا أنّ إجهاض الربيع العربي قد رسّخ ارتهان الأنظمة العربية لرضا القوى العظمى، وجعلها تبذل ما في وسعها لاسترضائه، من خلال مقايضتها الضمنية والفعلية، مع عدم تجاوز الخطوط الحمراء التي سُطِرت لها، ومنها عدم الإقدام على أيّ حركة من شأنها أن تزعج الحرب التي يشنها الصهاينة بدعم غربي مطلق.

وما يزيد من سريالية المشهد أننا في الوقت الذي نشهد فيه ذلك التخاذل من قِبَل الأنظمة العربية، علمًا أنّ أحدًا لم يطالب منها أن تجيّش الجيوش، لكن كان بوسعها استخدام أوراق ضغطٍ حقيقية تملكها، بدلًا من أن تترك الكيان المغتصب يستفردُ بأهل غزة، مثلما اقترح السيسي على الكيان بنقل أهل غزة إلى صحراء النقب ليتفرّغ بمهمة القضاء على المقاومة بكلّ هدوء وبعيدًا عن الأضواء، في الوقت نفسه نرى بذهول كيف أنّ جل الأنظمة الغربية، وعلى رأسها أميركا، تقدّم في واضح النهار كل أنواع الدعم العسكري والمشورة والضغط الدبلوماسي والإعلامي، ناهيك عن استخدام الفيتو لإجهاض كلّ القرارات الأممية التي تدعو إلى وقف إطلاق النار، وتشارك بكلّ الأشكال في الإبادة الجماعية لسكان غزة.

ولنا أن نسأل هل كانت أمريكا ستجرؤ على فعل ذلك لو لم تضمن سلفًا انصياع الأنظمة العربية؟ وهل كان الكيان الصهيوني سيُقدِم على هذه المجازر المتكررة، أمام أعين العالم، لو لم يضمن تنسيق وتواطؤ الأنظمة العربية؟ وهل كانا سيتصرّفان بهذه الغطرسة والازدراء، لو لم يتم إجهاض الربيع العربي الذي حاولت الشعوب من خلاله التخلص من أنظمةٍ وظيفية تعمل لأجندة غير وطنية؟  لو نجحت هذه الشعوب في الحفاظ على ثمرة ثوراتها، لكان بمقدور السلطات الممثلة فعلًا لهذه الشعوب، وخاصة في البلاد المجاورة لفلسطين، أنْ تفعل الكثير، وليس أقله التهديد الفعلي، بقطع علاقاتِها مع دولة الاحتلال، أو تجميد الاتفاقيات والشراكات الاقتصادية معها.

هذا العجز والارتهان العربي الرسمي لقوى الخارج والقمع والاستبداد في الداخل، يوضّح بما يكفي لماذا هبّت الشعوب العربية وانتفضت للتخلّص من هذه الأنظمة أثناء “الربيع العربي”، لاستعادة قرارها وبعث الروح فيها، ومن ثمّ تحقيق أهدافها، من خلال إقامة واقعٍ سياسيٍّ أقرب إلى طموحاتها، بنُخَبٍ سياسيةٍ حاكمة تمثلها فعلًا، وتؤسّس شرعيتها على لحمتها الشعبية، لا على شرعية الترهيب الداخلي والرضوخ للخارج. ولو تحققت عملية التغيير في الوطن العربي، بإقامة نُظُم سياسية تعددية مستقلة، لتفاعلت بشكل عملي مع محنة أهل غزة وفلسطين، ولكانت ستحرم الاحتلال وأمريكا من هذا الاطمئنان الذي يشعران به في إحكام القبضة على الشارع العربي وتكبيل حركته.

من تجربة غزة الدامية، يمكن استخلاص نقطة أساسية: تتعذّر مناصرة غزة (أو غيرها) عمليًا وإيجابيًا، ما لم تتحرر الشعوب من قبضة الاستبداد في بلدانها، ولا يمكن المساهمة في فكّ الحصار على غزة وتحرير فلسطين، قبل أن تفكّ هذه الشعوب الحصار عنها. وهذا بالتحديد ما كانت تصبو إليه هبة الشعوب للتخلص من الوكلاء الذين نصّبتهم القوى الاستعمارية تنفيذًا لخطتها المرسومة. وهل من الصدفة أنّ أقطاب الثورات المضادة، وعلى رأسهم الإمارات العربية والسعودية، هي نفسها التي تتهم المقاومة اليوم بأنها المسؤولة عما يتعرّض له شعب غزة، في عملية تضليلٍ تحاوَل فيها صرف الغضب والأنظار من مرتكب الجريمة إلى الضحية وتحميله المسؤولية. وثمة ملاحظة أخيرة لا تقلّ أهمية، وهي أنّ عرّابَيْ الثورات المضادة هما من أكبر وكلاء الدول الأعضاء في حلف النيتو، والداعِمَين بأشكال شتى للكيان، سواءً بالتطبيع أو بالتنسيق أو بالمتاجرة.

مأساة غزة تثبت لنا أن أكبر هاجس يقضّ مضجع نظام الاستكبار الغربي، يكمن في تحرّر الشعوب، سواءً من قبضتها مباشرة عبر حركات تحرّر مسلحة (مثلما يحدث الآن في غزة ضد قاعدتهما المتقدّمة، إسرائيل) أو بانتفاضات سلمية ضد وكلائها المحليين المعيّنين من طرفها أو المدعمين منها بما يؤكد عمليًا رفض قوى الاستكبار اختيار الشعوب لممثّليها وللمشاريع التي تحظى بثقتها، وتتجلى الصورة أيضًا في ما تبذله هذه القوى من جهود لإجهاض كلّ التجارب الديمقراطية التي كان من شأنها أن تنتج حكومات تمثل شعوبها، وترفض الانصياع لأجندات خارجية (انقلاب مصر 2013 والجزائر 1992 وفلسطين، غزة 2006).

خلاصة القول، يظلّ هدف تحرير الشعوب من قبضة وكلاء قوى الاستكبار، المفتاح لجميع الأزمات التي تمزق جسم الوطن العربي، وجاءت مأساة غزة لتبرز هذه الحقيقة، وتفند الأكاذيب التي زعمت أن الربيع الديمقراطي العربي كان من صنع النيتو والغرب عمومًا، وأنه جاء لتقويض سيادة هذه الدول “الوطنية العصية على حلف النيتو”. وفي هذا الصدد هل نُذكّر أصحاب هذه المزاعم، بالفزع الذي أصيب به محور دول النيتو، بعد فقدان الكنز الاستراتيجي الذي شكّله لهم مبارك على مرّ عقود من الزمن؟ وهل نُذكّرهم بالهلع الذي أصاب الكيان عند سقوط مبارك؟ ثم حالة الهيستريا التي أصيبوا بها بعد انتخاب مرسي، إلى درجة أنهم اعتبروا ذلك يرقى ليكون بمثابة نكبة تذكّرهم بالمحرقة؟ وهل نُذكّرهم أيضًا بعد نكبتهم تلك، “بالفتح المبين” الذي تحقق لهم بعد الانقضاض على هذا الرئيس المنتخب شعبيًا والإتيان بالسيسي، بتظافر مساعي ضخمة من أمريكا (عرّابة النيتو) مع الدول العربية (عرّابي الثورات المضادة)؟

بالمختصر المفيد، لا قوى الاستكبار الغربية (المجتمعة في حلف النيتو)، ولا الأنظمة العربية الوظيفية، تريد لمقاومة تحررية مستقلة أن تنتصر، فكلها تخشى أن تغري مثل هذه الانتصارات شعوب عربية أخرى وتشجعها على أن تقتفي أثرها على طريق التحرر من قبضة النظم المستبدة المحلية، وقد تحفزها على استئناف المقاومة السلمية وعودة حراك العشرية السابقة. 

في الأخير، مع مَن كان النيتو؟ مع الثورات العربية أم مع الثورات المضادة؟ أسألوا غزة… وبني صهيون، عربًا وعجمًا.

د. رشيد زياني الشريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد