د. رشيد زياني الشريف
حرب إسرائيل حماس. هذا هو العنوان الذي أطلقوه على ما يجري في غزة، توصيفٌ مصقول بعناية، يروّج له على نطاق واسع عبر الوسائل الدبلوماسية والسياسية والآلية الإعلامية الإسرائيلية الغربية وما يحيط بها من منابر وقنوات ذات مصالح وأجندات لا علاقة لها برسالة الإعلام. عنوان وتوصيف يُفرَضان على الجميع، يترجمان حرفيًا التوصيات المتضمنَة في المشروع الذي صقله أحد خبراء الدعاية الإسرائيلية تحت عنون “مشروع إسرائيل 2009، ” The Israël Project’s 2009, Global Langage Dictionary ” بقلم فرانك لنتز، الذي جعل على رأس قائمة هذه الأولويات “دق أسفين” وضرورة التمييز في خطاب كل متحدث باسم الكيان، بين حماس والشعب الفلسطيني، لتبرير كل ما سيقدمون عليه، أي تمامًا ما يحدث اليوم.
عنوان هذه الحرب فُرِض بالقهر وبترهيب كل من تُسوّل له نفسه التشكيك فيه أو محاولة إعادة صياغته بما يناقض السردية الإسرائيلية الغربية. وما ينطبق على توصيف ما تقوم به آلية التقتيل الإسرائيلية في غزة، ينطبق أيضًا على تركيزهم على تاريخ 7 أكتوبر باعتباره نقطة الصفر، والمنطلق الذي فرض “رد الفعل المشروع” وحق الدفاع عن النفس، دفاعٌ “مشروع” لمن يحتلّ شعبًا، و”مُحرَّمٌ” على من يرزح تحت الاحتلال. تمّ نسف عقود من الاحتلال والقهر والقتل في يوم، وتجميد المسار في تاريخ 7 أكتوبر، وكأنه خُلق من عدم ولم يسبقه شيء، وتجريم كلّ من يسعى إلى وضعه في سياقه التاريخي والمعيشي للشعب الفلسطيني، أو ربطه بمعاناة شعب يرزح تحت احتلال استيطاني إجرامي تجاوز 75 سنة، وحصار قاتل يدوم لأكثر من 16 سنة. تلك هي المعادلة، وهذا هو المشهد الذي أريدَ له أن يُهَيمن في سردية نقل أخبار الإبادة الجماعية وتهجير أهل غزة وتطهير عرقي لأرض فلسطين من سكانها.
من المعروف أنّ تسمية الأحداث مرتبطٌ بالهدف المتوخّى من طرف مَن يصيغ التسمية ابتداءً. فبعد 11 سبتمبر 2001 خاضت أمريكا حربها ضد العراق وأفغانستان تحت شعار “الحرب العالمية على الإرهاب”، وهي تعلم أنّ الفاعلين، لا هُمْ دولة العراق ولا أفغانستان لكن، لم يكن “مفيدًا لأمريكا” أن تصف حربها بأنها ضد العراق وأفغانستان، فلجأت إلى تغليفها تحت اسم الحرب على الإرهاب لتجرّ معها العالم في حرب ظالمة ضد شعبين بريئين، حربًا خلّفت مليوني قتيل، تبيّن لاحقًا زيف الذريعة التي استخدموها لشن هاتين الحربين، وطبعًا لم تعتذر أمريكا بعد افتضاح زيف تبريراتها، ناهيك عن التعويض وكأنّ دم العراقي والأفغاني من ماء.
فرنسا بدورها لجأت إلى نفس الطريقة لتسويق توغّل جيشها في دول الساحل، والتستّر على حقيقة مجيئها إلى المنطقة التي ترتبط أساسًا بحماية واحتكار موارد هذه الدول، وزعمها “محاربة الجماعات الإسلامية المتطرّفة”، حصان طروادة المعهود دائمًا. اللجوء إلى هذه المبررات/الخدع، أمرٌ مشترك في معظم الحروب التي تخوضها القوى الاستعمارية الإمبريالية، من خلال تصنيف كلّ من يعترض على مراميها بالإرهابيين، والمتطرفين، والبربريين وما إلى ذلك من الأوصاف. من هذا المنطلق تتجلّى استراتيجية الكيان الصهيوني في فرضه تسمية حرب الإبادة الراهنة، باسم حرب إسرائيل حماس، ومحاولة إبعاد عنها تسميتها الحقيقية، أي حرب إبادة الشعب الفلسطيني في عملية تطهير عرقي.
اختصرت هذه الاستراتيجية “العدو” في حركة حماس، بعد عملية تمهيد طويلة مدروسة وموثقة، عبر مراحل، أوّلها شيطنة حماس باعتبارها تنظيم إرهابي مُمَاثل لداعش، ومن ثمّ تصوير هذه الحرب على أنها حرب حضارة إسرائيل ضد همجية حماس، وحرب النور الإسرائيلي ضد الظلام الحماسي، والمدنية الإسرائيلية ضد البربرية الحماسية، تلتها المرحلة الثانية، كتحصيل حاصل، عزلها عن محيطها الفلسطيني، بغية شَرْعنة استئصالها، دون أن يعترض عليها أحدٌ. لكن آلية غوبلز الإسرائيلية، لم تصمد أمام الوقائع على الأرض والمحطات التاريخية والذاكرة الإنسانية، التي فككت هذه الخديعة وأظهرت الحقيقة جلية أمام العالم، على مرّ ستة أسابيع من الحرب البربرية ضد الشعب الفلسطيني قاطبة ودون تمييز على الأرض، وِفق تصريحات ساسة إسرائيل النافذين في أعلى مراتب الدولة، وليس أقلهم تصريح وزير الدفاع الذي طالب بإبادة من اعتبرهم “حيوانات، يجب التعامل معهم على هذا الأساس” أو رئيسهم الذي اعتبر الشعب الفلسطيني قاطبة مسؤولا عن أحداث 7 أكتوبر، أي كلهم إرهابيون. والآن دعونا نسأل هل فعلًا هجوم 7 أكتوبر يبرّر الإبادة الجماعية المستمرة، وهل الموضوع مرتبط بوجود حماس؟
المحطات التاريخية
أوّلًا هذه الحرب الاستيطانية والإبادة الجماعية لم تبدأ في 7 أكتوبر تاريخ عاصفة الأقصى، بل إنّ القتل والتهجير وبناء المستوطنات وانتشارها كالهشيم في النار مع قضم متواصل للأراضي الفلسطينية في الضفة والقدس وغلاف غزة، والإهانات المُمَنهجة الروتينية للفلسطينيين والتضييق والاعتقال بالآلاف، نساءً وأطفالًا وشيوخًا، كل ذلك لم يتوقّف منذ 1948، تاريخ “تأسيس” دولة إسرائيل على أرض فلسطين، مع الإشارة إلى أنّه طيلة هذه العقود من الزمن، لم تكن هناك لا حركة حماس ولا الجهاد ولا غيرها من منظمات المقاومة التي نشأت لاحقًا، بما يفنّد مزاعم إسرائيل أنّ ما تقوم به هو ردّ على “تخريب” هذه الجماعات.
ثم إذا رجعنا إلى العملية الأخيرة، طوفان الأقصى، وجعلها كأنها بداية كل شيء وكأن الفلسطينيين لم يكونوا تحت حصار شامل قاتل تفرضه إسرائيل من جهة، بمساعدة وتنسيق عملائها ووكلائها العرب على طرفي الضفة والقطاع، مصر والأردن، فكيف يبررون إذن ما يقترفه المستوطنون بحماية الجيش الإسرائيلي في الضفة من قتل وترهيب وتهديد، والاستيلاء على الممتلكات، علمًا أنّ حماس كتنظيم ونشاط في الضفة غير موجودة لتبرّر بها الجرائم؟ أليست الضفة تحت حكم فعلي للجيش الإسرائيلي بمساعدة ميليشية عباس، ورغم ذلك، قُتل أكثر من 200 فلسطيني في السنة الأخيرة فقط، ويستمرّ توسيع المستوطنات ويعثو المستوطنون فسادًا في ظل حماية الجيش الإسرائيلي؟
وحتى قبل ذلك، لنا أن نسأل متى تأسّست حماس؟ أليس في عام 1987 إبان الانتفاضة الأولى؟ وهل قبلها كانت إسرائيل في سلام مع الشعب الفلسطيني؟ ألم تقتل وتشرّد وتعتقل وتهجّر طيلة عقود منذ أن فرضتها أوروبا وأمريكا على فلسطين من خلال نشر أسطورة “شعب بلا وطن لوطن بلا شعب”؟
هناك خلاصة لكلّ هذه الأحداث: التسمية لها هدف واستراتيجية، بالنسبة لكلّ القوى الاستعمارية (بمفهومه القديم أو الحديث في أشكاله المختلفة)، فهذه القوى في مساعيها لاستنزاف خيرات الشعوب، تصيغ أوصاف (تُهم في واقع الأمر) تلصقها بدهاء لكل من يعترض طريقها، جماعات كانوا أم أفرادًا أم دولًا، تمهيدًا لشَرْعَنة محاربتهم عبر مسار جاهز، يمرّ بمراحل أربعة: (1) إظهارهم في وجه قبيح شرس لا يعرف الرحمة، أقرب إلى الحيوانات منهم إلى البشر (dehumanising)، (2) وصفهم بالإرهاب (labelising as terrorist)، (3) تليها مرحلة الشيطنة (demonising)، ومن ثمّ (4) جعل قتلهم والقضاء عليهم، أمرًا ليس مشروعًا فحسب بل ضروريًا ومطالبًا به على أوسع نطاق (legitimation)، بما يذكرّنا بسياسة الكيان تبريرًا لما يقوم به في غزة تحت اسم “قصّ العشب” (mowing the lawn)، وهنا يمكننا فهم رفض معظم قادة الدول الغربية وقف إطلاق النار، كونهم لا يرون في قتل آلاف المدنيين، نصفهم من الأطفال وربعهم من النساء، سوى كائنات أدنى من البشر، لا يرقَون ولا يستحقّون التعاطف وذرف الدموع عليهم، عملًا باستراتيجية آلية الحرب الإعلامية الدعائية المُعَدّة لهذا الغرض.
د. رشيد زياني الشريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد
