نظرا إلى الدعاية الواسعة النطاق التي يشنها النظام الجزائري ضد حركة “رشاد” الجزائرية المعارضة، والرقابة التي يفرضها عليها في وسائل الإعلام ومنعه الكتب وإرساله مذكرات اعتقال مُلفَّقة إلى الإنتربول بغية اعتقال مؤسِّسيها، فإن نظام بوتفليقة يشعر على ما يبدو بأن هذه الحركة تشكل له تهديدا. ولكن ما السبب؟ الأخضر غطاس يجيب على هذا التساؤل في مقاله التالي.
في مقال تم نشره مؤخرًا حول اعتقال محامي حقوق الإنسان والمعارض الجزائري رشيد مسلي يتساءل الصحفي روبرت فيسك: لماذا يضع جهاز الإنتربول نفسه في خدمة الطغاة العرب؟ رشيد مسلي مطلوب من قبل النظام الجزائري بمذكرة اعتقال تعود إلى عام 2002. وبالإضافة إلى مشاركته في تأسيس منظمة الكرامة – وهي منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان في العالم العربي، يعتبر رشيد مسلي كذلك عضوًا مؤسِّسًا في حركة رشاد، وهي حركة معارضة للنظام الجزائري.
قبل ثلاثة أعوام فقط حاول النظام الجزائري من دون جدوى حمل فرنسا على تسليم الدكتور مراد دهينة، وهو الآخر من مؤسِّسي حركة رشاد. وهنا أيضًا قدَّم النظام مذكرة اعتقال إلى الإنتربول. وهذا يثير السؤال عما إذا كان النظام الجزائري يخشى من استراتيجية حركة رشاد، التي تراهن على التغيير من خلال العمل الخالي من العنف – بصرف النظر تمامًا عن السؤال حول الدور الذي يلعبه هنا الإنتربول في الواقع.
فرِّقْ تَسُدْ!
نشأت هذه الحركة في عام 2007 من مجموعة ناشطين لهم خلفيات إيديولوجية مختلفة. ومنذ البداية كانت في بؤرة اهتمام جهاز المخابرات الجزائرية. وبعد عمليات القمع العنيفة للحركات المعارضة في التسعينيات، لجأت أجهزة الأمن الجزائرية إلى اتِّباع سياسة “فرِّق تسد”. ومن أجل ذلك راهنت الأجهزة الأمنية الجزائرية على الناحية الإيديولوجية واستغلت التوترات الاجتماعية.
وعلى الجبهة الدولية انضم النظام الجزائري إلى جانب حكومة الرئيس الأمريكي جورج دبيلو بوش في الحرب العالمية ضدّ الإرهاب، وقدَّم لحكومات غربية خدمات واسعة النطاق في شكل تعاون أمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية. وفي حين كان يتم وبشكل ممنهج إسكات القوى المعارضة داخل المجتمع، وذلك إمَّا عن طريق المشاركة في الاختيار أو عن طريق القمع، أصبح النظام الجزائري مقتنعًا بأنَّ الوقت قد حان لإسكات الأصوات المعارضة في الخارج أيضًا.
وهذا يفسِّر أيضًا تقديم النظام مذكرات اعتقال إلى الإنتربول ضدَّ مراد دهينة ورشيد مسلي، عندما أجمع قبل ستة عشر عامًا كبار ضباط الجيش الجزائري على تعيين عبد العزيز بوتفليقة رئيسًا للبلاد. لقد شكَّلت الحرب العالمية على الإرهاب وكذلك الصفقات الاقتصادية المربحة مع شركات الطاقة الغربية تلك الخطة التي وجدها النظام من أجل القضاء على ناشطي حقوق الإنسان الجزائريين والمعارضين السياسيين.
تحالف حركات احتجاجية غير متجانس
ولكن في الواقع لم تسر الأمور بسهولة مثلما تم التخطيط لها من قبل المخابرات. فحركة رشاد مثّلت تحديًا غير مسبوق على عدة مستويات. ربما كان من الممكن أن تكون مهمة جهاز الدعاية لدى النظام أسهل، لو كان بالإمكان تصنيف حركة رشاد ضمن تيار إيديولوجي واضح. ولكن لم تكن الحال كذلك: فمن بين مؤسِّسي هذه الحركة يوجد إسلاميون ويساريون وليبراليون على حد سواء.
هناك سبب آخر يشكِّل مصدر قلق بالنسبة للنظام ويكمن في التزام حركة رشاد باللاعنف كركن من أركان برنامجها منذ تأسيسها في لندن في شهر نيسان/أبريل 2007 – أي قبل أربعة أعوام من بدء الربيع العربي في عام 2011. لم يتأخَّر النظام الجزائري في الرد على هذه الحركة بفرضه الرقابة على موقعها الإلكتروني في الجزائر وبإطلاقه حملة شرسة ضدَّ قادتها حينما يظهرون في وسائل الإعلام.
كانت حملة النظام الدعائية تهدف إلى إلغاء اسم الحركة من الرأي العام، بينما كان يتم وبشكل ممنهج اتِّهام قادتها في الصحافة الجزائرية بالخيانة والتآمر. ومن جانبها سعت حركة رشاد إلى كسر هذه العزلة المفروضة على نشاطاتها، وذلك من خلال إطلاقها في عام 2009 موقعًا معتدلاً على شبكة الإنترنت، وإتاحتها للجزائريين بالتالي فضاءً عامًا بديلاً من أجل الحوار والتعدُّدية.
غير أنَّ هذا الموقع الإلكتروني لا يشكِّل تحديًا حقيقيًا، وذلك بسبب الرقابة المفروضة من قبل النظام على الوصول إلى الإنترنت في الجزائر. وعلى الرغم من نجاح النظام في فرض الرقابة على هذا الموقع، إلاَّ أنَّه ساعد الحركة في اكتسابها خبرات قيِّمة، أثبتت أنَّها مفيدة في المشهد الإعلامي الجزائري المتحوِّل بعد عام 2011.
قمع غير فعَّال
ولكن النظام الجزائري لم ينجح في جميع الجبهات. فعلى المستوى الأكاديمي أثبتت إجراءات القمع الشديدة أنَّها غير فعَّالة. وبفضل وجود شبكة واسعة من الأكاديميين والباحثين فقد تمكَّن مؤسِّسو حركة رشاد ومؤيِّدوها من إنشاء مشروع أكاديمي، يهدف إلى توثيق انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة من قبل النظام الجزائري في التسعينيات.
ومن هذه المبادرة نشأت مجموعة من الكتب والدراسات الأكاديمية حول الأزمة الجزائرية في التسعينيات. والآن أصبحت هذه الكتب والدراسات في الكثير من الجامعات مراجعَ علميةً تُستخدم لدراسة حلِّ الأزمات في شمال أفريقيا. وعلى سبيل المثال يعتبر كتاب “التحقيق في المجازر الجزائرية” An Inquiry into the Algerian Massacres، من المواد المفروضة قراءتها على طلبة قسم العلوم السياسية في جامعة إكسيتر، في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS وكذلك في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية LSE – هذا فقط لذكر بعض الجامعات البريطانية في هذا الصدد.
لقد حاولت القيادة في الجزائر منع توزيع هذه الكتب، بيد أنَّها مع ذلك لم تحقِّق أي نجاح إلاَّ في فرنسا في عهد حكومة رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق إدوار بالادور. وفي الواقع لا عجب من ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ وزير الداخلية الفرنسي السابق جان لوي دوبريه قد استمر في اتِّباع سياسة نظيره الأسبق شارل باسكوا. وفي آخر المطاف فإنَّ سلوك الحكومة الفرنسية قد ساعد في جعل هذه الكتب – التي تُشيد بها منظمات حقوق الإنسان والحقوق المدنية – تنتشر على نطاق أوسع.
المقاومة السلمية
عندما خرج الشباب العربي في عام 2011 إلى الشوارع وأسقطوا الطغاة من دون عنف، وجدت حركة رشاد مبرِّرًا يثبت صحة قرارها الذي اتَّخذته قبل أكثر من عقد من الزمن من أجل تبنِّي استراتيجية التغيير الخالي من العنف. ومع ذلك فقد كانت حركة رشاد حينها لا تزال تقف أمام مهمة تعبئة المجتمع الجزائري بشكل سلمي.
أعلنت الحركة عن إطلاق قناة فضائية خاصة بها وقد أصاب هذا الإعلان النظام الجزائري إصابة شديدة. وعلى الفور جاء ردُّ النظام الجزائري. حيث تدخَّلت بشدة حكومة عبد العزيز بوتفليقة وأجبرت شركة القمر الصناعي على إلغاء بثّ قناة “تلفزيون رشاد” قبل نصف ساعة فقط من موعد بدء بثها المقرَّر في الحادي عشر من حزيران/يونيو 2011.
ولكن مع ذلك فقد تمكَّنت حركة المعارضة بعد أربعة أشهر وعبر الطرق القانونية من إعادة بثّ قناتها الفضائية. وهكذا مهَّدت أوَّلُ قناة تلفزيونية معارضة في الجزائر الطريق لإنشاء عدد من المحطات التلفزيونية الخاصة. وفي عام 2013 اضطر النظام الجزائري إلى التخلي عن احتكاره الإعلامي وسمح بإنشاء محطات تلفزيونية خاصة في الجزائر. وبفضل مبادرة حركة رشاد، حيث بدأت الحركة بثها في عام 2009 بموقع متواضع على شبكة الإنترنت، صارت تبث اليوم أكثر من ثلاثين محطة تلفزيونية في الجزائر.
أدَّى فشل التحوُّلات السياسية في بعض بلدان الربيع العربي إلى الأحداث، التي سعى النظام الجزائري إلى إخفائها. فانقلاب عام 2013 في مصر وضع النظام الجزائري في موقف محرج، وذلك لأنَّ الانقلاب العسكري الجزائري، الذي وقع عام 1992، قد عاد فجأة وبعد عشرين عامًا إلى اهتمام الرأي العام الدولي، وذلك عندما كان يتم في التحليلات تحديد أوجه التشابه السياسية بين الانقلابين.
مهندسو الحوار السياسي في سانت إيجيديو
من انقلاب عام 1992 في الجزائر والحرب الأهلية الدامية التي تلته، يمكن اليوم استخلاص دروس مفيدة لكلّ من مصر وليبيا وسوريا – ومن هنا جاءت أهمية حركة رشاد. إذ إنَّ بعض أعضاء هذه الحركة كانوا من بين أهم مهندسي الحوار السياسي في سانت إيجيديو في العاصمة الإيطالية روما عام 1995، والذي كان من المفترض أن يساهم في إنهاء الأزمة الجزائرية. وفي تلك الفترة قاطع النظام الجزائري هذا الحوار، وإثر ذلك استمر الصراع في الجزائر خمسة أعوام أخرى.
نجحت استراتيجية اللاعنف في تعبئة قطاعات واسعة من الشباب الجزائري وقد مكَّنتهم من القيام باحتجاجات سلمية، لم يكن النظام الجزائري مستعدًا لها. فالحركة الشعبية للشباب العاطلين عن العمل والاحتجاجات المناهضة لاستخراج الغاز الصخري في جنوب البلاد، هما مثالان جديران بالملاحظة، تصدَّرا طيلة أشهر عناوين الصحف في الصحافة الدولية وأجبرا الحكومة على تقديم بعض التنازلات.
تفيد رسالة حركة رشاد بأنَّ أي تغيير في الجزائر يجب أن يبدأ بإصلاح العلاقات بين المجتمع المدني والعسكر – وهي تزيد بالتالي من صعوبة موقف النظام، العالق في صراع خطير على خلافته، خاصة وأنَّ هذه الرسالة تكسب المزيد من الجاذبية بين الشباب والمهنيين والمثقفين – وحتى بين أفراد الجيش.
الشباب الجزائري رهينة بيد النظام
في مقالة تم نشرها مؤخرًا حول التعامل مع النزاعات والصدمات الوطنية، توصَّل الأستاذ النرويجي يوهان غالتونغ – وهو مرجع معترف به في مجال الأبحاث والدراسات الخاصة بتسوية النزاعات – إلى الخلاصة التالية: “المستقبل ملك للذين يمكنهم أن يقدِّموا الرؤية الأكثر إقناعًا”. ويبدو أنَّ هذا هو بالذات ما تُقدِّمه حركة رشاد للجزائريين الشباب المصابين بخيبة أمل، والذين يعيشون في بلد لديه إمكانيات وقدرات كبيرة، ولكنه أصبح رهينة بيد نظام في مرحلته النهائية.
وعلاوة على ذلك فإنَّ هناك مؤشرات تشير إلى أنَّ استراتيجية حركة رشاد قد أدَّت إلى انقسام داخل النخبة الحاكمة: إذ إنَّ الكثيرين من أعضاء الحكومة السابقين باتوا يتبنون الآن بصراحة العديد من وجهات نظر حركة رشاد.
هناك ثلاثة عوامل تُفسِّر سبب تراجع هيبة النظام باستمرار لدى شرائح واسعة من الشعب. أولاً: المحسوبية المنتشرة لدى عائلة بوتفليقة ومن يحمونها ويسعون فقط إلى تحقيق مصالحهم الخاصة ولا توجد لديهم أية رؤية سياسية أو أيديولوجيا. ثانيًا: ما من شكّ في أنَّ بعض العسكريين الجزائريين يخافون على امتيازاتهم ويخافون كذلك من مساءلتهم عن جرائمهم إبَّان الحرب الأهلية التي استمرت عشرة أعوام. وثالثًا: العدد الكبير من الموظفين الحكوميين والضباط ورجال الأعمال في الجزائر، الذين نالوا ما يكفيهم من النخبة الحاكمة الفاسدة وصاروا يتحمَّسون على نحو متزايد لرؤية حركة رشاد.
الأخضر غطاس
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع Open Democracy 2015/ موقع قنطرة 2015 ar.qantara.de