مقالات

الاحتلال الإسرائيلي والاستبداد العربي، تحت رعاية غربية مشتركة

قلم د. رشيد زياني شريف

تعثو آلة القتل والدمار الإسرائيلية في أرض غزة فسادًا، تزهق أرواح الأطفال والنساء والشيوخ بالعشرات، وتدكّ البيوت بمن عليها، بدون حسيب أو رقيب، مطمئنة البال ومحمية من أيّ متابعة. طبعًا لا أحد يشكّ في أنّ هذا يعود بالأساس وفي الجزء الأكبر منه إلى الدعم اللامشروط من أمريكا والدول الغربية وهذا صحيح، لكن اطمئنان الكيان المغتصب، له تفسير إضافي، يستمدّه من تحييد جلّ الدول العربية والإسلامية بعد تكبيل شعوبها، سواءً القريبة منها أو البعيدة جغرافيًا، وقد شاهدنا نموذجًا من ذلك “التكبيل والتحييد” يوم الجمعة 13 أكتوبر 2023، عندما أقدمت قوى الأمن في الجزائر على تفريق آلاف المواطنين بالقنابل المسيلة للدموع والهراوات، خرجوا نصرة لأهل غزة وإدانة للجرائم الإسرائيلية، فضلًا عن محاصرة آخرين لمنع تجمّعهم وتعطيل وسائل النقل لإعاقة وصولهم إلى أماكن التظاهر.

يمكننا تلخيص معادلة الهمجية الإسرائيلية في دعائم ثلاثة:

أوّلًا، أمريكا، في ضوء ما يجري منذ 7 أكتوبر من تحيّز سافر وفاضح من طرف السلطات الأمريكية إلى جانب الجرائم الصهيونية، وإطلاق يد الكيان الصهيوني للمزيد من هذه الجرائم على مرأى ومسمع من العالم، لا زال الكثير يتساءل مَن يسيطر على مَن، أمريكا على إسرائيل أم إسرائيل على أمريكا؟ البعض يعتبر أمريكا مجرّد آلية ضخمة تابعة للكيان الصهيوني، تخدم مصالحه تلقائيًا ودون شروط، في حين يرى البعض الآخر أنّ إسرائيل مخلبٌ وظيفي تستعمله أمريكا كلّما احتاجت إليه، وموقعٌ متقدّم لها للدفاع عن المصالح الأمريكية في المنطقة، حيث اكتسب هذه الأهمية بعد سقوط دركي المنطقة، شاه إيران، بعد الثورة الإسلامية. لكن إذا نظرنا إلى الإمبراطورية الأمريكية التي قامت على إبادة شعب (الهنود الأصليين) واستعباد شعوب أخرى (الأفارقة المهجّرين من أوطانهم لخدمة الأسياد البيض) تحقيقًا للحلم الأمريكي، وما شيّدته من إمكانيات مهولة، وإذا نظرنا إلى سياساتها القائمة أوّلًا وأخيرًا على تحقيق مصالحها، يتّضح بجلاء أنّ كلّ خطوة تخطوها امبراطورية العمّ صام (بمن فيها دعمها لإسرائيل)، هي في الحقيقية تجسيدٌ لهذه العقيدة المصلحية حتى لو بدا في بعض الأحيان أنها تخضع للّوبي الصهيوني داخل وخارج أمريكا، وهذا طبعًا لا يعني أنه ليس هناك لوبي صهيوني فاعل ومؤثر، لكنه لن يجني ثمارًا إلا إذا كانت ضمن مصلحة العمّ صام أوّلًا، وليس ضدّه.

ثانيا، العواصم الغربية الأخرى التي لا تخفي انحيازها المطلق إلى جانب إسرائيل في كلّ ما تقترفه من جرائم بحجة “حق الدفاع عن النفس” في تناقض تام مع مزاعم هذه الدول في دعم القرارات الأممية التي تنتهكها إسرائيل، والتزامها بالقِيَم الإنسانية ودعم حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وانتزاع حريتها وسيادتها، ومردّ هذا الاصطفاف الغربي السافل هو أنّ معظم هذه العواصم لا تزال مكبّلة بعقدة نفسية وشعورها بالذنب والمسؤولية عمّا حدث لليهود على يد محاكم التفتيش (إسبانيا والبرتغال الأوربيتين) في القرن الخامس عشر، والتقتيل الجماعي في القرن العشرين في الحقبة النازية (ألمانيا الأوروبية)، فضلًا عن استفادة هذه الدول الغربية من تواجد إسرائيل في المنطقة لتأمين مصالحها هي أيضًا.

هذا الاصطفاف والدعم المطلقين من أمريكا والدول الغربية عمومًا ليس بالجديد، مثلما شهدناه على مرّ عقود من الاحتلال والاستيطان الاسرائيليين، وأيضًا في الحروب الظالمة الإجرامية ضد الشعبين العراقي والأفغاني، لكن ثمة عنصر من الجدير التذكير به، يخصّنا على وجه التحديد، يتمثّل في طرف ثالث يرتبط مباشرة بفداحة وجرأة موقف وتصرّف هذه الدول الغربية إزاء القضايا العربية الإسلامية (وفلسطين في مقدمتها)، وما كان لهذا التصرّف أن يتمّ، أو على الأقل ليس بهذه العنجهية، لولا قيام هذه الجهات الغربية بتأمين أرضية مواتية أساسية، تتمثل في الدعامة الثالثة، وهي تحييد الشعوب العربية والإسلامية من أيّ حركية أو قرار أو إرادة داخل أوطانهم، من خلال فرض أنظمة وحكومات وسياسات، تُقصي الشعوب بحيث يسهل التصرّف والتحكّم في رؤوس هذه الدول ومن ثَمّ إخضاعها التام لأجندتها في المنطلقة. ولو قمنا بنظرة خاطفة حول غزة، لرأينا أنّ إسرائيل مثلًا تفعل ما تفعل مطمئنة من الدور الذي تقوم به الدوَل المجاورة، فالضفة الغربية تحت القبضة الأمنية لمليشيات عباس المشكّلة بموجب اتفاق دايتون، والأردن تحت قيادة مخلب من مخالب أمريكا، ومصر خاضعة تمامًا لإسرائيل وأمريكا، وتقوم بدور “الخانق” العربي الأكثر شراسة ضد الفلسطينيين. لكن محاصرة الفلسطينيين عربيًا وإسلاميًا لا يتوقّف عند هذه الجهات العربية الثلاثة، بل يشمل معظم الدول العربية والإسلامية، التي يُعيَّن لها رؤساء وحكومات في العواصم الغربية، بما يخدم مصالحها، أوّلًا من خلال استنفاد خيراتها ومواردها في ظروف جدّ مريحة ومربحة لهذه القوى، لقاء دعمها لهذه الأنظمة وحمايتها ضد شعوبها، وثانيًا، تُسَخّر هذه الأنظمة الوظيفية، عن طريق أجهزتها الأمنية والعسكرية، لمحاصرة وتسييج كلّ حركة من هذه الشعوب، خشية انتفاضتها وثورتها ضد توجّهات ظالمة من قِبَل العواصم الغربية وأمريكا إزاء القضايا العربية والإسلامية المشتركة، مثل قضية فلسطين والعراق وأفغانستان وكلّ القضايا التي لا زالت حية في الوعي والوجدان العربي الإسلامي.

لم يتضح مثلما هو اليوم، ذلك الترابط العضوي الوثيق بين من جهة الاحتلال الإسرائيلي مع غطرسته وهمجيته منقطعة النظير، ومن جهة ثانية الاستبداد العربي المُمْعِن في قمع حركية وسيادة الشعوب، وكلاهما تحت رعاية العواصم الغربية. لولا هذا الاستبداد الهيكلي الوظيفي في الوطن العربي والإسلامي، الموكَل إلى أنظمة لا علاقة لها بتطلّعات شعوبها ولا تحظى بشرعية خيارها، لما تجرّأت إسرائيل (ولا داعموها) على فعل ما تفعله بحق العُزّل المحاصرين في غزة وإذلال أهل الضفة الغربية وقمع أهل القدس، غير عابئة لا بالمواثيق الأممية ولا بالاتفاقيات الثنائية ولا بالمعاهدات الدولية، في استفزاز تام للجميع مدركة أنها محمية من سادة العالم ولن يجرؤ أحد على وقف غطرستها.

هذا الترابط العضوي بين احتلال فلسطين واستبداد الأنظمة العربية، قد تبيّن حجمه وعمقه أثناء الربيع العربي، من خلال الذعر الذي شعرت به إسرائيل لأوّل مرة، بشكل أكبر حتى من فزعها في حروب 67 و73، رعبٌ أفقدها صوابها وأشعرها بقرب زوالها، عندما خرجت الشعوب تُطالب بالتغيير الجذري وإسقاط الأنظمة المستبدّة الوظيفية التي تخدم مشروع إسرائيل من خلال كتم أنفاس الشعوب العربية، وشلّ ديناميكيتها، وكان أوج هلع إسرائيل سقوط وكيلها المصري مبارك ورصيدها الاستراتيجي الرئيسي، وانتخاب الشعب المصري لأوّل مرّة رئيسًا مدنيًا يمثّل الغالبية من الشعب، ولا يرتبط بالمشروع الصهيوني ولا بمخرجات أوسلو، ممّا جعلها تشعر بأنها محاصرة في محيط غير مطمئن لحمايتها مثلما كان منذ عهد السادات وإلى يومنا هذا، ويفسّر لنا أيضًا ذلك الارتياح والفرحة العارمة التي غمرت الكيان الصهيوني بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب وسطو السيسي على الحكم، بدعم ومباركة أمريكية غربية، لتعود لها السكينة والاطمئنان.

هذه المعادلة الثلاثية توضّح لنا كيف أنّ الاحتلال الإسرائيلي والاستبداد العربي، يغذّيان بعضهما البعض، وكلاهما يدرك أنّ قوة أحدها تخدم الثاني، وسقوط أحدها قد يتبعه سقوط الثاني، بما يفسّر ترابطهما المصيري وتنسيقهما الأمني، سواءً بالتطبيع السياسي أو الاقتصادي أو عبر الوسطاء، كما أنّ هذا الترابط يجد تعزيزًا قويًا من العواصم الغربية التي تدرك بدورها أنّ سقوط الاستبداد العربي واستبداله بأنظمة ديمقراطية شعبية ذات سيادة حقيقية، يضع أوّلًا الصلف الإسرائيلي على المحكّ وأمام مسؤولياته إزاء ما يرتكبه من جرائم ويجعله يفكّر مليًا قبل الإقدام على ما يقوم به، وثانيًا، أنّ تحرّر الشعوب يجعل من هذه العواصم الغربية تفقد الكثير من المصالح غير الشرعية في هذه البلدان، وهو ما يفسّر وقوفها ودعمها لكلّ الدكتاتوريات العربية (أنظمة مصر وتونس وسوريا والجزائر وغيرها من الأنظمة في العالم العربي، رغم  معرفتها بطبيعتها الدكتاتورية المطلقة). ولم يكن غريبًا ولا مفاجئًا، وقوفها إلى جانب كلّ الانقلابات (مفارقة كبرى) التي تقوم بها طُغم عسكرية تدين لها بالولاء، ولنا في دعمها الانقلاب العسكري في الجزائر في 1992، ووقوفها ضدّ فوز حماس في فلسطين في 2006، ودعمها لانقلاب السيسي في مصر في 2013…

رشيد زياني شريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد