سأروي لكم حكاية ذات مغزى كبير – في الحقيقة أعيد التذكير بها لأنها معلومة لدى الكثير منكم –، وأهميتها مضاعفة في ضوء ما يجري في غزة والأراجيف المنتشرة بين مرضى القلوب، خاصة من بني جلدتنا، الذين يُحَمِّلون الضحية وزر ما يقترفه المجرم في غزة، ويؤرّخون لمأساة غزة بحدث طوفان الأقصى، ويكرّرون على مسامعنا رواية الصهاينة من كلّ الأجناس، مع تجاهل متعمّد لمأساة عمرها 75 سنة من الاحتلال الغاشم لفلسطين، ولحصار عنصري قاتل لغزة منذ 2006.
القصة: في بدايات ثورة العبيد بأمريكا انقسم العبيد إلى صنفين: عبيد الحقول وعبيد المنازل. قرّر عبيد الحقل التحرّر من العبودية مهما كانت التضحيات، فتّم تجويعهم وحرقهم أحياءً، وتعليقهم على جذوع الأشجار، لكنهم رغم كلّ ذلك صمّموا على أن يعيشوا أحرارًا وعرفوا أنّ للحرية ثمن لابد أن يُدفع! أمّا عبيد المنازل (أي من يخدمون في المنازل) فآثروا العبودية طلبًا للسلامة، فالأكل مجانيٌ والتدفئة متوفّرة. تطوّرت ثورة أحرار المزارع فاستُنفر البيض وبدأت مظاهر العنصرية بالتوحّش إذ تمّ إذلال حتى عبيد المنازل رغم صمتهم وخضوعهم وقناعتهم بحياة العبودية بل وصل الأمر إلى اعتقالهم وحرقهم إن وُجدوا في أماكن تجمّع البيض..! فألقى عبيد المنازل باللوم على أحرار المزارع واتهموهم بأنهم السبب وأنهم هم من جلبوا لهم المعاناة والجوع والموت بتحرّكهم وبصرختهم في وجه العبودية.
استمر نضال أحرار المزارع حتى حصلوا على الحرية وقامت الحرب الأهلية وحُرّر كلّ عبيد أمريكا وأصبحوا أحرارًا يتمتّعون بحقّ المواطنة المتساوية في أمريكا…!
عبيد المنازل اليوم ينعمون بالحرية التي لم يشاركوا في صنعها بل انتقدوها وحاربوها ويشعرون اليوم بالامتنان لمن رفعوا صرخة الحرية ..!
يمكننا اليوم القول أنّ عبيد المزارع والمنازل ليست قصة من ماضي أمريكا العنصرية السحيق، وليست قصة قد لفّها الزمن، بل إنها قصة متجدّدة، ونعيشها اليوم في الوطن العربي مترامي الأطراف، في شرقه وغربه، ونشهد ملامح تلك القصة وتجلياتها في تلك الحشود من المخلوقات التي تلعن كلّ من قاوم وثار و”جلب لهم المصائب” بعد أن كانوا “ينعمون بالغذاء والتدفئة” تحت جناح أسيادهم… لكنهم سيحصلون يومًا ما على الحرية رغما عنهم وسيشكرون من رفض وثار وقاوم ولو بعد حين.
كما يمكننا إسقاط هذه القصة على وجه الخصوص على احتلال فلسطين وحصار غزة، فيتضح لنا جليًا، أنّ وضع أهل غزة المحاصَرة يشبه انتفاضة عبيد المزارع مثلما أهالي وحكومات الوطن العربي يماثلون وضع عبيد البيوت. وما يمكن ملاحظته أيضًا هو أنّ الحصار لا يخصّ غزة وحدها، بل يشمل في واقع الأمر الجميع، لكنه يختلف في نوعيته، في نكهته، بين حصار يقاومه عبيد المزارع الغزّاوية ويدفعون الثمن، وحصار ناعم يرضى به وينعم بدفئه عبيد وطن العربي الشاسع، وفي نهاية الأمر، فمثلما حرّر عبيد المزارع جميع العبيد بمن فيهم عبيد البيوت، فإنّ حصار غزة أقرب إلى تحرير محاصَري الوطن العربي، من الفرضية المعاكسة.
المشروع الاستعماري لا يقبل أيّ شكل من المقاومات
إنّ ما يحدث اليوم هو استمرار للذهنية الاستعمارية العنصرية، التي تواصل مشروع ومهمّة قهر عبيد المزارع بأشكال مختلفة، ولهذا السبب لا تريد للمقامة الفلسطينية، ولا تتحمّل احتمال انتصارها، حتى لا تتسع رقعتها وتفقد هذه القوى هيمنتها التي لا تستطيع استدامتها من دون حكومات “عبيد البيوت” على غرار عباس رام الله وعبد الله عمان وسيسي القاهرة وغيرهم، ومثلما أجهضت هذه القوى المتجبّرة كلّ التجارب الديمقراطية الحقيقية التي تمخّضت عن إرادة شعبية فعلية، حريصة على الدفاع على مصالحها قبل غيرها، ووضعت بدلها حكومات وظيفية، على غرار انقلاب الجزائر في يناير 1992 على أوّل انتخابات تشريعية تعدّدية حرة ونزيهة، والانقلاب ضد انتصار حماس في غزة في أول وآخر انتخابات تعددية، علما أن هذا الانتصار الديمقراطي في 2006 الذي جاء بنتائج معاكسة لِما تريده هذه القوى، تمّت مواجهته بفرض الحصار الإجرامي على أهل غزة منذ ذلك التاريخ، وكان من جملة الأسباب التي جعلت الشعب الفلسطيني ينتفض ويقاوم لرفع الغبن والحيف عنه، وثالث الانقلابات كان في مصر، في 2013 على أوّل وآخر رئيس مدني منتخب بطريقة ديمقراطية (الشهيد محمد مرسي). وكانت هذه القوى الديمقراطية المزعومة أكبر سند وداعم لجنرالات الانقلاب، مع ضمان حماية وكيلهم ورصيدهم الاستراتيجي في المنطقة، وجعله يسخّر جيشًا قوامه مليون جدني، لحماية إسرائيل، بل والمشاركة في حصار أهل غزة وقتلهم البطيء منذ ذلك الحين، مثلما يفعلونه اليوم بحق شعب يُقتل بالقصف داخل المحتشد ويُمنع عنه من “الشقيق العربي” كل أسباب الحياة بما يرقى إلى الجريمة ضد الإنسانية. فهذه الأمثلة الثلاثة، تكشف حقيقة ومرامي هذه الدول، حيث نراها اليوم، بزعامة أمريكا وسند فرنسا وبريطانيا وألمانيا، تقوم بتكرار نفس العملية، وبذل كل ما في وسعها، متحدّية فداحة المشهد واعتراض العالم في كل قاراته الخمس، لمواصلة حربها الوجودية، لكي لا تفقد زمام الأمور وهيمنتها على العالم. وبممارستها الفاشية هذه، تحرص على أن تجعل من إبادة غزة (عقابًا على تمردها)، لا قدر الله، مثلًا وتحذيرًا لكلّ من تسوّل له نفسه، السير على طريق ثورة عبيد المزارع، وتحثّهم على الدخول في الصف وقبول عيش عبيد البيوت؛ لكن في نهاية المطاف كلّنا يعرف لمن كانت الكلمة الأخيرة، لعبيد المزارع أم عبيد البيوت؟ هم يعرفون، ونحن نعرف، والتاريخ سجال.
بقلم د. رشيد زياني شريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد