د. رشيد زياني الشريف
يقال أن الأفكار تنتقم مِمَن يخونها، وكذلك القيّم والمبادئ بمن يغدر بها؛ فمنذ 7 أكتوبر، بات واضحا أن “الديمقراطيات الغربية”، أصابت في مقتل هذه القيّم التي كانت تتبجح بها وتدعي السعي إلى نشرها في العالم، بعد أن داست عليها في أجرم وجه شهِده التاريخ المعاصر، إلى درجة، أصبحنا نشاهد ونسمع، أصوات غربية رسمية تطالب بمزيد من الدمار والدم والقتل، وتحاصر وتتهم وتُجَرِم كل صوت يطالب بوقف اطلاق النار لوقف معاناة شعب أعزل محاصر، يقتل على المباشر أمام أعين العالم، ونسمع تعالي نداءات الانتقام والحقد قلّ نظيرها، مما جعل العالم قاطبة يقف مندهشا لا يكاد يصدق ما يسمع ويرى، أمام ك التناقض السحيق بين ما ادعته هذه العواصم طيلة عقود وما تصرح به اليوم وتتبناه من مواقف منذ أسبوعين.
مثال صارخ عن هذا النفاق، تجسده واشنطن في تأييدها ليس للجرائم الإسرائيلية فحسب بل أصبحت منذ طوفان الأقصى مشاركة في هذا العدوان بِما يجعل كل حديث منها عن الديمقراطية والحريات، مهزلة أمام الشعوب العربية والإسلامية، بل وحتى أمام شعوبها، كما أن انحيازها السافل إلى جانب إسرائيل ودعمها بلا تحفظ، يقضي على نفوذها في كافة الأقطار العربية ويفقدها أي إمكانية لتكون الوسيط المحايد بعد أن كشفت بوضوح عدائها التام إلى جانب الصهاينة، ويفسح المجال لتحل محلها قوى كبرى، مثل الصين وروسيا وحتى إقليمية مثل تركيا وإيران وغيرها. إن عمى واشطنن في تحيزها للصهاينة، جعلها أكبر خاسر في المعادلة بعد خسارة الصهاينة التاريخية.
أحداث 7 أكتوبر لم تحدث من فراغ، بل فرضتها 75 سنة من الاحتلال و16 سنة من الحصار القاتل
“إن مسؤولية ما حدث خلال عطلة نهاية الأسبوع (7 أكتوبر، في المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة) تقع على عاتق كل أولئك الذين اعتقدوا بأن الأجيال المتعاقبة من القادة الإسرائيليين يمكنهم أن يصنعوا في الفلسطينيين ما شاؤوا، أن ينكلوا بهم، قمعا وإذلالا واعتقالا وقتلا، ثم يفلتون دون عقاب ولن يسألوا عن كل ما فعلوه. وتقع المسؤولية على عاتق كل أولئك، بما في ذلك معظم الطغاة العرب، الذين توّقفوا عن التفكير في الفلسطينيين كشعب، وسيتعلم كل منهم لا محالة، درسا مؤلما في الأسابيع والأشهر القادمة“. بهذه المقدمة ثقيلة الدلالة افتتح دايفيدهيرست مقالته قبل أيام، في نعي المجتمع الغربي وطريقة تعامله مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة جماعية على مرأى العالم.
أما الكاتبة حنين حسن، من الجامعة الامريكية في بيروت، كتبت مقالة تحت عنوان: الحرب الإسرائيلية الفلسطينية: المذبحة الجماعية في غزة، تكشف عمق العنصرية الغربية، وتحيل الكاتبة جذور دعم الدول الغربية للقصف الوحشي والعشوائي لغزة في السياق التاريخي للاستعمار الاستيطاني الغربي. وتوّضح هذا الموقف الغربي، تقول “يبدو أن النضال من أجل الحرية والتحرر فكرة بعيدة المنال وتظل خارج نطاق الفهم الغربي السائد، رغم كونها مسألة واضحة وبسيطة“.
في لحظة مفاجئة، عقب الهجوم غير المسبوق الذي شنه المقاومون الفلسطينيون ضد إسرائيل، بعدعقود من الاحتلال الإسرائيلي والحصار الذي دام 16 عاماً على غزة، ظهر الوجه الحقيقي للفاشية الغربية وتحطمت واجهة سنوات من المزاعم الغربية لحقوق الإنسان والديمقراطية والمواقف الأخلاقية العالية في الشرق الأوسط. وبين عشية وضحاها، تحالفت الحكومات الغربية لدعم العنف الجماعي ضد المدنيين الفلسطينيين، بل ووجدنا البعض منهم يذهب أبعد من ذلك ويؤيده بحماسة كبيرة.
تواصل الكاتبة ” لعقود من الزمن، ظلت الحكومات الغربية صامتة إزاء المشاهد المصوّرة لجثث الأطفال الفلسطينيين الذين قُتلوا على أيدي الجيش الإسرائيلي، واليوم، يبدو أنهم قرروا أن جميع الفلسطينيين وأطفالهم يستحقون الإبادة الجماعية لأن الفلسطينيين اختاروا المقاومة. في حين يدرك الأوروبيون جيدًا مفهوم المقاومة، وقد احتفلوا أنفسهم بحركات المقاومة لديهم في الحرب العالمية الثانية وغيرها من الصراعات التاريخية، ولا زالوا يكَرِمون أولئك الذين خاضوا مثل هذه المعارك، ويحتفون بهم كأبطال في كتب التاريخ الأوروبية، وبالتالي، لا يوجد منطقيا سبب يمنع السياسيين والصحفيين والمحللين الغربيين من فهم سعي الفلسطيني للحصول على الحرية، ناهيك عن التعاطف معهم“، في الواقع موقفهم هذا يذكرنا بالمثل الشهير “صداقة الثعلب مع الأرنب تنتهي عندما يجوع”.
تجريد “الآخر” من إنسانيته
حتى عام 1990، كانت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة لا تزال من أشد المدافعين عن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ونجحت في إحباط أي مقترحات من المجتمع الدولي لإنهاء النظام المؤسسي للفصل العنصري. وليس مفاجئا أن نرى أن هذه هي نفس الدول التي تدّعم اليوم بشكل كامل، دبلوماسيا وعسكريا، نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. وكما أخبرنا إدوارد سعيد، فإن مصطلح “الشرق” ابتكره الغرب، ومفهوم الغرب نفسه يدور حول فكرة “الآخر”. يقول سعيد، تهدف حركة حشد الخوف والكراهية والاشمئزاز والكبرياء والغطرسة – الموّجهة في معظمها ضد الإسلام والعرب من جهة، و”نحن” الغربيين من جهة أخرى – إلى التغطية على العنصرية المتأصلة بعمق داخل النسيج الثقافي للمجتمعات الاستعمارية الاستيطانية، كما تجسده اليوم إسرائيل. وقد تبيّن ذلك جليا خلال الأيام القليلة الماضية عندما عبّر الصحفيون والسياسيون والأكاديميون والمحللون الغربيون علنًا عن عقليتهم العنصرية والاستعمارية الاستيطانية من خلال تجريد الضحايا الفلسطينيين من إنسانيتهم بشكل منهجي (وليس أقلها تصريح وزير دفاع الكيان الصهيوني الذي اعتبر الشعب الفلسطيني حيوانات يجب التعامل معها وفق ذلك، أي تمهيدا لشرْعنة قتلهم) وتمجيد العنف الاستعماري ضد المدنيين الأبرياء في غزة، دون أن تثير تلك التصريحات العنصرية الإجرامية أدنى انتقاد من هذه الأطراف ناهيك عن الإدانة.
تختم الكاتبة مقالها، بالإشارة إلى أن إسرائيل هي آخر مستعمرة استيطانية في آسيا وإفريقيا، وأن بقاءها يشكل أهمية بالغة للحملة الصليبية الأميركية والأوروبية ضد “جحافل البرابرة” غير الأوروبيين الذين يصّرون على مقاومة الحكم الاستعماري.
نائب بلجيكي مُخاطبا ممثلة حكومته: لماذا هذا النقاق، لماذا لا تدين حكومتنا الهجوم الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني؟
وبشأن هذا النفاق الغربي المتعاظم، ثار نائب بلجيكي في وجه وزيرة في حكومة بلده بقوله “لمّا يتعلق الأمر بروسيا، تتهاطل الدعوات لفرض عقوبات عليها، لمّا يتعلق الأمر بإيران، هنا أيضا تتسارع دعوات للعقوبات، لكن، عندما تعلق الأمر بفلسطين فلا أحد يجرؤ على طلب معاقبة إسرائيل، ولا حتى مجرد إدانة من قبل حكومتنا، ولهذا السبب أصبحتْ كافة الشعوب في دول الجنوب تنظر إلى مواقف العواصم الأوروبية وأمريكا، عل أنها منافقة، وهم على حق، إن الشعوب الإفريقية والأسيوية، ينظرون إلينا ويقولون، لماذا كل هذا النفاق، وهنا أسأل السيدة الوزيرة، لماذا الحكومة البلجيكية هي أيضا منافقة ولماذا لا تدين الهجوم الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني. أوقفوا هذا النقاق، وحان الوقت لنقولها بوضوح، من حق الشعب الفلسطيني في الحرية، هذا ما يجب قوله، ولهذا لا بد من إدانة إسرائيل“.
نفس الشعور عبّر عنه الباحث لأكاديمي الفرنسي، باسكال بونيفاس، يقول “من الغريب أن نرى الإدانة السريعة والقوية عندما تقصف روسيا المدنيين في أوكرانيا، ولا ننبس ببنت شفاه عندما تقصف إسرائيل المدنيين، بالآلاف في غزة، وهذا مما يزيد في عزل الدول الغربية، بشأن تعاملها المزدوج إزاء القانون الدولي، وذلك بحسب ارتباطه بمنافسي الغرب وخصومه أو تعلق بإسرائيل، وتصر دولنا على مواقف أخلاقية عندما تتعرض أوكرانيا للقصف والسكوت عنها عندما يتعلق باعتداءات إسرائيل على فلسطين، وبهذا التناقض، يفقد الغرب أي مصداقية في دعواه، مما يجعل العواصم الغربية في موقع أعرج وغير مبرر، لكن علينا أن ندرك، أن ما كان يمكن لهذه الحكومات فعله من قبل، لم يعد ممكنا اليوم بعد أن اصبح العالم غير الغربي مهتما ويتابع ويرى ما نفعل“.
هل رِدة الغرب على قيم ومبادئ الديموقراطية، تجعلنا ندير ظهرنا لهذه القيم والمبادئ؟
مثل هذه الرِدة عن الديمقراطية تخدم للأسف مصالح واستراتيجيات كل الدكتاتوريات مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية وغيرها من دكتاتوريات العالم التي لطالما أقلقتها المجتمعات المتفتحةالتي لا تخشى نقاش لأفكار وتبادل التجارب وعدم الخوف من الآخر. كما أن انتكاسة منظومة الغرب (الحكومات بالأساس) عن قيمه المُعلنة، يعزز موقف كل من لم يفوّت فرصة لإقناعنا بأن الديموقراطيات غريبة عن قيمنا وثقافتنا وكأنه يريد القول، أنه أولى لنا وأفضل، الرضوخ تحت حكم أنظمة فاشية قمعية محلية، ونعيش في ظل شعاراتها الفارغة. هنا تًطرَح إشكالية كبرى وامتحان مفصلي، هل محنة الديمقراطية الغربية وسقوط ساستها عند عتبة غزة، في دعمها الفاشي اللامشروط للاحتلال الاسرائيلي وتنكرها لكل المبادئ التي تبجحت بها، هل معناه ذلك أنه يجب علينا ان ندير ظهرنا للديمقراطية ونغسل أيدنا منها بحجة أن أهلها انقلبوا عليها، أم أن الآن أكثر من أي وقت مضى، نحن في أمس الحاجة إلى تبني حقيقة قيمها ومبادئها، رغم خذلان وتخاذل أصحابها وكل من تزعّمها باطلا؟ التمعن في هذا الإخفاق الغربي، وعدم ارتقائه إلى المستوى الذي كان يدعي تمثيله، وسقوطه في امتحانات ميدانية، وخاصة في الأزمة الحالية في غزة، يزيد من حرصنا على هذه المبادئ التي تتجاوز أدعيائها وتبق إرثا إنسانيا بشريا، وليس غربيا، وأخذ منه أحسن ما يوّفره، خدمة ورعاية لحقوق الشعوب والحفاظ على تماسكها، ولأدل على ذلك، أصوات مثل أصوات النائب البلجيكي والأكاديمي بونيفاس وغيرهم من الغربين الكُثُر، الذين دقوا ناقوس الخطر، وحذروا حتى من أفول نفوذ وكيان عالمهم الغربي.
د. رشيد زياني الشريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد
