رؤية رشاد

غزة تدفن أوسلو

رشاد، 29 أكتوبر 2023

انقضت ثلاثون سنة ‏على معاهدات أوسلو التي أغرت الفلسطينيين بحلٍ واعدٍ بقيام دولتين. لم تكن حماس وقتها أكثر من أطفال انتفاضةٍ يقذفون الحجارة، ومع ذلك تكاثرت المستوطنات كالفطريات وازداد الاستحواذ على الأراضي وقمع الفلسطينيين. منذ 2006 ترزح غزةّ تحت الحصار؛ لا يوجد من شعوب المنطقة اليوم من يؤمن بحل الدولتين – عدا الأنظمة الدمى – ناهيك عن الفلسطينيين أنفسهم. إنّ السابع من أكتوبر 2023 هو نقطة مفصلية ستغيّر منحى الأحداث إلى الأبد. كانت هناك فرصة لتحقيق سلام دائم لو أنّ الربيع العربي تقدم بحرية ولم يُعَرْقل ولو أنّه أفرز حكومات ممثلة لشعوبها، لكن بدل ذلك حيكت ثورات مضادة موّلتها الأنظمة العميلة في المنطقة ومنحتها الحكومات الغربية غطاءًا سياسيًا.

لدى الكثير من المعلّقين في وسائل الإعلام الرئيسية وكذلك الباحثين في مراكز الأبحاث قصور في الذاكرة، أو أنهم يتناسون الحملات القمعية الإسرائيلية السابقة: حملة “الرصاص المصبوب” من ديسمبر 2008 إلى يناير 2009، و”إعادة الصدى” و”عمود السحاب” في 2012، ثم “الجرف الصامد” في 2014، إلى “الحزام الأسود” في 2019، تلاه القصف المدفعي في رمضان الماضي وتوغلات واستفزازات اليمين المتطرف في الأقصى منذ انضمام اليمين الديني المتعصب للحكومة الحالية في تل أبيب. في الصائفة الماضية تعرضت الضفة الغربية لحملة قمعية وحشية من طرف الجيش والمستوطنين وسط صمت دولي متواطئ يصمُّ الآذان. إنّ أيتام حملة “الرصاص المصبوب” الذين ترعرعوا في أحداث الربيع العربي هم الذين نراهم اليوم في صفوف حماس.

إن شعوب المنطقة وخاصة الشباب، الذين يشاهدون الإبادة الجماعية في غزة على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الإجتماعي يرون ما يلي: الإعلام الرئيسي في الغرب ومستنسخاته في المنطقة يتفوقون في التضليل والدعاية المغرضة، وكذ الاستهتار التام بحياة الفلسطينيين؛ هذا الإعلام يصف أولئك الذين قُتلوا في غزة بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل بأنهم موتى ببساطة (كما لو أنهم تَوَفًّوا لأسباب طبيعية أوإثر كوارث)، في حين أن الآخرين: قُتلوا على يد حماس. حتى أنّ أساسيات التغطية الصحفية الموضوعية قد أُسْقِطَتْ والأصوات المخالفة أُسْكِتَتْ: فَمُعظم وسائل الإعلام الغربية الثقيلة تتبنى بشكل أعمى الرواية والافتراءات الإسرائيلية، وتخشى الاعتذار عندما يتبين أنها مخطئة ببساطة، كما في حالة صحيفة نيويورك تايمز، التي اعترفت أخيرًا بتقاريرها المضللة عن صاروخ المستشفى المعمداني، أو صحيفة وول ستريت جورنال، التي تعيش أزمة غرفة الأخبار بسبب التقرير عن مسؤولية إيران عن منح الضوء الأخضر لهجوم السابع من أكتوبر، أو العديد من الصحفيين الذين طردتهم هيئة الإذاعة البريطانية.

نجح القليل من قنوات تلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي مثل قناة الجزيرة العربية، تويتر(إكس) وتيليجرام في كسر هذا السرد الأحادي الجانب. أما على فيسبوك وإنستغرام فيتم حجب أو حذف أي محتوى يتعلق بغزة أو فلسطين. يبدو أن المكّارثية قد أُعِيدَ إحياؤها: يُطرد صحفيون وأكاديميون جامعيون ولاعبو كرة القدم ومشاهير من مناصبهم المهنية في الغرب لمجرّد ذكر الهجمات في غزة أو حتى الإشارة إلى الحقائق من قبيل 7000 قتيل منهم 3000 طفل (من الذين تم توثيق أسمائهم وأرقام هويتهم ونشرها في 26 أكتوبر من قبل مستشفيات غزة بعدما أبدى الرئيس الأمريكي جو بايدن شكوكًا في صحة أرقام الضحايا في غزة). لقد تمّ قتل 24 صحفيًا حتى الآن تماما كما تمّ استهداف وتصفية صحفية الجزيرة شيرين أبو عاقلة على يد جنود إسرائيليين قبل بضعة أشهر. وكما جرت العادة كما في المجازر السابقة عام 1996 وما تلاها، ألقت إسرائيل التهمة أولاً على حماس والجهاد ومنظمة التحرير الفلسطينية، ثم تراجعت بعد تقديم تقارير الأمم المتحدة دلائل على أن إسرائيل هي من تقف وراءها. رأينا نفس الأمر الأسبوع الماضي في قصف المستشفى المعمداني في غزة.

يرى أولئك الشباب أنّ المسؤولين الإسرائيليين يصفون الفلسطينيين بأنهم “حيوانات يجب معاملتهم على هذا النحو”، ويسخرون من مطالب التناسب في الصراع. ويرون أن الزعماء الغربيين يسافرون إلى تل أبيب لتقديم دعمهم، بينما يُحذِّرون الآخرين من المسلمين من دعم سكان غزة المحاصرين منذ 17 عامًا. ليس الأمر مجرد معايير مزدوجة، لم تعد هنالك معايير على الإطلاق. هذه هي الخلاصة التي رسّختها الحلقة الحالية من الصراع في عقول وقلوب الشباب.

لقد ولّى زمنٌ حاولت فيه الأصوات والنخب في المنطقة التعامل مع نظرائهم في الغرب، والسعي لتبادل وجهات النظر حول الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للعالم الإسلامي؛ بيد أنّ أحداث السنوات الأخيرة، وخاصة في هذه الجولة من الصراع وطريقة حشد الأسطول العسكري والاقتصادي والإعلامي الغربي لدعم نظام فصل عنصري، لم تبق إلاّ قلة قلية ترى فائدةً في المشاركة أو حتى تبادل وجهات النظر، ناهيك عن تصور مسارات تُجاه سلام دائم.

قبل ثلاثين عاماً؛ وعد أحد رؤساء إسرائيل في مذكراته بأن اتفاقيات أوسلو ستحول غزة إلى سنغافورة الشرق الأوسط وذلك بفضل السلام والمال النرويجي. وتَعِدُ الآن بعض الأصوات أن أموال تشكيلٍ من اتحاد من الاتحاد الأوروبي واتفاقيات “أبراهام” وغيرها، ستُعيد بناء غزة بعد سحق حماس وتنصيب سلطة فلسطينية دمية لإدارتها. من الواضح أنهم لا يقرأون المنطقة بشكل صحيح أو أنهم قد وقعوا في فخ التضليل الذي تنشره وسائل الإعلام الخاصة بهم. في كتابه “تصنيع الموافقة”، يوضّح نعوم تشومسكي دور وسائل الإعلام الغربية الكبرى في تشكيل الرأي العام لخدمة مصالح الرأسمالية، على أسس مجانية أو رخيصة متاحة لاستهلاك الجمهور؛ لكن ثمّة هناك بقية من وسائل إعلام تبحث عن الحقيقة وتقدم تحليلات متينة وحقائق صلبة، تستغلّ نخب الرأسمالية مصداقيتها لاستمرار بقاء النظام وسيطرته. المشكلة الآن حتى تلك القلة أصبحت ضحية جرّافة “تصنيع الموافقة” في الغرب، وهكذا فقد القادة التواصل بالواقع و ناخبيهم. لا تتواجد جاليات عربية كبيرة في الدول الاسكندنافية ومع ذلك فقد شهدنا الأسبوع الماضي أكبر التجمعات في الدنمارك، وفي الملاعب الإيرلندية، وحتى في نيويورك. أصبحت الملاعب والشوارع (عندما تنجو من الحظر) هي المساحات الوحيدة المتبقية للتعبير في بعض الدول الغربية التي بدأت تشبه الديكتاتوريات. ولهذا السبب لا يرى أحد فائدة في التحدّث.

من الواضح أن اتفاقيات أوسلو فشلت في تحقيق ما وُعد به الفلسطينيون. لقد تحول حلُّ الدولتين إلى وهم يبيعه تجار الأحلام لآراءٍ يريدون إبقاءها نائمة. إنّ حل الدولة الواحدة ــ الديمقراطية والشاملة، بحقوق وواجبات يتساوى فيها جميع المواطنين ــ والذي يدعمه بعض الفلسطينيين مثل الراحل إدوارد سعيد، هو حل يتناقض مع طبيعة دولة الفصل العنصري في فلسطين. تتجه إسرائيل بممارستها نحو سيناريو “معركة هرمجدون الفاصلة”. إن الخيار الوحيد المتبقي أمام الفلسطينيين هو مقاومة الاحتلال ومحاربة القوة الإستعمارية بكل الوسائل المشروعة. إنّ تحرير فلسطين سيمضي حتماً جنباً إلى جنب مع تحرير الشعوب في مختلف الدول العربية التي تحكمها أنظمة فاسدة ومستبدة، مما جعل منها أفضل حليف لإسرائيل.

حركة رشاد – التحرير

Gaza enterre Oslo

Gaza burries Oslo