مقالات

دروس عن تجارب انتقالات ديمقراطية ناجحة

سيرجيو بيتار وأبراهام لوونتال*

ترجمة محمد سطايفي بتصرّف

[…]

عن السلطة المدنية والشأن الأمني

إنّ العمل على تنحية النظام الجبري المستبد هو أمر، أما تقلّد الحكم لاستخلافه فهو أمرٌ آخر. وقد أثبتت معاينة التجارب الانتقالية في العالم طبيعة المصاعب والضغوط التي واجهت الشركاء من الإصلاحيين أو زعماء المراحل الانتقالية. لاسيما حين يتعلّق الأمر بالتطهير أو كما يقال “التنظيف الشامل للبيت” و”إعادة البدء من الصفر”. فوجب على الإصلاحيين وقادة المراحل الانتقالية مقاومة تلك الضغوط ومواجهة تلك المصاعب بحكمة وحنكة. إنّ ممارسة الحكم – في ظل فترة انتقالية ولاحقًا – ليست بالأمر الهيّن، إذ أنها تقتضي مهارات خاصة تختلف تمامًا عن تلك التي حقّقت نجاح المعارضة أو رسّخت انتصار الثورة. لأنّ مباشرة الحكم تستلزم موظفينورجال سياسة نزهاء، ذوي كفاءات فعلية ورؤى وتطلّعات مستقبلية بيّنة،قادة وفاق من ذوي الحكمة من غير المتعنّتين.

إنّ أوّل عمل وأقصاه أهمّية، بمجرّد تولّي المعارضة أو – القوى الإصلاحية – للسلطة، هو استتباب الأمن ودرء العنف واستعادة استقرار واحترام النظام العام مع التحقّق من أنّ جميع القوى الأمنية تخضع وتتصرّف بموجب القانون. وقد وثق هذا البحث تجارب جديرة بالتمعّن (1) في حوارات مع شخصيات سياسية تاريخية معاصرة، سبق أن قادت مراحل انتقالية للخروج من أنظمة الطغمات الدكتاتورية والميز العنصري، شهادات سنستعرض بعضها هنا. وهي تجارب جديرة بالتمعّن تسلّط الضوء على طبيعة التحدّيات في مثل هذه المواجهات المستعصية وعلاقات الشدّ والجذبطويلة الأمد بين المدنيين والعسكريين.

وقد تبيّن في خلاصتها أنه يتعيّن على الإصلاحيين التعجيل بوضع جميع الأجهزة الأمنية تحت السيطرة المدنية القانونية وتكريس ذلك أوّلًا في أقرب أجل ممكن. لكن في نفس الوقت يجدر الاعتراف بالأدوار الشرعية لهذه الاجهزة واحترامها أفرادها، مع تقديم الضمان اللازم لمواصلة تزويدها بالموارد الكافية، كما يستحسن التأكيد على تقديم الضمان اللازم في مايخص حماية القادة السابقين من محاولات الانتقام القاسي التي قد يطرحهاالمتعنّتون كعقاب شامل مطلق عن القمع بصفة عامة في الفترات الماضية –لكن ذلك لا يحول دون ضرورة إقالة كبار الضباط المسؤولين عن أفعال شنيعة كالتعذيب والقمع الوحشي.

تجدر الاشارة إلى أن إخضاع الأجهزة الأمنية للسيطرة المدنية في غالب تلك التجارب كان من التحديات التي أخذت جهدًا عصيبًا وأمدًا طويلًا. 

لتحقيق ذلك، أي إخضاع الأجهزة الأمنية للسيطرة المدنية، وجب مبدئيًا فصل الشرطة والمخابرات العامة والمحلية عن القوات المسلحة العسكرية.وابتداءً حثّ القادة الأمنيين على استعراض وفرض التصرّفات الصحيحة لأفراد أجهزتهم لتكريس العلاقة الجديدة بين الشرطة والمواطنين، ذلك بالتأكيد على مسؤولية رجال الأمن، لأنّ عملهم يقتضي حماية المواطنينوليس قمعهم. مع العلم أنّ صدّ جأش القوى الأمنية لدرء التجاوزات اللاقانونية لا يعني إضعاف بأسها والتقليل من قدارتها اللازمة لمواجهة المجرمين وتفكيك الجماعات الشريرة العنيفة. يجدر التذكير أنه ينبغي للإصلاحيين من الطرفين عدم المقايضة عن ضرورة إقالة وإبعاد كبار الضباط المسؤولين عن التعذيب والقمع الوحشي، وهذا مطلب لا محال منه. كما يجدر تحقيق الوفاق والاتفاق على وضع كبار القادة العسكريين تحت السلطة الفعلية المباشرة لوزراء دفاع مدنيين، يسهل رقابة ومحاسبة سياساتهم عبر المؤسسات المنتخبة، وسنّ امتناع الضباط العسكريين ماداموا في الخدمة الفعلية من الخوض أو المشاركة في الشأن السياسي.

تجدر الإشارة أنّ التجارب في الواقع حذّرت من كون بيان وتوصيف مثل هذه الخطوات هو شيء، أمّا تطبيقها فعليًا فهو شأنٌ آخر صعب المنالوبلوغه غالبًا يكون بعد طول أمد. إنّ تنفيذ تلك الخطوات يتطلّب فضلًا عن الشجاعة، امتلاك حكمة وفطنة سياسية حادة. وبالنظر للتجارب الانتقالية المختلفة في العالم تبيّن أنّ تلك الخطوات الأولية، حسب الظروف الخاصة،قد يوفّق في إرسائها مبكرًا كما أنّ العكس كان صحيحًا حيث تعثّرت مبادرات تجسيدها في حالات أخرى اذ استغرقت وقتًا أطول، وهذا يحثّعلى إيلائها الأولوية القصوى من البداية، ومتابعتها باليقظة المستديمة.ولنذكر هنا مقولة بحر الدين يوسف حبيبي رئيس اندونيسيا في فترة الانتقال لحقبة ما بعد حكم سوهارتو، حيث صرّح أثناء مناقشة العلاقات المدنية-العسكرية في إندونيسيا، قائلا أنه “على أولئك الذين يقودون عملية الانتقال أن يُبرزوا أهميّة تقلّد السلطة من طرف المدنيين، ليس بالحديث أو الكتابة فقط، بل من خلال الفعل العملي الجلي.”

يجب أن يكون كبار المسؤولين المدنيين الجدد المكلّفين بالإشراف ومراقبةقوات الأمن من ذوي الكفاءة الفعلية والدراية بالشؤون الأمنية. كما تجب عليهم المعاملة الجادّة والمحترمة لأقرانهم في الجيش والشرطة وأجهزة الاستخبارات. وسبق أن كان هذا صعب المنال في تجارب سبقها الاشتباك العنيف بين الحركات الديمقراطية والأجهزة الأمنية مخلّفًا حقدًا وعدم ثقة متبادل، كما سبق أن أظهر بعض العسكريون استصغارهم وازدرائهم لخبرة المدنيين في ما يخص الشؤون العسكرية.

في سياق مقابل يتعيّن على أولئك الذين يقودون المرحلة الانتقالية عدم ترجيح كفة المغالاة بتبنّي التوازن والوسطية بين الرغبة في محاسبة النظام السابق والحاجة من جهة أخرى إلى الحفاظ على الانضباط داخل الأجهزة الأمنية ومراعاة معنويات أفرادها. يتعيّن عليهم تبنّي وتعزيز التقاربوالقبول المتبادل بين “الأعداء السابقين” ولو كان ذلك غالبًا ليس بالأمر الهين. حينها فقط، سيبدأ المواطنون في إعادة الثقة بالدولة التي كان يرفضها العامة، وكانوا محقّين في ذلك، لأنّها كانت دومًا في نظرهم دولة عدائية غاشمة وفاقدة للشرعية. وعندها فقط ستتعامل قوات الأمن بتعاون تامّ وودّي مع المواطنين الذين كانت تعتبرهم في السابق عناصر مخرّبةومعادية.

إنّ تحقيق انتقال الإشراف على الأجهزة الأمنية بوضعها تحت السيطرة المدنية هو أحد أكبر التحدّيات التي استعصت على الإصلاحيين في تجارب التحوّل الديمقراطي وطال أمدها في تجارب عديدة. إنّ سبب فشل التحوّل الديمقراطي في مصر على سبيل المثال هو استمرار سطوة سلطة الجيش المصري على المؤسسات المنتخبة. كما يعتبر ذلك واقعًا مؤسفًا في بلدان أخرى بالرغم من التنوّع والفروق الكبيرة بينها، كدول غامبيا وميانمار وتايلاند مثلًا، حيث لايزال عدم تمكّن السلطة المدنية من وضع اليد على قوات الأمن من أهمّ أسباب تعثّر التحوّل الديمقراطي.

التحدّي الدستوري

إنّ تحقيق وضع الجيش تحت السيطرة المدنية يمنح أصحاب المرحلة الانتقالية الثقة الشعبية المحلية والشرعية الدولية، ويعطيها المصداقية لنزاهة الانتخابات التي يجدر بها تمثيل إرادة الأغلبية. كما يضمن هذا الوضع كذلك حقوق الذين يخسرون الانتخابات ويطمئنهم أنّ معتقداتهم السياسيةومبادئهم الأساسية لن يتمّ المساس بها، ويستمرّ احترامهم على غرار غرمائهم والتعامل مع الجميع على السواء بموجب حكم القانون. وعلى الرغم من أنّ صياغة دستور جديد كانت أمرًا ضروريًا في أغلب البلدان، إلّا أنّبعضها لم يطبّق حتمًا هذه القاعدة. إندونيسيا مثلا احتفظت بدستورها القديم الموضوع في سنة 1945 واكتفت بتعديل بعض الأحكام فقط، كما لم تحرّر بولندا دستورًا جديدًا إلّا بعد عدّة سنوات من خروجها من النظامالشيوعي.

من الأجدر إشراك مجموعات من الفئات الواسعة للمجتمع في صياغة دستور لترجمة المطالب الأساسية لجميع القطاعات. وبالرغم من أنّالصياغة الدقيقة للدستور مهمّة، إلّا أنه قبل ذلك وأكبر أهمية منه هو تحقيق القبول الواسع ومعرفة مِن طرف مَن وكيف ومتى سيتم وضع هذا الدستور. كما يجب على كتّاب الدستور جعل إمكانية تعديله نسبية ليست سهلة للغايةولا مستحيلة عمليًا عندما تستدعي الظروف ذلك. تجدر الإشارة إلى أنّالكثيرين انتقدوا رئيس الشيلي باتريسيو أيلوين بعد تصريحه في لجنة الحقيقة أنّ الشيلي لا يمكنها أن توفّر العدالة إلا “بقدر الإمكان”، لكن تلك الوعود دامت لسنين طويلة أخرى. لهذا فالوعود ليست مهمّة بقدر تأسيس القواعد الأساسية للديمقراطية وضمان القبول الواسع لتلك المواد، كما لاحظ ثابو مبيكي، رئيس جنوب أفريقيا الثاني بعد سقوط نظام الميز العنصري، “ليكون الدستور مملوكًا لشعب جنوب أفريقيا كلّه، كان على عملية صياغة الدستور أن تكون شاملة للجميع.”

في حالات عديدة يجب أن تشمل العملية كذلك منتسبين إلى النظام السابق، الذين سيحتاجون إلى ضمانات بأنّ حقوقهم – المشروع منها – سيتمّاحترامها في ظل سيادة القانون. وقد تبيّن أنه من غير الحكمة التعنّت بالملاحقة والادعاء الشامل ضد جميع المسؤولين السابقين. وعليه يجدر على القادة الجدد بدلًا من ذلك تفعيل الإجراءات القانونية بهدوء وشفافية للبحث عن الحقيقة بشأن الانتهاكات الماضية، بهدف تقديم الشهادة والتوصّل الى الاعترافات، قبل التفكير في كيفية وإمكانية تعويض الضحايا، وتقديم الجناة الرئيسيين إلى العدالة. وعلى الرغم من أنّ المصالحة الكاملة تكون غالبًا مستحيلة، تبقى الحلول الوسطية دائمًا حيوية والهدف الأساسي هو تحقيق التسامح المتبادل لتكريس نسخة القانون الأساسي المشترك.

[…]

عالم مليء بالتحديات

غيّرت الجهات الفاعلة الجديدة، والتقنيات، والضغوط الاقتصادية، والديناميات الجيوسياسية السياق الذي ستحدث فيه التحولات الديمقراطية الحالية. فيمكن لأيّ شخص لديه هاتف محمول الآن إثارة احتجاجات جماعية عن طريق تسجيل عنف الشرطة. ويمكن لوسائل التواصل الاجتماعي إعادة تشكيل الرأي العام بسرعة والسماح للمنظمين بتجميع أعداد كبيرة من المتابعين. لكن هذه التقنيات الجديدة لا يمكن أن تحلّ محل العمل الشاق لبناء المؤسسات. وكما لاحظ المصلح البرازيلي كاردوزو الذي أصبح رئيسًا فـ “المشكلة هي أنه من السهل التعبئة للتدمير ولكن إعادة البناء أكثر صعوبة. والتقنيات الجديدة ليست كافية في حدّ ذاتها لاتخاذ الخطوة التالية إلى الأمام. هناك حاجة إلى المؤسسات، إلى جانب القدرة على الفهم والتحليل وممارسة القيادة المستديمة مع الوقت.” كما قال كوفور: “لا يمكن للجماهير بناء المؤسسات. لهذا السبب فالقيادة مهمة.”

في السنوات المقبلة، ستضغط الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، التي تعزّزها الشبكات الرقمية، على الأنظمة الاستبدادية في كثير من الأحيان وبفعالية أكبر مما كانت عليه في الماضي. لكن هذه الحركات لا يمكن أن تحلّ محلّ الأحزاب والقيادات السياسية. يجب أن تقوم هذه الجهات الفاعلة في نهاية المطاف ببناء المؤسسات، وبناء تحالفات انتخابية وحاكمة، وكسب الدعم العام، وإعداد وتنفيذ السياسات، وجلب التضحيات من أجل الصالح العام، وإلهام الناس للاعتقاد بأنّ الديمقراطية ممكنة، والحكم بفعالية.

من الصعب بناء ديمقراطيات فاعلة ومستديمة في البلدان التي لا توجد فيها تجربة حديثة للحكم الذاتي، حيث تكون المنظمات الاجتماعية والمدنية هشّة، وحيث تكون مؤسسات الدولة الضعيفة غير قادرة على توفير الخدمات والأمن الكافيين. قد يكون من الصعب إقامة الديمقراطية في البلدان التي بها انقسامات عرقية أو طائفية أو إقليمية حادّة. ويمكن للحكومات المنتخبة ديمقراطيًا أن تحكم بشكل استبدادي من خلال تجاهل أو إضعاف القيود التشريعية والقضائية التي يتطلبها الحكم الديمقراطي. ومع ذلك، فإنّ جميع هذه البلدان هي بالتحديد التي تحتاج إلى التغيير الديمقراطي بشكل عاجل. وتوضّح الأمثلة من غانا وإندونيسيا والفلبين وجنوب أفريقيا وإسبانيا أنه يمكن مواجهة هذه التحدّيات في ظلّ العديد من الظروف المختلفة، حتى في البلدان شديدة الانقسام.

يمكن تعبئة الشباب المتعلّمين أكثر من أيّ وقت مضى اليوم للتظاهر في الساحات العامة من أجل الديمقراطية، لا سيما عندما تكون فرص العمل نادرة. لكن التحدي يتمثّل في إشراكهم بشكل مستمر في بناء أحزاب سياسية دائمة ومؤسسات أخرى. فالديمقراطية لا تخرج مباشرة أو حتمًا من الحشود في الشارع. بل يتطلّب بناء الديمقراطيات الرؤية والتفاوض والحلّ الوسط والعمل الجاد والمثابرة والمهارة والقيادة وبعض الحظ. وعلى الرغم من كل العقبات، إلا أن التحولات الديمقراطية نجحت في الماضي. التعلّم وتطبيق الدروس المستفادة من هذه التجارب الناجحة يمكن أن يساعد في إنهاء الأنظمة الاستبدادية وصياغة ديمقراطيات مستديمة في مكانها.

* مقتطفات من مقال “الوصول إلى الديمقراطية: الدروس المستخلصة من الانتقالات الناجحة”، أبراهام لوفنتال (Abraham F. Lowenthal)وسيرجيو بيطار (Sergio Bitar)، Foreign Affairs, January/February 2016

المصدر: https://www.foreignaffairs.com/articles/2015-12-14/getting-democracy

(1) هذا المقال هو ملخّص عن كتاب “التحوّل الديمقراطي : حوارات مع قادة العالم” من إصدار جامعة جون هوبكنز 2015. من تأليف سيرجيو بيتار، سياسي ومثقف شيلي و أبراهام لوونتال، أستاذ جامعة كاليفورنياالجنوبية.