مقالات

الدموع العسكراتية

أمس، تم تشييع الجنرال قايد صالح في جنازة رئاسية. الجنازة الرسمية هي من الطقوس السياسية بامتياز. غرضها الظاهري هو الشخص الميت، لكن وظيفتها السياسية والاجتماعية ليست للموتى بقدر ما هي للأحياء. وعادة ما تعتبر جنازة الدولة مشهدًا مسرحيًا وتصميما متعمدًا لمشهد أجزائه الأساسية محسوبة لإنتاج عواطف وأفكار يتم تسخيرها سياسيا لأولئك الذين يديرونها [الجنازة].

إليكم ستة ملاحظات عن جنازة الجنرال قايد صلاح الرسمية:

  1. القايد صالح كان جنرال وليس رئيس دولة. إن حصوله على جنازة رئاسية هو دليل أخر على أن الجزائر تخضع لديكتاتورية عسكرية تعتبر نفسها فوق الشعب والسياسة والقانون.
  2. صورت مؤثرات الإعلام الخاصة القايد صالح على أنه “رجل عظيم” و”بطل وطني” و”شهيد”. لم يكن كذلك. لقد كان مجاهد إبان الحرب التحريرية، صحيح. لكنه شارك في انقلاب 1992 العسكري وفي حمام الدم الذي تلاه. لقد شارك وأيد أسوأ تجاوزات النظام البوتفليقي. وبعد انتفاضة 22 فبراير 2019، رفض الاستماع إلى الأغلبية، وأهانها، وتآمر لتقسيم الشعب الواحد، ووضع المئات من الرجال والنساء الأحرار في السجن ظلما. كانت خاتمة أعماله تعيين تبون رئيسا للدولة بالقوة والتزوير الانتخابي الواسع.
  3. ركزت مؤثرات الإعلام الخاصة على الحشود المشيعة لتوظيف الأرقام كدليل على دعم الشعب لخيارات القايد صالح السياسية، وبالتالي على دعم الشعب للنظام العسكراتي، وكحجة استدلالية [في وقت لاحق] على أن انتخاب تبون كان مشروعًا. أما غالبية الجزائريين هم يريدون تغيير جذري، بما في ذلك حكومة مدنية، وليس عسكرية، وسيادة القانون، وجميع الحريات الديمقراطية. وغالبية الجزائريين لم يصوتوا لتبون.
  4. من منظور علم الإنسانيات، وظيفة الجنازة الرئاسية هي ضمان نقل المتوفى من مكانة الرجل إلى وضع البطل في عالم الخلود. وتهدف هذه الجنازة الرسمية إلى إدامة ذاكرته إلى الأبد، ومن خلال المقبور تمنح القداسة والخلود للجمهورية. حصل القايد صالح على جنازة رئاسية وإدامة ذاكرته، أما العديد من ضحاياه في التسعينيات فلم يُمنحوا أي جنازة وهم قيد النسيان حتى يومنا هذا.
  5. العسكريون الذين صمموا هذه الجنازة التفاخرية هم إما أغبياء أو لديهم ذوق سيء لأن في الجزائر حوالي 18 ألف عائلة لها عضو تم إخفائه قسريا في التسعينيات. ولقد أُتلفت أو بُعثرت جثث الأموات عبر أنحاء الوطن ضمن سياسة مخطّطة لطمس هويتهم وذاكرتهم. وعِوَض أن يرد الجيش الجثث إلى العائلات لتدفن كما ينبغي، فإنه لجأ إلى دفنها سرّاً وبطريقة غير قانونية في قبور فردية أو جماعية في مقابر وحقول وآبار، أو رماها في الوديان والبحر. ولقد نسي بسرعة مصممو هذه الجنازة أن الجيش كان يستهدف طقوس الجنازة لتكريم الموتى في إطار افقاد الذاكرة الاجتماعية حول جرائمه. من الأرجح أن تبدوا جنازة القايد صالح مستفزة في نظر عائلات ضحايا الحرب الأهلية.
  6. بعض الناس في حيرة من مشاهد الحداد التي ظهرت على شاشات التلفزيون وعلى شبكة الإنترنت: الحشود المصاحبة للنعش، وبكاء بعض المواطنين والمواطنات. تساءل الكثيرون عما إذا كان هذا الكرب حقيقيًا.

ساهمت الضجة الإعلامية، والمساجد التي تسيطر عليها الدولة، وخيم العزاء التي أقامتها الدولة للمرة الاولى، ورثاء بعض الشخصيات الدينية والثقافية القابلة لحكم العسكر في شحن أجواء الحداد. انطلق بعض المواطنين في شوارع بمحض إرادتهم، لكن بعض الحشود كانوا عساكر يرتدون ملابس مدنية، بينما تم نقل الحشود الاخرى بحافلات مجانية من جميع أنحاء البلاد لملء عدسات الكاميرا.

كانت هناك مشاهد للمواطنين يبكون وينوحون بألم ظاهر. كيف يمكن للمواطنين أن يبكوا على وفاة شخصية من النظام العسكري ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؟

الجواب في انتهاكات حقوق الإنسان بذاتها. غالباً ما تطلب الأنظمة العسكرية من المستضعفين أن يكذبوا على أنفسهم.

قام الإعلام المسير من العسكر باستصغار جمهوره مرارًا وتكرارًا من خلال توجيه رسالة مفادها أن على الشعب الجزائري أن يسدد هدية وجوده الذي منحه إياه القايد صالح بعدم إصدار أمر بإطلاق النار عليه منذ بداية الحراك. كان هذا بارزا عند بعض المشيعين الذين أبدوا تبعية طفولية لما صرخوا “أبانا!” وسألوا الصحفيين “ماذا سنفعل بدونه؟”

هذا ليس خاصا بالجزائر. هناك جنازة كيم جونج إيل الهستيرية، عام 2011، وهو مثال استثنائي، ولكن في عام 2016، اصطف الأوزبك وهم يبكون في شوارع طشقند لإبداء احترامهم في جنازة جلادهم، إسلام كريموف، الذي كان يغّلي خصومه وهم أحياء في قدور للبشر. نفس الشيء ينطبق على جنازات طغاة آخرين (فرانكو، ماركوس، موغابي، إلخ).

هناك تفسير آخر بسيط طرحه العلماء الذين تخصصوا في دراسة ظواهر الاستبداد. ليس ملازمة ستوكهولم. التبيين يسمى الاضطهاد المستبطن ( internalised oppression) حيث يستوعب المستضعف أكاذيب وأساطير وقيم الظالم بسبب وضعه الوجودي كمظلوم تحت نظام ديكتاتوري [باولو فريري].

البكاء على الظالم هو سلوك مماثل لتصديق الكذب، والوثوق في أشخاص ومؤسسات لا تستحق الثقة، وقبول الخيانة والظن أنها مستحقة، وابتلاع السم وكأنه طعام لذيذ. فيردمان يشابهه بالحمار المضروب الذي يبكي على موت مولاه الوحشي. لما يستوعب أو يستبطن المستضعفون أكاذيب وقيم ظالميهم غالبا ما يشعرون أن ليس لديهم قيمة ذاتية كما يشعرون بالعجز وعدم الذكاء أو الجمال أو الأحقية مقارنة للطبقة التي تستضعفهم. استيعابهم للأسطورة أن المدنيين أدنى من العسكر، وأن الديكتاتورية العسكرية هي القاعدة السياسية والاجتماعية الصحيحة، تجعلهم يفرحون لفرح ظالمهم العسكري، ويبكون لحزنه أو موته.

في ظل الديكتاتورية العسكرية، لا يمكن التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مسرحي. مثل هذه الانظمة تضعف فكرة الحقيقة ومفهوم الموضوعية.

يقول الروائي غابريل غراسيا ماركيز: “لا أحد يستحق دموعك، أما من يستحقها لم ولن يبكيك”.

يوسف، عضو في حركة رشاد