مقالات

هل يظل الحراك سفينة النجاة أم أصبح سراب الحالمين

مرّتْ أكثر من عشر سنوات على انطلاقة الانتفاضات الشعبية في عام 2011 أو ما أصبح يُعرف بالربيع العربي. ماذا بقي من تلك الهبّة؟ تبخّرت الآمال لدى البعض، أو هكذا يبدو، بعد أن فترت العزائم ودبّ الشك في نفوس فئات عريضة من أنصار التغيير. تعيش الآن معظم المجتمعات العربية حالة من السبات واللامبالاة، بعد أن نال منها التعب، فوجدت نفسها، مُحاصرة بين خيار الرضوخ والتخلي عن مطالبها في إقامة دولة القانون، أو التمرّد على سيف الاستبداد، الذي يُعَرّضها لحملات قمع هوجاء، بتهمة المساس بالاستقرار، أو حتى بتهمة الإرهاب والعمالة للخارج.  هل بقي إذن شيءٌ من هبّة التحرّر من قبضة الدكتاتوريات الفاشلة، أم استَقر الوضع للنُظُم الحاكمة، وتخلّصت من آخر معاقل الثورات الشعبية؟ وهذا تحديدًا ما تعمل عليه هذه الأنظمة، وفق استراتيجية الحرب النفسة “الصدمة والترويع”، باستعمال ترسانتها الإعلامية وتوابعها، لتوسيع رقعة اليأس وسط الشعوب، وإقناعها بأنّ أيّ محاولة للعودة إلى الثورة السلمية، مآلها الفشل ومَصير أصحابها العقاب بالسجن والملاحقة والتنكيل. 

قد يُحيل البعض هذا “الفشل” في تحقيق هدف التغيير الجذري، وحملات القمع الناتجة عنه، إلى خيار السلمية، باعتبار أنّ التعويل على هذا السبيل لاقتلاع أركان منظومة الفساد، عبثي بل ومكلف، غير أنّ الواقع الذي تُبَرهن عليه تصرّفات الأنظمة المعنية، والتجارب البشرية، تُبيّن لنا أنّ من يعتقد ذلك، لا يُدرك جوهر الصراع وآلياته وحيثياته. 

1. إذا سلّمنا أنّ المسار السلمي عبثي ومنهك للجهود ومستنزف للوقت والمساعي، فمعنى ذلك أنّ البديل “المُجدي” الذي يحقق لنا التغيير المنشود هو العنف، مثلما ترسّخه المقولة الشعبية “ما ينفعْ معهم غير السلاح”، في حين نعرف بالتجربة، محليًا وفي شتى أنحاء العالم، أنّ العنف يشكّل السلاح الأمثل لكل الدكتاتوريات ويمنحها مبرّر وشرعية تقتيل شعوبها، في إطار ما تسمّيه مكافحة الإرهاب، وهي المستفيدة منه أساسًا بل تدفع إليه، ولهذا السبب حاولت العصابة الحاكمة في الجزائر، عبر كلّ وسائلها، المباشرة وغير المباشرة، دفع الحراك إلى هذه الحلبة، وروّجت عبر منابرها المتوارية، لمقولة “التغيير السلمي مضيعة للوقت، وخيار الجبناء”؛ فضلًا عن ذلك، لا يخفى على أحد أنّ العنف لن يحقّق  مطالب الشعب عندما يكون بين أبناء الوطن الواحد، بل يدمّر الجميع، وحتى في الحالات التي تمكّنت فيها فئة عن طريقه قلب نظام الحكم والسيطرة عليه، لم تكن مختلفة عن الزمرة التي حلّت محلّها، وهي الأخرى لن تترك الحكم إلا بالعنف، وبذلك ندخل في حلقة مفرغة دموية، لن تفيد الشعب بل تزيد من مآسيه، مثلما حدث في كل دول الوطن العربي، التي جاء ثُوّارها بانقلابات على ما اعتبروه حكم شمولي، ليتحوّلوا أنفسهم إلى دكتاتورين أبشع من الذين انقلبوا عليهم، على غرار انقلاب القذافي في لبيا، وقيس سعيّد الذي انقلب على ثورة الياسمين في تونس، وفي الجزائر، انقلاب جيش الحدود على الحكومة المؤقتة، قبل أن ينقلب بومدين على صاحبه ورئيسه بن بلّا، وهلمّ جرًا. وصدق المفكّر السوري المرحوم جودت سعيد، الذي ساهم في تطوير نظرية إسلامية للاعنف، حين أدان عسكرة الثورة السورية وقال: “إذا نجحت الثورة السورية بالسلاح، سنظل محكومين بالسلاح الذي نُحكم به منذ 1400 سنة”. 

2. لو كان الحراك عبثيًا وفاشلًا بالفعل، فلماذا إذن هذه الحملات المتواصلة والمتربّصة به، من داخل السلطة وخارجها، ومن كلّ المنتفعين من الوضع الراهن، وتحالفهم غير المقدّس، في الهجوم الشرس على الحراك وأهله؟ هل يُعقل أن تُسَخّر كل هذه الطاقات والترسانات لهزيمة شيء عبثي فاشل؟ في الحقيقة، خطابهم وهلعهم ومناوراتهم المختلفة، خير دليل على نجاعة الحراك، وسلامة منهجه، وسداد توجّهه وثباته الذي لم يستطيعوا حرفه عن المسار. 

3. إلى جانب ذلك، لا بد من الاعتراف بأنّ انطلاقة الحراك في الجزائر في 22 فبراير 2019، لم تكن محلّ إجماع، فقد تباينت الآراء بين فريق منتقد (في معظمه منتفع من استمرار الوضع على حاله)، مروّجٍ لسيناريوهات الخوف والترهيب، ملوّحٍ بالحالة السورية والليبية واليمنية، بل وحتى بالعشرية الدموية، وكلنا يتذكّر تعليق أويحيى في إشارته إلى الحراك “قد يبدأ بالورود وينتهي بحالة سوريا”، وازدرائه لهبة الشعب بمقولته المعروفة “الريح في الشبك”. شهدنا من جهة أخرى، فريقًا يتشكّل من طبقة معينة من المثقفين، الذين لم يثقوا يومًا في قدرة الشعب ووعيه، ولم يروه ناضجًا ومؤهّلًا لأيّ فعل ذي قيمة، مما جعلهم يشكّكون في جدوى الحراك؛ وفريق ثالث، من الذين انخرطوا في مسيرات الحراك منذ الوهلة الأولى، وهم السواد الأعظم من الشعب، بمختلف فئاته ومشاربه، وتوجهاته السياسية، الذين طال انتظارهم لهبّة شعبية تحرّرهم من قبضة الاستبداد، ليكون لهم نصيب ليشاركوا في بناء بلدهم. إذن “الفشل”، أو بالأحرى، عدم تحقيق الهدف حتى الآن، لا يعود لسلمية الحراك، بل في الوقوف وسط الطريق. وتجارب الأمم تبيّن لنا أن القضاء على منظومة الاستبداد، لا يتحقّق بقطع رأسها وترك محيطها، فذلك بمثابة خنجر يرتدّ على الثائرين عليها، أوّلًا بعدم تحقيق هدفهم، ثم لِما سيتعرّضون له من انتقام شرس، جرّاء تحدّيهم السلطة ومحاولة القضاء عليها. فأيّ محاولة لوضع حدّ كلّي ونهائي لمنظومة الفساد، لا يترك أمام أصحابه سبيلًا آخر غير اجتثاثها، وعدم الاكتفاء برأسها أو رموزها. وليس المقصود هنا، من مصطلحات “اجتثاث” و”القضاء” و”وضع حد”، استعمال العنف، بل يكون دائمًا بالطرق السلمية، بعيدًا عن كلّ رؤية شمولية متطرّفة عدمية. هذا التوجّه الجذري، تبرّره وتمليه قناعة راسخة تؤكدّها وتعزّزها التجارب المختلفة، التي تفرض المعالجة الشاملة للداء واجتثاثه من أعماقه. لقد شهدت منطقتنا العديد من نماذج الثورات التي اكتفت بالقضاء على رأس الفساد، ثم ما لبثثت أن وقعت ضحية نظرتها الضيّقة المتعجلة، وثورات مضادة أعادت منظومة الفساد إلى الحكم لتنتقم من الثائرين عليها شرّ انتقام. 

4. إن اجتثاث كافة مُكوّنات ودعائم ومحيط منظومة الفساد لا يقوم على نزعة انتقامية ثأرية، وتصفية حسابات مع هياكل “الدولة” بصفتها أجهزة لمنظومة الحكم، وإنما اجتثاث هذه الأجهزة والقائمين عليها، يتمّ باعتبارها أدوات ترسّخ حكم الاستبداد، وتابعة له، ومعيّنة من قبله، بناء على ولائها التام لمنظومة الحكم لا لكفاءتها وإخلاصها للدولة، وتخدم مصالح العصابة الحاكمة التي عيّنتها وليست مصالح الدولة والشعب. كل العصابات الحاكمة منذ استقلال البلاد، وخاصة مع مجيء بوتفليقة، أحاطت نفسها بأفسد الناس وأجرمهم، وربطتهم بدوائر الحكم وجعلتهم يحاربون بشراسة، لبقائها، بكلّ ما يملكون، وأشعرتهم أنّ بقاءهم مرتبط ببقائها، وهو ما جعل الفساد يتحوّل إلى ممارسات مؤسسية، سائدة في كلّ أرجاء الوطن، مُرَسَّخة بحكم القانون، والأمر ينطبق على كافة أجهزة ومؤسسات الدولة، على غرار المنظومة القضائية التي عيّنتها العصابة الحاكمة وتخضع لسيطرتها، وكذا كافة أجهزة الأمن، والشيء مثله بالنسبة للمكينة الإعلامية وقطاع المال والإدارة والإعلام. وما لم تُجتثّ هذه الأطراف المتشابكة، مع الرأس، ستُجدّد منظومة الفساد نفسها وأشدّ، ولنا في التجربة المصرية الدامية مثال صارخ. 

د. رشيد زياني الشريف | عضو المجلس الوطني لحركة رشاد