محمد سليمان الشاذلي*
في وقت أصبحت فيه قضايا الاختلاف مصدرا للتوتر والاحتقان صدر عن معهد قرطبة للسلام بجنيف كتاب “السعي إلى السلام: مدخل إلى ترشيد الخلاف” لمؤلفه الدكتور عباس عروة الذي يعمل بروفيسورا حرا في كلية الطب بمدينة لوزان السويسرية. الدكتور عروة خبير في الفيزياء الطبية وفيزياء الصحة والوقاية من الإشعاع، وهو أيضًا المدير المؤسّس لمعهد قرطبة للسلام بجنيف المتخصّص في الوقاية من العنف وترشيد الخلاف وبناء السلم وتعزيز التماسك المجتمعي.
اشتمل الكتاب الموزع على 360 صفحة من القطع المتوسط على مقدمة و16 فصلا بُوّبت في 5 أقسام منفصلة. يقف الدكتور عروة في كتابه عند ركائز ضرورية منها الكشف عن الحقيقة، والحفاظ على الذاكرة، وتحقيق العدالة، وممارسة العفو، ومن القضايا التي ناقشها الكتاب قضية التعارض بين الحق في حرية الرأي والتعبير مع الحق في احترام المقدس، إضافة إلى الخلافات المرتبطة بالقيم، كما ناقش الكتاب منظومة القِيم وعملية التغيير في المواقف والسلوك، وكذلك قضية تفاعل الدين مع المواقف والاتجاهات والسلوكات مع إضاءة على أشكال ارتباط الدين بالخلاف.
الخلاف إذا تحوّل إلى تعاطٍ سالب انتهى إلى زلزلة المجتمع وتصديع مكوناته، وأول مظهر للتعاطي السالب للخلاف يتمثل في الاستقطاب الحاد الذي يشيطن الآخر ويجعل منه خصما وعدوا عوضا عن التعامل معه كشريك أصيل.
الكتاب إضافة حقيقية للمكتبة العربية الإسلامية حيث إن علم ترشيد الخلاف علم غربي بامتياز، فهو يُدَّرس في مختلف الجامعات، كما تنشأ من أجله المراكز وتكرّس له الإمكانات اللازمة لإجراء البحوث. وحسب الدكتور عروة، يتعين علينا فهم الأسباب التي تجعل العالم الإسلامي غائبا عن الإسهام في هذا المجال المعرفي الحيوي “مع أنه يوجد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وسير العلماء والصالحين من الأمة من القِيم والمبادئ والتوجيهات والأمثلة العملية ما يمكّن من تطوير نظرية متكاملة وقابلة للتطبيق في مجال الوقاية من العنف والتعامل مع الخلاف وحسن إدارته وتعزيز السلام”.
ولا بد من الانتباه إلى أن هذا الكتاب قد صدر في وقت تعيش فيه العديد من الشعوب تحت نير أنظمة تفتقد الشرعية وتتَّسم بالتسلُّط والقمع والفساد. فبدلا من قيام تلك الأنظمة بمهمتها الأساسية المتمثلة في ضمان الاحتياجات الأساسية لمواطنيها بخاصة الغذاء والسلم والأمن، نلاحظ أن همَّها الوحيد يتمثل في السيطرة على السلطة السياسية واحتكار ثروة الأمة.
يركز الكتاب على ضرورة ترشيد الخلاف في وقت السلم والحرب، مذكّرا بأن الخلاف ضرورة إنسانية يحتّمها الاختلاف في المرجعيات وفي الأهداف. فمن الطبيعي أن تضمّ المجتمعات البشرية تيارات مختلفة تعكس الثراء الإنساني، والتنوّع الفكري، وحرية المعتقد. ولعل المتتبع لمسيرة التاريخ يتكشف له أن الآراء المتباينة كلما تفاعلت على نحو إيجابي معافى انتهت إلى خدمة المصلحة العامة رافدة المجتمع والدولة بنمو ملحوظ مطّرد.
بيد أن الخلاف إذا تحول إلى تعاطٍ سالب انتهى إلى زلزلة المجتمع وتصديع مكوناته؛ وأول مظهر للتعاطي السالب للخلاف يتمثل في الاستقطاب الحاد الذي يشيطن الآخر ويجعل منه خصما وعدوا عوضا عن التعامل معه كشريك أصيل. وهنا يعزو الكتاب قضايا الاستقطاب إلى الأنظمة التسلطية التي تدأب على تكريس الفوارق الدينية والفكرية والإثنية واللغوية بغية التحكم في مفاصل المجتمعات.
يشير الكتاب كذلك إلى مسألة انعدام شروط بناء الثقة المتبادلة مع ترسيخ صورة نمطية سلبية عن الآخر تفضي إلى العنف وإشاعة الحقد وترسيخ الاحتقان بهدف تمزيق المجتمع وتفتيته بغية التماهي مع الرسائل التي تدأب على بثها وسائل الدعاية الرسمية وشبه الرسمية، إضافة إلى القنوات الجهوية والنوافذ ذات المحتوى الشعبوي أو المتطرف.
ومن أهم ما تناوله الكتاب قضايا الانتقال وما يصحب فترات الانتقال من تشوش واضطراب مع فقدان للبوصلة. ففي النظم الاستبدادية تبقى التناقضات خفيَّة وتظل الخلافات كامنة، غير أنه في ساعة التغيير وحلول مناخ الحريات يتخلَّص المجتمع من الخوف فيبادر أصحاب المصالح والحقوق والحاجات إلى المطالبة بها.
وحسب الكتاب، تتسم فترات التحوّل والعبور الديمقراطي بالهشاشة كما أنها تكون محفوفة بالمخاطر، ذلك أن الدولة تكون في أضعف حالاتها تهددها الخلافات المفضية إلى توليد العنف؛ يقول الكتاب إنه في فترات الانتقال غالبا ما تسهم أطراف داخلية وخارجية في تأجيج الخلافات والدفع بها إلى أتون الصراع من أجل إفشال الانتقال الديمقراطي.
ويوضح الكتاب أن أكبر تحديات المرحلة الانتقالية يتمثل في أنَّ القائمين عليها مطالبون بالتعامل مع الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد. وعليه، فلا بد من التعامل مع الحاضر بضمان الحاجات الأساسية للمواطنين وذلك عبر إنتاج الثروة وحمايتها وتوزيعها توزيعا عادلا. كذلك، لا بد من حماية وترقية مكونات الهوية للأفراد والمجموعات، كما ينبغي التعامل مع الماضي البعيد والقريب بإطلاق مصالحة حقيقية. أما التعامل مع المستقبل فيكون عبر بناء المؤسسات وتعزيز دورها. وقد تنتهج المجتمعات المختلفة طرقا مختلفة للتغيير السياسي والانتقال من وطأة الأنظمة الاستبدادية إلى سعة دولة القانون والحكم الراشد. وتلك الطرق، حسب الكتاب، منها الناجع ومنها ما دون ذلك.
لكن من المهم جدا أن يعرف المجتمع الذي يمر بمرحلة انتقالية وعملية مصالحة ما حدث بالضبط ومن فعل ماذا في الفترة المظلمة من تاريخه البعيد أو القريب، فتجلية الحقيقة لها أثر فعال من شأنه المساعدة على برء الجراحات المجتمعية. يقول الكتاب “إذا كنت الحقيقة حقا للفرد، لا سيما الضحية وعائلته، فهي أيضا واجب على كل فرد من أفراد المجتمع”.
وفي المراحل الانتقالية، حسب الدكتور عروة، لا بد من التذكير بما حدث من مظالم، كذلك التذكير بضرورة نشر ألوية العدالة. وهنا تبرز أهمية الذاكرة في الإسلام لكونها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة التذكر التي يؤكّد القرآن الكريم فضائلها التربوية: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55].
يُنظر إلى التذكُّر في القرآن على أنه علامة من علامات الذكاء: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الرعد: 19]. من هنا يعرّج الكتاب على مفهوم العدالة الانتقالية فيعرّفها بأنها مجموعة الأساليب التي يمكن للدول استخدامها لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتشتمل على توجهات قضائية وغير قضائية؛ فهي وفقا للكتاب مجموعة من السياسات والإجراءات والمؤسسات التي يمكن أن تُسنّ في مرحلة تحوّل سياسي من فترة عنف وقمع إلى فترة استقرار سياسي راسخ. ولعل من أهم شروط نجاح فترات الانتقال والعدالة الانتقالية بسط الحقائق وتغليبها على ما عداها. ففي المجتمع المسلم من المنتظر أن يسهم الجميع في كشف الحقيقة واكتشافها، فإخفاؤها يُعدّ من كبائر الذنوب، فقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُم تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 42]، كما يرى أهل العلم أنَّ الساكت عن الحق شيطان أخرس والمتكلّم بالباطل شيطان ناطق.
هنالك ضرورة لتوفر المصالحة الناجزة، ومن أجل المصالحة الناجزة لا بد من توفر الوساطة الناجحة، وتكون أهداف الوساطة كسر الحدّة التي تعتري مواقف الأطراف من بعضهم بعضا وبناء الثقة بغية تحويل الخلافات بينهم إلى خلافات إيجابية بناءة.
ويرى الكتاب أن الإسلام يفسح مجالا واسعا لإمكانات العمل المشترك من أجل المصلحة الدينية، وفي مجال سياسة أمور المدينة/الدولة تشكّل إطارا يوفر التوجيه ويسمح بالإبداع. يقول الكتاب مشيرا إلى العهد الذي شهدته مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إن “صحيفة المدينة دليل عملي، من منظور إسلامي على إمكانية التعايش والتفاعل الإيجابي في مجتمع متعدّد الانتماءات القبلية والدينية. وقد نجحت تلكم الصحيفة، التي سُميَّت بالوثيقة الدستورية الأولى في تاريخ البشرية، في القيام بذلك بإدخال مفهوم جديد للانتماء الاجتماعي مكوَّن من 3 طبقات مختلفة: القبيلة المعترف بها كواقع اجتماعي، والانتماء الاجتماعي للدين الذي ينطوي على منظومة من القِيم المشتركة، والانتماء إلى المدينة”.
هنالك أيضا ضرورة توفر المصالحة الناجزة، ومن أجل المصالحة الناجزة لا بد من توفر الوساطة الناجحة إذ لا بد من التشاور مع الفاعلين في مختلف الواجهات والقطاعات والفئات سواء ما كان منها حقوقيا، أو اجتماعيا، أو دينيا، أو تربويا. ومن أهداف الوساطة كسر الحدّة التي تعتري مواقف الأطراف من بعضهم بعضا وبناء الثقة بغية تحويل الخلافات بينهم إلى خلافات إيجابية بناءة، فضلا عن استكشاف إمكانات التخفيف من التجاذبات المذهبية الأيديولوجية الحادة. فلا بد من التعاون بغية تحقيق التعايش السلمي؛ فوفقا للمؤلف فإن الاستقطاب الحاد في سياقات الانتقال السياسي الهشة غالبا ما يؤدي إلى حالة من الفوضى، تمهّد الطريق لعودة أنظمة الاستبداد أو للاحتراب الداخلي. كما لا بد من التركيز على أهمية إنتاج ثقافة سياسية جديدة مشتركة تستند إلى قِيم الحرية والعدل والكرامة والتنوع والقبول بالآخر وعدم الإقصاء والمواطنة ونبذ العنف، من خلال بناء الثقة في وقت أصبحت فيه قضايا الاختلاف مصدرا للتوتر والاحتقان. ولا بد أيضا من بناء تحالفات عابرة للمذاهب وللأيديولوجيات من شأنها أن تسهم في إنجاح الانتقال السياسي السلمي في البلدان التي تشهد مراحل انتقالية.
يذكر أنه في ورشة نظمها معهد قرطبة للسلام بجنيف واستضافها المغرب، خلص المشاركون إلى ضرورة التخفيف من الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين، وأنه ينبغي لجميع الأطراف تجاوز الجدل الفلسفي مع التركيز على ضرورة العمل المشترك لفائدة المصلحة العامة من أجل تقوية المجتمع وبناء الدولة، ويكون هذا في إطار عادل و”فضاء مشترك” لا يقتضي تنازل أيّ طرف عن مرجعيته الفكرية أو خيانته لقضيته. فهذا الإطار للعمل المشترك والجهد الجماعي يمكن تأصيله انطلاقا من المرجعيات الدينية والأيديولوجية لجميع الأطراف. وعليه، يمكن لجماعات ذات قواعد مختلفة في إطار أنظمتها القيمية ورؤاها الكونية أن تختار الانخراط في عمل مشترك مع جماعات أخرى مختلفة، لكل منها أسبابها الخاصة. وبهذه الكيفية، يمكن لمختلف الجماعات أن تعيش معا في فضاء مشترك، وتجد كل واحدة التبرير والحافز للقيام بذلك من منظور نظام قواعدها ومبادئها التوجيهية الخاصة بها. ويطلق الفيلسوف الأميركي جون رولز على الانخراط المشترك من مختلف الجماعات للتفاعل ضمن الفضاء نفسه مصطلح “التوافقات المتداخلة”.
ويقول الدكتور عروة في كتابه القيّم هذا إنّ معالجة التوترات التي تعصف بالعالمين العربي والإسلامي وتعرقل جهود التنمية البشرية فيهما “تتطلب تكوين نخبة واسعة من المتخصصين في تحليل الخلافات وترشيدها، لهم دراية بالتقاليد العربية الإسلامية في هذا المجال وخبرة بالتقنيات التي طُوّرت في الغرب، وقدرة على تكييفها في هذه المجتمعات العربية والإسلامية مع الأخذ بالاعتبار النسق التاريخي والواقع والواقع الاجتماعي والخصوصيات الاجتماعية لهذه المجتمعات”.
ويشير الدكتور عروة إلى أنه في حين انتشرت في العالم الغربي عشرات من مراكز وبرامج الدراسات والبحث للتعاطي العلمي مع ظاهرة الخلاف ووسائل فضّه وترشيده وتحويله إلى قوة فاعلة وآلية إيجابية لتطوير المجتمع، فإن العالم العربي والإسلامي يكاد يخلو من مثل هذه المراكز والبرامج. وفي أحسن الأحوال يلجأ القائمون على مسائل الخلاف والسلام إلى الاستعانة بخبرات غربية تقوم بتطبيق وصفات أُعِدّت في فضاء ثقافي مغاير للتقاليد العربية والإسلامية.
وفي الختام لا بد من القول إن كتاب “السعي إلى السلام: مدخل إلى ترشيد الخلاف” هو كتاب ثري طريف في طرحه، جديد في مادته. وإنا لنرجو أن يدفع هذا الكتاب الدوائر الأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني في الدول العربية والإسلامية إلى البناء على هذا الأساس المتين الذي وضعه الدكتور عباس عروة لهذا الفرع من العلوم ذات الأثر المجتمعي الإيجابي.
*كاتب وروائي، تم اختيار روايته (السواد المر) ضمن المنهج الأكاديمي لطلاب العلوم السياسية بجامعة غراند فالي ستيت بأمريكا.
https://www.aljazeera.net/opinions/2022/3/27/مع-كتاب-السعي-الى-السلام-مدخل-إلى-ترشيد