حق الرد مقالات

الضباب الأيديولوجي | يوسف بجاوي

الضباب. ذلك ما تبادر إلى ذهني وأنا أتابع آخر حصة من برنامج CPP – في 24 مارس 2021 – لراديو M. إذا كان دور الضباب في الطبيعة، هو تجميل ما هو جميل بالفعل، فإن دور الأيديولوجية في السياسة هو خلط وتعقيد ما هو معقد أصلا. تقول الحكمة أننا لا ندرك مدى كثافة الضباب الذي يغمرنا، إلا بعد انقشاعه، والهدف من هذه المقالة، هو تبديد بقدر المستطاع لِما لفّ هذه الحصة، التي أعتبر نفسي احد متابعيها الأوفياء منذ أن اكتشفتها في بداية الحراك، من غموض وضباب حول حركة رشاد التي أنا عضو فيها.

ربما كان القارئ سيعتبر هذه المقالة غير مناسبة، لو قام البرنامج المذكور على أسس الحد الأدنى من معايير الصحافة المهنية، من توازن (تخصيص مساحة متساوية لوجهات النظر المتعارضة) وحيادية (تمثيل مختلف الأطراف والأفكار أو الانشغالات، بتجرد ومن بمسافة متساوية بين الأطراف). كان بإمكانها دعوة عضو في رشاد عبر وسائل التخاطب عن بعد كما تفعل مع الضيوف الآخرين، لكن خلافًا لعاداته، قدم لنا راديو M، الذي نعتبره إحدى الواحات الأخيرة المؤهلة لممارسة الصحافة المستقلة في جو يسوده التخويف وقمع الحريات، محاكمة غيابية لرشاد، حيث تميز تناغم المدعية العامة، السيدة عويشة بختي، بلائحة اتهاماتها المؤسسة على القذف والإقصاء، تناغما كليا مع حملة التصعيد الأخيرة لشيطنة رشاد. يقول تاليران “كل شيء مبالغ فيه، تافه لا يعتد به”، لذا لن أضيف المزيد عن هذه السيدة، وستقتصر هذه المقالة على بعض الانتقادات والمخاوف المهمة التي طرحها إحسان القاضي وعماد بوبكري، اللذان ظل انشغالهما الوحيد منذ بداية الحراك، هو الحفاظ على وحدته ونجاح التحوّل الديمقراطي، ومن ثم تأتي هذه المقالة لاستعادة قدر من التوازن الذي اختل خلال هذا البرنامج.

عن ثقل رشاد

أول ضباب يتعين تبديده هو ثقل رشاد وحجمها في الساحة. يبدو أن إحسان قاضي وعماد بوبكري ليس لهما فكرة منسجمة عن حجم رشاد. فمن جهة، يعترفان بأن رشاد قوة متواضعة وسط الحراك، وقد كرر قاضي احسان ذلك مرتين بشكل قاطع قائلا أن “رشاد هي حركة أقلية في الحراك”، وصرح أيضا إن رشاد “غير مهيكلة في الجزائر”، من جهته أكّد عماد بوبكري وهو محق فيما يقول، أنّ دعاية النظام تضخّم حجم رشاد داخل الحراك، لتعميم شيطنة رشاد على جميع مكونات الحراك.

لكنهما من ناحية أخرى، يلقيان باللائمة على رشاد، في المسؤولية عن حملات التشهير بحق الحراكيين على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى التجاوزات أثناء التظاهرات، وعن إمكانات رشاد في منع هذه التجاوزات، وقدرتها على ضبط شعارات الحراك، واحتواء المعتقلين، ومنع النقاش داخل الحراك من أجل التوصل إلى توافق، وقدرتها على إجهاض التحوّل الديمقراطي وحرفه عن مساره. باختصار، ينسبان إلى رشاد قوة مهيمنة تضر بالحراك.

رشاد لا تمثل أي شيء ولكنها مسؤولة عن كل شيء … ومثل هذا الطرح لا يستقيم.

التناقض يتربص كل صحفي يتيه بين مهمة المراقبة والأيديولوجية وإصدار الأحكام الأخلاقية. من الواضح أن قوة التأثير المنسوبة إلى رشاد لا تتناسب مع الحجم المفترض لرشاد. هذا التضخيم غير البريء في حجم “رشاد” يُظهر للأسف، إلى أي مدى، استطاعت دعاية النظام أن تتغلغل وتخترق حتى العقول الأكثر وعيا وتفطنا.

في الواقع، حركة رشاد متواضعة من حيث هيكلها، لكن أكثر ما يزعج البوليس السياسي هو وجود قوة سياسية خارجة عن سيطرتها. إن تماسك ووضوح خطاب رشاد أكسب الحركة، احتراما وإصغاء من بعض أجزاء الحراك، لكن تبقى رشاد مع ذلك، تمثل قطرة صغيرة في بحر الحراك. وكل القوة والقدرات التي تنسب للحركة لا تعدو كونها خليط يجمع بين الأسطورة والدعاية. وهذه الواقعية التي تتحلى بها رشاد حول ثقلنا الفعلي في الحراك وبين فئات الشعب، دليلٌ على رفضنا جني الميداليات في منافسة سياسية، وشاهدٌ على أن اهتمامنا الأول والأساسي يقتصر بكل بساطة على تقديم نصيبنا من المساهمة في صرح التغيير الذي يطمح إليه الجزائريون والجزائريات.

عن “حملات التشهير” المزعومة المنسوبة لرشاد

دعونا الآن نرفع الغطاء ونتحدث عن حملات التخوين المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، الحملات التي لطالما عزاها عماد بوبكري إلى رشاد، إلى جانب قاضي احسان الذي يصرح بأن “رشاد تتحمل المسؤولية عن حملات التشهير”.

حدد عماد بوبكري بدقة تاريخ بداية هذه الحملات، وربطها بجائحة كوفيد 19 وتعليق المسيرات. ودلل على ذلك بمثالين ملموسين، الهجمات ضد نور الهدى عقادي وسمير بلعربي. بالنسبة لقضية عقادي، زعم أن رشاد شهرت بها وشوّهت سمعتها لأنها “رفضت احتوائها وتجنيدها” من أجل “العمل معهم [رشاد]”، بالإضافة إلى اتهام رشاد صراحة “بالرغبة في استيعاب عدد معين من المعتقلين”. أما في حالة سمير بلعربي، يقول عماد بوبكري  “دوادجي هو الذي هاجمه، وبارك كل من تهجم عليه”، مع اعترافه مع ذلك بأن  مخيوبة قد دعا- دون أي تأثير على حد قوله – إلى عدم منع بلعربي من المشاركة في المظاهرات. دعونا إذن نتفحص هاتين الحالتين ونلقي عليهما نظرة عن قرب، قبل أن نتحدث بشكل عام عن حملات التخوين.

بالنسبة لحالة عقادي، لا يقوم اتهام عماد بوبكري على أي أساس. الوقائع التي أعرفها هي أن بعض صورها الشخصية انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنها اتهمت أميرdz  ثم محمد بن حليمة، بتسريبها لتشويه سمعتها، وأشارت من جهة ثانية أن هذه الصور كانت في هاتفها المحمول الذي صادرته الشرطة، وقد نفى أميرdz، من جانبه، تسريبه لهذه الصور.

يعتقد عدد من محللي الكمبيوتر ذوي الحنكة والمصداقية أن الفرضية الأكثر ترجيحًا هي أن مصدر التسريب يشير باتجاه البوليس السياسي، وفي كل الحالات، يمكنني أن أنفي بشكل قاطع أي مسؤولية لرشاد عن التسريب، لا من بعيد ولا من قريب، مع التذكير، بأن لا أمير dz ولا بن حليمة، أعضاء في رشاد. ونعتقد من جهتنا أن هذا التسريب ينتهك أساسيات العمل الأخلاقي، ومن ثم من غير المعقول ولا الإنصاف أن يتهمنا عماد بوبكري بدون دليل على مثل هذا العمل غير اللائق.

وأضاف أن الدافع وراء تسريبنا المزعوم لصورها بغية تشويه سمعتها، هو لأنها رفضت احتوائها من قبل رشاد، وهذه تهمة مجانية بالغة الخطورة. وعن هذا الزعم، أولا، أقتبس مقولة أوسكار وايلد  “النوايا السيئة مثلها مثل الأوراق النقدية، لكي يستطع المرء إقراضها للآخرين، عليه أولا أن يمتلك هو نفسه بعضًا منها”. ثانيًا، دافعت رشاد عن عقادي كما فعلت بحيادية مع معتقلي الحراك الآخرين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الأيديولوجية أو الجهوية، وذلك من منطلق التضامن النضالي، دون حسابات نفعية، ومن منطلق الاقتناع بتأسيس دولة القانون، وكانت رشاد نددت أيضا بالاحتجاز الجائر لعدد من الجنرالات، مثلما تندد رشاد دائمًا بالتعذيب، دون تمييز بين ضحاياه، وأدانت المعاملة القاسية والمهينة، بما في ذلك التي يتعرض لها الجنرالات، المتورطين هم  أنفسهم في انتهاكات حقوق الإنسان. وهذا ببساطة انطلاقا من قناعتنا الراسخة بعالمية حقوق الإنسان. لقد التزمنا بهذا الطريق وواصلنا السير عليه على الرغم من الانتقادات التي وُجِهت إلينا من قبل الذين يتبنون تصور قبلي لهذه القيم السياسية. وبدلا من التيه في مستنقع التكهنات الأيديولوجية، ندعو عماد بوبكري للتحقق مع معتقلي الحراك السابقين فيما إذا كانت رشاد قد حاولت بالفعل احتوائهم، وعرض النتائج الموثقة التي توصل إليها إلى الجمهور.

وفيما يخص سمير بلعربي، فقد كان بالفعل هدفًا للتشهير على الشبكات التواصل الاجتماعية. وعلى حد علمي، مسؤولية رشاد لا يتحملها إلا عضو وحيد في رشاد، إبراهيم دوادجي، الذي انتقده في مقطع فيديو نُشر في 11 يناير 2021، ردًا على فيديو نشره بلعربي نعت فيه أعضاء رشاد وحراكيين آخرين “باللقطاء “.  من نافلة القول أن فيديو دوادجي خالف تعليمات قيادة رشاد وخطها السياسي الشامل، لكن، من الإنصاف، كان يستوجب على عماد بوبكري، الذي يقول بأنه يتابع ويوثق نشاط رشاد بعناية، ألا يتكتم على إعلان دواجي عن استقالته من رشاد في 19 فبراير 2021 لاستعادة “حريته في التعبير”، وكانت دعوة يحيى مخيوبة بضرورة احترام حق بلعربي في الحراك، تصب هي أيضا في اتجاه تصحيح هذا الخطأ.

دعونا الآن نعود قليلا إلى الوراء، لننظر في حملات التخوين هذه، ونخترق الضباب الأيديولوجي الذي غطى به عماد بوبكري هذه الحملات. نسجل في هذا المجال ملاحظتين، إحداهما منهجية والأخرى اجتماعية.

أولاً، الطريقة التي يستخدمها عماد بوبكري على ما يبدو، للوصول إلى استنتاجاته هي الاستقراء، انطلاقا من قراءات انتقائية إلى حد ما، لمشاركات منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي. نوّضح بادئ ذي بدء أن رشاد تملك موقع ويب واحد فقط بالإضافة إلى منصة Facebook و Twitter وقناة على YouTube. وجميع مواقعها مختومة بشعارها المعروف. بالفعل لدى بعض أعضائها صفحات خاصة على فيسبوك بأسمائهم الحقيقية، لكن رشاد لم تدير أبدًا أي موقع أو صفحة مجهولة أو مستعارة، وتحرر رشاد أيضا نشرة إخبارية واحدة، تحمل اسم “مدنية” (بالعربية) و “Plateforme ” (بالفرنسية). ثم دعونا نوضح أكثر، لقد دأبت دعاية النظام على ربط شخصيات معينة في مواقع التواصل الاجتماعي برشاد، على الرغم من نفينا لهذه الشائعات واستنكارها لها. أجل، تنشر رشاد كتابات لشخصيات مؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هذه المشاركة تغطي جميع مكونات الحراك. نشرت صفحات رشاد أو أعضائها منشورات –  نذكر منهم دون ترتيب، وفقط ما يحضر بالذاكرة – لعبد الغني بادي، كريم طابو، رضا دغبار، نبيلة إسماعيل، مولود حمروش، سعيد لالماس، خالد درارني، فضيل بومالة، رضوان بوجمعة، سعد بوعقبة، أحمد بن محمد، عبد الوهاب فرساوي، إبراهيم لعلمي، نجيب بلحيمر، أمير dz ، كريم نايت أوسليمان، إلخ. هل نشرنا لمساهمات هؤلاء يجعل منهم مرتبطين برشاد؟

تستوجب الطريقة العقلانية لاستخلاص النتائج حول بنية الشبكات وديناميكياتها وحول تيارات التأثير في الشبكات الاجتماعية، توّفر نماذج نظرية ووسائل حسابية قوية لاختبارها على قواعد بيانات حقيقية كبيرة، على الصفحات والتفاعلات معها. إن اختزال هذه الدرجة العالية من التعقيد في استقراءات انتقائية، هو نوع من الظلامية، ليس إلا.

يتبع عماد بوبكري طريقة أخرى، لا تقل غموضا، في نسب هذه الحملات إلى رشاد. يقول فيها “صحيح أن تنظيم رشاد لا يهاجم رسميًا، عن طريق إصدار البيانات بالتوقيع عليها؛ صحيح أن أميرdz  لا ينتمي رسميا إلى رشاد، لكن الإسلاميين يتصرفون دائما على هذا النحو. هناك الهيكل الرسمي، وهناك الهيكل غير الرسمي”، إن مثل هذا التصور وطريقة التفكير، تحمل اسما محددا، إنها عقلية المؤامرة، التي تنسب الشر إلى قوة لا يمكن كشفها، أي ما يشبه المحفل الماسوني في مخيلة المؤامرة الشعبية. من الواضح أن إثبات وجود التنظيم غير الرسمي أصعب وأكثر جدية من الترويج لمؤامرة استشراقية.

ثانيًا، التخوين ليس اختصاص رشاد كما تدعيه لائحة الاتهام المؤدلجة المعتمدة من قبل عماد بوبكري، حركتنا هي في الواقع إحدى الضحايا، ونعتقد في رشاد، أن جزءاً من حملات التخوين هو عمل البوليس السياسي. ترصدنا للمشهد يثبت أيضًا أن بداية الحملات التي استهدفتنا، تتزامن مع بداية الجائحة وتعليق المسيرات، ولا يُستبعد أن ذلك قد حرر بعض أفراد البوليس السياسي من أعباء متابعة المسيرات، فنقلوا اهتمامهم وانخرطوا منذ ذلك الحين في أعمال تشويش وتخريب للحراك عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن التخوين لا يصدر فقط من كتائب الترول وبطاريات الذباب التابعة للنظام، ورشاد ليست ضحيته الوحيدة. الجميع ضحية هذه العمليات. يُمارَس التخوين عمودياً، من أعلى إلى أسفل، من قبيل حملة “المغرر بهم” و”الأيادي الخارجية”، ومن الأسفل إلى الأعلى مثل شعارات “الجنرالات يا الخونة”. ويُمارَس أيضا أفقيا، بين مختلف أجنحة “العصابة”، وبين كل تيارات المجتمع، ولنا في حروب التخوين بين التيارات الديمقراطية، واليسارية، والبربرية، والوطنية، والإسلامية الدليل على ذلك، ونجد التخوين حتى داخل كل واحدة من هذه التيارات. إن الاغتيال الإعلامي والتشنيع الشرس من بعض الأطراف المسماة بـ”التقدمية” التي استهدفت قاضي إحسان، لمجرد دفاعه عن مفهومه لوحدة الحراك، هو مثال نموذجي على ذلك، ومن الواضح أن هؤلاء يمثلون للمفارقة، الصورة طبق الأصل “للقرسطويين” محل انتقادهم الشرس، ويتشاركون معهم في نفس ضيق الأفق،  ونفس التجمد  المعرفي. خلاصة القول، التخوين مرضٌ ينخر جسم المجتمعات التي عانت من الديكتاتورية لفترة طويلة.

والتخوين نتاج نظام سياسي قائم على تأليه القائد وإقصاء الخصم، ووليد نظام اجتماعي يقدس بشكل أعمى عاداته وتقاليده، ومدرسة فكرية تولي الأولوية القصوى للتأقلم مع الوضع القائم، على حساب خصوصية الفرد، والتلقين على التفكير النقدي، ومسجد يقدس رجال الدين ويشنع بكل من يخالفهم، وثقافة تجسد كل شيء وتضفي عليه طابعا دراماتيكيا. ومن البديهي أن يتمخض عن هذه القوالب الذهنية، مواطن مشاكس، متناقض مع نفسه، وغير متسامح، بعد أن صار غير قادر على إدارة التناقضات وعاجز عن العيش والتكيف في محيط  متنوع  باختلافاته.

مثل هذا السلوك المؤسف قابل للمعالجة، لو سعى كل فرد في الحراك، إلى تنظيف محيطه، بدءً من أمام عتبة بابه، وتوعية المنتمين إلى دائرته، بدلاً من توزيع التهم والتصنيفات الإيديولوجية على الآخرين.

عن النقاش حول أحداث التسعينيات

عرض قاضي احسان تقيما متناقضاً في حديثه عن العودة إلى النقاش حول التسعينيات. فمن جهة، عند حديثه عن الدحدوية، وأوامر الاعتقال، وحادثة استجوابه في مركز عنتر،  يشير ضمنيا إلى أن هناك إرادة أمنية متعمدة لتوظيف ذاكرة الحرب الأهلية من أجل تفجير الحراك من الداخل. ومن جهة أخرى، يطرح مثال علي بن حاج، الذي في رأيه “تحلى بالذكاء والحنكة للتغاضي عن هذه المسألة (عدم التطرق إليها)” لمصلحة الحراك، عكس رشاد التي لم تتحل، في نظره، بما يكفي من التبصر والترفع، والنضج لفعل ذلك، محملا تباعا، رشاد المسؤولية أيضًا عن إعادة إحياء هذه القضية. ونظرًا لعدم التمكن من تجنب هذه المسألة قبل مرحلة الانتقال، يقترح قاضي إحسان مناقشتها “بطريقة هادئة”. وهذا موقف معقول، لكنه يتطلب مع ذلك تبيان بعض بقع الظل.

يبدو لي أن خفوت هذه القضية من المشهد في السنة الأولى من الحراك وظهورها الآن، لا علاقة له بسلوك علي بن حاج أو رشاد. فلا علي بن حاج ولا رشاد يملكان وسائل الإعلام الكفيلة بتأجيل أو فرض هذا النقاش. إن ما يفسر تواري القضية في العام الأول وعودتها بعد ذلك هو تغيير هوية الفئة الأمنية المتحكمة في النظام، وكذلك استراتيجياتهم العكسية لتخريب الحراك وتفجيره. خلال فترة قايد صالح، تمثلت الفزاعة في منطقة القبائل والمعسكر الديمقراطي، اللذين تم وصفهما بالزواف وحزب فرنسا، وكان الجزء المستهدف المراد إبعاده وبتره من جسم الحراك وتحويله إلى زبائن، هو التيار الإسلامي الوطني (باديسية – نوفمبرية)، أما بعد وفاة قايد صالح، شهدنا تفكيك جناحه والعودة إلى الواجهة، الجناح الأمني المرتبط بالجنرال “توفيق: (مدين) وجنرالات قيادة العمليات في حرب مكافحة التمرد. والآن تحوّلت هوية الفزاعة، وصار اسمها رشاد، “وريثة الجبهة الإسلامية للإنقاذ” حسب عنتر، فضلا عن وصمها بالإرهاب، والجزء المستهدف لفصله عن الحراك في هذه الإستراتيجية الجديدة، ورعايته، يقع ضمن التيار الديمقراطي.

من حق كل جزائري الحديث عن التسعينيات ومناقشتها الآن. لكن بالنسبة لرشاد، فإننا نعتقد أن السياق الحالي المكبل للحريات وغياب حرية الإعلام والقمع المسلط على الحراك، لا يسمح ولا يوّفر الظروف المناسبة لإجراء حوار وطني هادئ حول هذا الموضوع، علاوة على ذلك، حتى لو توّفرت شروط إجراء حوار هادئ اليوم، فإن نقاشًا وطنيًا في الوضع الراهن لن يدفع البلاد نحو المصالحة، لأن المصالحة بمعناها الحقيقي تخضع لتسلسل منطقي، يقتضي معالجة آثار النزاع فقط بعد معالجة أسبابه السياسية، المصالحة تتبع زمنيا حل النزاع ولا تسبقه، أما عندما تسبقه، نشهد مصالحة على نمط بوتفليقة “حيث لم يجد أي تناقض في الدعوة إلى المصالحة الوطنية ومواصلة مكافحة الإرهاب” على حد تعبير بوتفليقة.

والمصالحة الحقيقية، التي يمكن أن تبدأ أثناء الانتقال الديمقراطي أو بعد ذلك مباشرة، هي القادرة وحدها، على السماح بنقاش هادئ حول التسعينيات. ويمكننا أن نتحقق بأن المصالحة حقيقية، عندما نرى أنها تُدمج أبعاد الحقيقة والعدالة والاحترام، وندرك ذلك أيضا من خلال الأدوات التي تستخدمها بهذا الشأن، من قبيل تقديم الاعتذار الرسمي العلني، وإقامة لجنة الحقيقة والعفو، والمحاكمات والتطهير، والتعويضات وإعادة دفن المفقودين قسرا واستعادة الذاكرة. إن القدرة على ذكر مأساة الماضي بطريقة مقبولة للأغلبية، تمر حتما بهذه المراحل، هذه هي الطريقة الوحيدة لاستعادة ذاكرة جماعية مشتركة تحول دون تكرار المأساة من جديد.

عن وحدة الحراك

إن المصالحة الحقيقية ممكنة إذا شرعت بلادنا في تحوّل ديمقراطي، تحوّل لا يمكن تحقيقه إلا بالحفاظ على مسار اللاعنف ووحدة الحراك، خاصة في ظروف يحاول فيها البوليس السياسي الآن احتوائه وتقسيمه من خلال التلويح بشبح التسعينيات.

خلال برنامج CPP  قال قاضي احسان “يجب على رشاد أن تجعل وحدة الحراك على رأس أولوياتها”، وكأن رشاد قد توقفت عن فعل ذلك، وهو ما يستدعي توضيحًا أخيرا.

انضمت رشاد إلى إحدى المبادرات السياسية الجماعية الأولى من أجل الانتقال السياسي، ودعمت رشاد علناً جميع المبادرات ذات المصداقية الهادفة إلى صياغة حلول مشتركة أو توحيد قوى الحراك نفسه، حتى عندما لم تكن جزء منها.

حركة رشاد ليست حبيسة التسعينيات ولا رهينة حيثياتها، وقد أعرب بعض أعضاء رشاد ذوو الحضور الإعلامي المنتظم عن تفضيلهم إصدار عفو شامل للضباط الذين يخشون الملاحقة الجنائية المرتبطة بالحرب القذرة أو الفساد.

وأكدت رشاد مرارًا وتكرارًا عرض تجميد المناقشة العامة حول حرب التسعينيات، على أن يستمر ذلك على الأقل في الفترة الانتقالية، شريطة أن تلتزم جميع الأطراف المعنية بها، لأن الملاحظ، أن البعض يصرحون بما يريدون عن تلك السنوات، ومتى يشاؤون، لكنهم ينكرون على غيرهم حق الحديث عنها.

منذ بداية الحراك، اقترح مراد دهينة في عدة مناسبات، أن يبتعد عن المنافسة السياسية بعد فترة الانتقال، جميع السياسيين المتورطين في فشل التحول الديمقراطي وحرب التسعينيات، لتفادي أي لغط وسوء فهم، بين منتصر ومنهزم، وترك الأجيال الشابة أخذ مصير البلاد في يدها.

ما فتئت “رشاد” تُعرب عن استعدادها للبناء، رفقة جميع الشركاء السياسيين لإرساء ضمانات سياسية ودستورية قادرة على منع، بعد الفترة الانتقالية، بروز انقسامات أو استقطابات عميقة في البلاد، أو تغوّل حزب مهيمن.

تساهم رشاد أيضا في تكريس اللاعنف ووحدة الثورة من خلال التصدي لمناورات الاستقطاب التي تستهدف الحركة من أجل تفتيت الحراك، متحلية بأقصى درجة من الصبر لمواجهة كافة أنواع الترهيب والتهديد وحملات الاغتيال الإعلامية من قبل السلطة، مع الحفاظ على تركيزها السياسي على “العصابة” ورفضها الرد على حملات التشهير والشتم، والهجمات واستفزازات بعض الإخوة في المعسكر الذي يدعي الانتساب للديمقراطية، وعن طريق الحوار بكل احترام للغير، وتفضيلها طريق التفكير على ردود الفعل، والاعتدال على المبالغة، والهدوء على فرط الحساسية، أي باختصار، تحليها بالصبر كفضيلة إستراتيجية.

يبدو أن البعض نسوا بسرعة أنه بالأمس القريب، بينما كانت منطقة القبائل والمعسكر الديمقراطي موضع شيطنة، ونعتهم بالزواف وحزب فرنسا، لجعل منهم منفرين، لبتر الحراك من مكونه الوطني الإسلامي، رفضت رشاد آنذاك، إلى جانب غيرها من الحراكيين آخرين، الوقوع في شباك المكلفين بمهام من قبل مركز عنتر الذي همس في آذان البعض أن “القبائل وحزب فرنسا يتسلقون ظهوركم للاستيلاء على السلطة”. وقد ساهمت رشاد بقوة في إفشال حملة الشيطنة هذه ومناورات شق الصفوف.

واليوم، انقلب الوضع، مع تبني مديرية الأمن الداخلي الجديدة DGSI إستراتيجية تخريبية معاكسة، تهدف الآن إلى تنفير عنصرها الديمقراطي من الحراك. في ضوء هذه الحملات، نسجل بدورنا أن أولوية وحدة الحراك تخص أيضا هذا المُكون منه، بل ويُعد بمثابة لحظة حقيقته، واختبار لحريته.

هتفت أغنية ولاد البهجة وسولكينغ “الحرية لا تخيفنا”؛ يمكننا أن نتفهم خشية المستبد من حرية المضطهد، لكن، هل يعقل أن يخاف بعض المضطهدين من الحرية وهل يفضلون البقاء مرتبطين بسلاسلهم؟

الجواب نعم، ممكن، إنه الخوف من تحمل  تبعات الحرية، وتحمل عبء المسؤوليات التي تنطوي عليها، والخوف من عناء الاختيار، والخوف من الانحراف عن وضع السكون والقبول بالأمر الواقع، أو فك الارتباط بالإطار الهيكلي للاستبداد، والخوف من تولي الإنسان مصيره بيده، والخوف من تقلبات مستقبل الحرية. (إريك فروم)

أسجل من موقف قاضي إحسان، ثقته في الحرية ووحدة الحراك، بصرف النظر عن الضباب الأيديولوجي الكثيف الذي رافقه في هذا البرنامج الحواري، ولكل فرد الحق في الحكم على ما إذا كان موقفه قد بدده أو عتم عليه.

أفلح أشقاؤنا وجيراننا التونسيون في التعامل مع خلافاتهم لبناء مستقبل ديمقراطي لشعبهم. الأمل المعقود بالنسبة لنا، هو أن ننجح، نحن جميعا داخل الحراك، مهما كانت مشاربنا السياسية أو الأيديولوجية، في التحلي بأكبر قدر من الصبر والتسامح لترسيخ وحدة الحراك والسير معا الخطوات القليلة التي تفصلنا عن المستقبل الديمقراطي للجزائر.

يوسف بجاوي، عضو حركة رشاد

29 مارس 2021