كثُر الحديث عن جهاز المخابرات (مديرية الأمن والاستعلام)، خاصة في السنوات الأخيرة، إلى حد الهوس في نظر البعض، وتم تحميل هذا الجهاز كل المسؤولية أو الجزء الأكبر منها، على ما آلت إليه الأوضاع في البلاد. رغم كون هذا الجهاز، مجرد مديرية داخل مؤسسة الجيش الوطني، إلا أنها أصبحت عنوانا لكل المفاسد ومسؤولة عن كل الويلات التي يتعرض لها البلد. هذه الهيمنة أو “تهمة الهيمنة والفساد المستشري” (في نظر البعض) جعل هذا البعض يعتبرها مجرد تصفية حسابات مع هذا الجهاز وانتقاما منه على ما يقوم به من “مهام جليلة” لحماية البلاد، بل واعتبر تلك التهمة، من نسج خيال أصحابها، أكثر منها حقيقة تثبتها الوقائع، وهو ما يذكرنا، باعتراض مماثل، أبداه البعض قبل سنوات، عندما طفا إلى السطح شبح توفيق مدين، وكثُر الحديث عن تحكمه المطلق في دواليب السلطة، إلى درجة جعل البعض ينفي وجوده من أصله واعتباره مجرد أسطورة لا حقيقة لها، حتى تبيّنت حقيقة الرجل، بلحمه وشحمه وسوء صنيعه، بل وتباهيه بتسمية نفسه “رب دزاير“، عندما تكشفت أخبار ممارساته وشبكاته الأخطبوطية.
تراكم هذه الأخبار حول “مخابراتنا” يفرض التساؤل المشروع، هل مديرية الاستعلام والأمن جهاز وطني، مُكَرس لحماية العباد والبلاد، أم منظومة مافافيوية، تتصف بكل صفات الإرهاب؟ للإجابة عن هذا السؤال، نترك سجل الجهاز وطريقة عمله (modus operandi)، يتحدث عن نفسه.
التُهَم الموجّهة إلى جهاز المخابرات أكثر من أن تحصى، ومسؤوليته، المباشرة وغير المباشرة، عن الوضع السائد في البلاد، على كافة المستويات وكل الأصعدة وفي كل المجالات، تعززها أكوام من الشهادات الموثقة، من داخل هذا الجهاز نفسه، لدرجة أصبحت المطالبة بحلّ ما يَطلق عليه المواطنون اسم “المنظمة الإرهابية” (في إشارة إلى مديرية الاستعلام والأمن DRS، وريثة الأمن العسكري SM)، مطلبا يُعتبَر بوابة لا غنى عنه، للتحرر من قبضته وجبروته. وتوْضيحًا لدواعي هذا المطلب، فلا أعتقد أنه يوجد مواطن عاقل واحد يتصوّر إمكانية قيام دولة واستمرارها من دون جهاز مخابرات، داخلي لحمايتها من الأعداء داخل حدودها، وخارجي، لحمايتها من الذين يتربصون بها خارجه، فليس هذا ما يطالب به المواطنون كما يروّجه المرجفون، إن ما يطالب به المواطن، هو أن تضطلع كل مؤسسة وجهاز وهيكل من هياكل الدولة، بما في ذلك المخابرات، بالوظيفة المحددة التي خوّلها إياه الدستور وقوانين البلاد، أي ببساطة، الالتزام بأركان دولة القانون، لا أقل ولا أكثر.
بالنظر إلى سجل هذا الجهاز (المديرية) الذي أصبح وصمة عار في جبين أجهزة الأمن والجيش، يلطخ سمعتهما، بات من الأولويات المُلّحة معالجة الموضوع في العمق إذا أردنا وقف انجراف الدولة وتلاشيها الكلي. ونحن هنا لا نتحدث عن تجاوزات أفراد أو عمليات معزولة أو ممارسات محدودة في مناطق معينة، لأن مثل هذه الأمور طبيعية وتحدث في كل الدول، وتُعالَج وفق القوانين والآليات الموضوعة لهذا الغرض. المُعضِلة هنا تتعلق باستراتيجية راسخة، وممارسة مرضية توشك على هلاك الدولة، وتنتشر بمنهجية على أوسع نطاق، منذ أن افتكّ الشعب استقلاله من نير الاستعمار، مما يؤكد على أن المرض عضال وهيكلي، لا تنفع معه عمليات سطحية، من داخل منظومة الحكم المتحكّم فيها أصلًا الجهاز ذاته.
السجل القاتم لهذا الجهاز، يؤكده العديد من عناصر الجيش والشرطة والدرك والمخابرات، في شهاداتهم حول الطرق الخبيثة والإجرامية المعتمدة من قبل هذا الجهاز، لبسط هيمنته، خاصة من خلال عملية الاختراق التي لم تستثن أي طرف، سواء داخل السلطة أو خارجها، بحيث لم تنج ولا مؤسسة من مؤسسات الدولة، من أصغر بلدية إلى قمة الرئاسة. وقد تكشفت نوعية وأهداف وسعة “الاختراق”، عند افتضاح عمليات صناعة وتوظيف “الجماعات الإسلامية المسلحة”، التي ترأسها ووّجهها عملاؤها داخل هذه الجماعات، على غرار ما أفاد به الجنرال بن حديد حول تحكم اسماعين العماري في جماعة قادة بن شيحة في جبال تلاغ (ولاية سيدي بلعباس)، وتوظيفه في عمليات محددة، أو شهادة بونويرة عن استعمال شبكات المخدرات والسلاح والنفوذ والمال والمناصب وتجنيد العملاء وابتزاهم بملفات، تظل “مجمدة” ويلوّح بها كلما حدثت أحدهم نفسه التمرّد، وغيرها من الشهادات التي تكشف بالتفاصيل، طريقة عمل المخابرات.
قد يقول البعض، أيْن العيب في ذلك، فالأمر جد طبيعي ومن صميم مهام وواجب المخابرات، اختراق التشكيلات المشبوهة لإجهاض أي عمل خطير قد يمس الدولة، وبالتالي هذه ممارسة محمودة لحماية الشعب وإحباط الدسائس، وأنها ممارسة طبيعية بل صحية، معمول بها ومعتمده في كافة دول العالم، وخاصة في الدولة الكبرى والديمقراطية التي تتمتع بأنظمة شفافة تضمن حرية شعوبها. إن مثل هذا الاعتراض والمقاربة، ساذجة في أحسن الظروف ومغرضة على الأرجح، لأن هناك فرق جوهري بين اختراق جماعات مسلحة أو مالية أو غيرها، من شأن أعمالها أن يضر بالدولة، ومن ثم وجب مراقبتها واحتوائها، ثم إحباط مراميها قبل تفكيكها، وهذا أمرٌ مشروع من صميم مهام واختصاص جهاز مخابراتي، يخضع هو نفسه للمراقبة، لكيلا يتحوّل إلى أخطبوط يضع أجهزة الدولة كلها، تحت سيطرته وخدمة مصالحه، وبين اختراق التنظيمات السياسية أو النقابية أو الحزبية، أو حتى مؤسسات الدولة ومجالسها المنتخبة، بغية السيطرة عليها وتشكيل ملفات ضدها، لتوظيفها لاحقا، وجعلها تخضع لسيطرة هذا الجهاز وتنفيذ كافة أوامره تحت التهديد والابتزاز، في عملية سطو منهجية، أو صناعة جماعات مسلحة لتوجيه أعمالها واستعمالها لإرهاب الشعب، فتتحوّل المخابرات من جهاز يُفترَض فيه حماية الوطن والمواطنين، إلى بوليس سياسي، أو مافيا إجرامية، تجثم على صدر الشعب، للإيقاع بالجميع والتحكم في كافة مكوّنات المجتمع والدولة بواسطة الابتزاز.
ثم كيف لنا أن نفسر “غياب” هذه المخابرات المتواجدة في كل مكان، و”فشلها” في كشف كبار اللصوص وإحباط عمليات استنزاف خزينة الدولة، بمليارات الدولارات؟ هل يعقل أن تحدث مثل قضايا سونطراك 1 و2، وبنك الخليفة والطريق السيار وتورط الجنرال الهامل في قضايا فساد عارمة بما في ذلك المخدرات، او قضية البوشي و700 كلغ كوكايين وغيرها كثير، دون أن تعلم بها “المخابرات”؟ ألم يكن من صميم مهامها أن تحبط ذلك حتى قبل وقوعه (وظيفة العمل الاستشرافي)؟ الواقع والوقائع (التي كشفها شهود بعد ذلك) تبين أن هذه العمليات الفظيعة نُفِذت، ليس لأنها غابت عن أعين المخابرات، بل لم يكن لها أن تحدث، إلا بمعرفة ومساندة وإيعاز الجهاز نفسه، أولا لتقاسم الغنائم، والأهم من ذلك، لاستثمارها لاحقا، للإمساك بالمنفذين، بدل تقديمهم إلى القضاء، وتشكل ملفات ضدهم تضعهم تحت قبضتها، تحرك ملفاتهم كيفما شاءت ومتى شاءت. وهل كان ربْرابْ أو عبد المومن خليفة أو شكيب خليل أو حداد أو كل اللصوص المعروفين والمجهولين، بإمكانهم السطو على تلك الملايير من الدولارات دون علم المخابرات؟ لم يكونوا في الواقع سوى واجهات ووكلاء، ممثلين مدنيين، عن جهات نافذة في الجهاز، ولولا حماية وضمانة هذا الجهاز ما تجرؤوا على فعل ذلك.
لا يُصَدق أحد لحظة واحدة، أن جهازا يضع الجميع تحت الرقابة، يخفق في التصدي لقضايا كبرى هزّتْ الوطن، قضايا ما كان للمواطن أن يسمع بها لولا افتضاح امرها في إطار عمليات تصفية حسابات بين أجنحة في السلطة. وهذه الملفات وغيرها كثير، مثلما تبينه لنا “صناديق” حميد ملزي، المدير السابق لإقامة الدولة بالجزائر، التي تم اكتشافها في مداهمة لبيته، في أعقاب حراك 22 فبراير 2022، احتوت تلك الصناديق، ملفات شملت جميع المسؤولين، وقدمت الدليل على أن جهاز توفيق جنّد جيشًا من الوشاة للتجسس على الشعب الجزائري عامة، وجند أكابر البياعيين للتجسس على الشخصيات السياسية والمالية والثقافية والدينية وغيرها، مثلما كان يفعل ملزي مع رؤساء الأحزاب، داخل الحكومة ومعارضة الدكاكين، الذين أوَتهم إقامة نادي الصنوبر، وإعداد الملفات الثقيلة، المالية والأخلاقية، خاصة بكافة المقيمين هناك، وتوظيفها كورقة ضغط عليهم، وعلى كل من يحاول التملص من قبضته. وبعد وضع جناح قايد صالح اليد على تلك الصناديق الثمينة، قام هو الآخر، بدل تسليمها للعدالة لتأخذ مجراها الطبيعي لتنفيذ القانون، قام بتوظيفها، سيف مسلط على رقاب كل من تُسوّل له نفسه التمرد على السلطة الراهنة، خاصة من رفض أو تردد في المشاركة في انتخابات 12 ديسمبر، ليثبت لنا أن الذي اعتقد أن عقلية البوليس السياسي وعمليات الابتزاز، قد ولى زمنها، كمْ خابت آماله عندما انقشع الضباب.
ولعلنا نجد في شهادة العقيد السابق في مديرية الاستعلام والأمن، محمد سمراوي، أوضح توصيف لطريقة ممارسة المخابرات، في التوظيف والابتزاز، بدلا من حماية الوطن، وإحباط كل العمليات الإجرامية ضد الجزائر. في شهاداته (في كتابه ‘وقائع سنين الدم‘) يقول العقيد محمد سمراوي، في الصفحة 73 من النسخة العربية، تحت عنوان فرعي “إسلاميٌ مضاربٌ في خدمة الأمن العسكري SM“:
“وفي بداية سبتمبر 1990 ألقت الشرطة القضائية، التابعة للأمن العسكري، ومقرها في مركز عنتر، القبض على المدعو “ب“ إسلامي نشيط في التجارة، ومناضل في ج.إ.إ، كان ينظم عملية استيراد أجهزة الاتصالات اللا سلكية (طولكي والكي، راديو) موّجهة إلى الإسلاميين في ناحية برج الكيفان، معقل جماعات التكفير والهجرة، لكن في الوقت الذي كان مقررا أن يقدم “ب“ إلى العدالة، قدّم رئيس DGDS الجنرال محمد بتشين استقالته، فأعيد على إثر ذلك، تنظيم الجهاز، لإنشاء مديرية الأمن والاستعلام DRS ، وقد توّلى إسماعين العماري الذي كان قد استعاد رئاسة مديرة DCE، بنفسه القضية، لكنه، بدل من تقديم المدعو “ب“ إلى المحاكمة“، عرض عليه صفقة، تتمثل في طي ملفه، والسماح له باستئناف نشاطه التجاري طليق اليدين، في مجال “الاستيراد والتصدير” مقابل التعاون مع الأمن العسكري، وهو ما قبله بسهولة.“
هذه الحالة المرضية التي جعلت من جهاز تابع لمؤسسة الجيش، يتعاظم بشكل سرطاني، ويستحوذ على كل السلطات ويشلّ كافة مجالات الدولة، جعل حركة رشاد ترى بضرورة معالجة الأمر معالجة جذرية، وتجعل ضمن أولوياتها، إلى جانب تمدين الدولة، مطلب التحكم الديموقراطي في القوات المسلحة، وخاصة في جهاز المخابرات، الذي تأكد لها أنه المُتَحكم الأول والمهيمن المطلق على هياكل الدولة، ولا يمكن للدولة أن تعيد بناء نفسها وتطهير مؤسساتها وأجهزتها، إلا بوضع حد لممارسات هي أقرب إلى ممارسات جماعات الجريمة المنظمة منها إلى جهاز مخابرات وطني، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال تسيير شؤون الدولة بشفافية ورقابة على كافة المستويات، من قبل سلطة مدنية منتخبة.
د. رشيد زياني الشريف | عضو المجلس الوطني لحركة رشاد