مقالات

إذا كانت منظومة الحكم تخشى على أسرارها من ممثلي الشعب، فمَن المؤتمَن؟

في حديثه عن مشروع قانون يخص تنظيم عمل المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة وعملهما، أكد تبون، رئيس ‘الجزائر الجديدة’ على “أهمية العلاقة الوظيفية بين غرفتي البرلمان والحكومة، مع مراعاة مساءلة أعضاء الحكومة، في كل المجالات…باستثناء…”. هذا تصريح، أو بالأحرى الجزء الأول منه، غير مسبوق ولا بد من الاعتراف بأنه جريء ويشكل قفزة نوعية في بناء دولة القانون وقواعد المساءلة وفصل السلطات، وفي “ترسيخه” دور المراقبة الذي يسند إلى ممثلي الشعب في الغرفتين. ويمكن حتى أن نرى في مثل هذا المشروع، تنفيذًا لوعود السلطة بـ”تمدين الدولة”، وإنهاء ممارسات التعسف وتغوّل الأجهزة كما كانت سائدة من قِبل حكم العصابات، كما وصفها قايد صالح قبل أن يغادر دنيا الناس.

هذا الشطر من تصريح تبون، كاد أن يجدد الأمل في نفوس دعاة تمدين الدولة، وتسيير شؤونها بشفافية، واعتماد الآليات الكفيلة بمساءلة جميع المسؤولين في كافة المجالات لمنع تغوّل أي جهاز او قطاع، ووضع حد لعملية اتخاذ القرارات المصيرية داخل الغرف المغلقة، واستنزاف أموال الدولة، دون حسب أو رقيب، ودون أن يتمكن أحد ولا حتى ممثلي الشعب المفترضين، والمفوضين من قبله، الاطلاع على أي شيء مما يحدث هناك. أقول كاد هذا الجزء من تصريح تبون أن يفند التهم الموجهة إلى السلطة، ويُكَذِّب من يقول بأنها مجرد استمرار لمنظومة حكم بوتفليقة بواجهة تبونية. بل هناك من ذهب إلى حد اعتبار هذا المشروع، تنفيذًا لمطلب تمدين الدولة، واعترافًا من تبون بأن الحياة السياسية في البلاد، تخضع للحكم العسكري، ولا بد من وضع حد لذلك. لكن، للأسف هناك لكن، التجارب المريرة، على مر نصف قرن من الزمن، كشفت لنا أن العصب الحاكمة بارعة في خلف الوعود وإفراغ كل الشعارات من محتواها، مثلما فعلته مع الاشتراكية والديمقراطية والمصالحة وغيرها، لتلتف عليها كلها، لتحقيق هدف واحد أوحد، استدامة الحكم في ثوب جديد، وهو ما تفعله اليوم وتؤكده الإضافة (“الاستثناء”) في هذا التصريح.

يتحدث تبون في مشروع القانون عن “مراعاة مساءلة أعضاء الحكومة، في كل المجالات…”باستثناء” الدفاع الوطني، وأسرار الدولة في العلاقات الخارجية”. هذا “الاستثناء” ينسف المشروع برمته، ويكشف الغرض الأساسي منه أصلا. يستثنى مشروع تبون من المراقبة أهم قطاعين، الدفاع والخارجية، بحجة أنهما “مجالَي تحفظ”، أو بعبارة أخرى، لا يراد للمواطنين، من خلال ممثلهم (يُفترض أنهم الأمناء على مصالح الدولة والشعب) أن يطلعوا على ما يتخذ من قرارات وممارسات، في هذين المجالين. بهذا الاستثناء، يقول لنا تبون أن ممثلي الشعب غير مؤتمنين على أسرار الدولة ولا يجوز لهم مساءلة الحكومة في القضايا المتعلقة بالدفاع الوطني والشؤون الخارجية ولا يحق لهم معرفتها والتدخل فيها. إذا جمعنا مجال أسرار الدولة في العلاقات الخارجية والدفاع الوطني فإننا نتحدث هنا عن جانب كبير من الأمن القومي، لا يحق للجزائريين الخوض فيه بأي طريقة كانت ولو عن طريق من يفترض فيهم تمثيله والتعبير عن إرادته.

بماذا يمكن إذن تفسير وتبرير استثناء حق المساءلة في هذين المجالين، كما ورد في بيان الرئاسة؟ أليس من حق ممثلي الشعب مساءلة موظفي الدولة، في كل ما يرونه ضروريًا، دون استثناء، من خلال آليات ولجان مخصصة، بما يحفظ أسرار الدولة، كما هو معمول به في كافة الدول التي تعتمد نظام فصل السلطات وقواعد المراقبة والشفافية، دون أن يهدد ذلك أمنها؟

عمليًا، هذا الاستثناء يكشف عدم ثقة الحكم الفعلي، في مَن وضعوهم، هم بأنفسهم، “لتمثيل” الشعب، مع العلم، أن الشعب في معظمه، يعلم بأن “نواب الشعب” غير مؤتمنين فعلًا وواقعًا، لسبب بسيط لأنهم لم يأتوا بإرادته في انتخابات شفافة تعبّر عن خيارهم، لكن، هذا الاستثناء، يكشف أن الذين عيّنوا “نواب” الشعب، هم أيضًا لا يثقون فيهم، ولا يسمحون لهم بالخوض في هذه القضايا، ويذكرونهم بـ”الغرض” الوظيفي الحصري الذي جيء بهم من أجله، ويذكّرونهم أنهم يحتلون مقاعد هذه المجالس بإرادة العصابات، لا بإرادة الشعب، ومن ثم فهُم غير مخولين، حتى إن أرادوا، أن يطالبوا بدور المراقبة والمحاسبة.

نظرة عابرة في مشروع القانون، تؤكد أن جوهره يُختصَر في فقرة “الاستثناء” في المساءلة، وأن كلّ ما سواه حشو، لا يختلف عن زيف الوجه المدني للسلطة الفعلية.

دعونا نبحث في المقصود “بمجال تحفّظ” أو بعبارة أخرى، الأسرار التي يخشون تسرّبها.

أولًا، ما طبيعة الأسرار التي يخشون انتشارها ويرفضون تبليغها ولا يأتمنون عنها “نواب الشعب”، الذين يفترض أنهم يشكلون السلطة التشريعية والمخوّلون بمراقبة مؤسسات الدولة ومساءلتها، من الأعلى إلا الأسفل، بموجب المهام الموكلة إليها وفق القانون والدستور.

ثانيا، لنا أن نسأل أو نتساءل بالأحرى، دائمًا بشأن الأسرار والحرص على صيانتها؛ بماذا نفسر تلك الجهود المضنية المبذولة لجلب عريف ورقيب ومساعد في الجيش من الخارج، بصفقات لا يعلم مضمونها سوى أصحابها، بحجة إفشائهم أسرار الدولة، في حين لم يحرّكوا ساكنًا فعليًا (ولا يخفى أنهم لا يرغبون في ذلك أصلًا) في المطالبة بتسليم قادة سامين في أجهزة الأمن والدرك والجيش من جنرالات وعقداء وغيرهم، ممّن يحملون أعلى الرتب ومؤتمنون على أخطر الأسرار، بحكم المناصب التي تولّوها، خاصة أنهم هاربون في دول أجنبية، ومن ثم معرّضون لمقايضة تلك الأسرار بمزايا وحماية الدولة المضيفة؟

والتساؤل الثالث، متى كان كشف فساد كبار المسؤولين، من عسكريين ومدنيين، من جرائم اختلاس وابتزاز واستعمال النفود وجرائم أخلاقية ومالية وقتل وتعذيب، من الأسرار التي يجب التستر عليها لضمان تماسك الجيش وحمايته، بدل أن يكون كشفها، واجبًا وعملًا وطنيًا، يحمي هذه مؤسسات الدولة من الانهيار، ويُجازى صاحبه؟

هذا الاستثناء في المراقبة، المتضمن في مشروع قانون تبون، يوضّح لنا سبب هلع السلطة الحاكمة من دولة مدنية فعلًا، تسيّر شؤونها بشفافية، وتخضع للرقابة في كلّ المجالات، وتشمل كلّ المسؤولين، من الرئيس إلى الغفير، ومساءلتهم ومحاسبتهم، من قبل مجالس لا تأخذ تفويضًا سوى من المواطن الذي عيّنهم، ومستقلين تمامًا عن هيمنة العسكر والمخابرات والقوى المالية الجاثمة على صدر الأمة، مثلما يجري في الدولة العسكرية بواجهة مدنية. هذا الهلع من الدولة المدنية الفعلية، هو سبب محاربتهم المطالبين بها، وتشويه سمعتهم، ومتابعتهم بتهم سياسية والزج بهم في غياهب السجون، مثلما انقلبوا على خيار الشعب الجزائري تارة باسم محاربة الامبريالية وتارة أخرى باسم الاشتراكية الخاصة وتارة باسم مكافحة الإرهاب.

في الأخير، كيف الخروج من هذه الدوامة؟

ليس هناك وصفة جاهزة ولا حل سحري، الطريق يبدأ بإعادة السيادة إلى الشعب، بشكل سلمي ومتدرج، بعيدًا عن تصفية الحسابات، وبالتحرر في نزعة الانتقام، لكن بمشاركة الجميع، السلطة الفعلية القائمة من جهة ومكوّنات الشعب وممثليه من جهة أخرى، دون إقصاء لأي طرف، أي بعبارة واضحة، تمدين الدولة عبر مراحل معقولة، لكن فعلية وليس صورية، لينتهي المشوار بالتحكم الديمقراطي في القوات المسلحة وجهاز المخابرات على وجه الخصوص. وهذا السبيل، سبق أن ركزت عليه حركة رشاد منذ نشأتها (وغيرها من التنظيمات السياسية والشخصيات من مختلف المشارب) وجعلته من أولوياتها، ودعت لتحقيقه، إلى مدّ الجسور بين مختلف مكونات المجتمع والشروع في حوار واسع شامل غير إقصائي، تشارك فيه السلطة الفعلية (القيادة العسكرية المهيمنة) والأحزاب والمجتمع.

وفي إطار هذه الرؤية، ترى رشاد، ضرورة تمخّض تمدين الدولة عن رئيس يستمد شرعيته من انتخابات حرة ونزيهة، ويمارس مهامه تحت رقابة مجلس شعبي وطني منتخب فعلًا وسلطة قضائية مستقلة ونزيهة، وحتمية حلّ جهاز الأمن الداخلي (الذي يمارس دور البوليس السياسي)، وكل ملاحقها المعنية بالتحكم في مؤسسات الدولة والمجتمع، ووضع تدابير تشريعية وتنظيمية وإجرائية (كالتحقيقات وجلسات الاستماع والتقارير والشهادات والاستفسارات والأسئلة والمناقشات والاقتراحات والقرارات) كلها من أجل الرقابة البرلمانية لنشاطات الجيش الوطني الشعبي من طرف المجلس الشعبي الوطني ووضع إجراءات قانونية للتحكم القضائي في نشاطات الجيش الوطني الشعبي. هذه بداية، يمكنها أن تعبّد الطريق وتعيد الأمل، لانتشال البلاد من مأساة نوشك الوقوع فيها بلا رجعة.

الدكتور رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد