مقالات

هل كان الحراك عدميًا، ومتسرعًا في تحقيق مطالبه، أم لا زال فرصة سانحة لإنقاذ الجميع؟

لا يذيع المرء سرًا ولا يضيف جديدًا إذا قال بأن جماهير الحراك تقلصت مع انسحاب فئات متتالية وصمت أخرى. هذه الحقيقة ليست بدعًا في تاريخ الحركات التي تصبو إلى تغيير جذري للأوضاع، وتتصدى لجوهر الأسباب التي أدت إلى الأزمات التي تعيشها الشعوب، فلا غرابة في تآكل الصفوف، مع طول الوقت واشتداد المحنة والقمع، وهو أمرٌ تمرّ به شتى الحركات الثائرة على الاستبداد، ومنها ثورة الشعب الجزائري على الاحتلال الفرنسي، التي مرّت بمراحل وهن وضعف، بعد تلقّيها ضربات قاسية من قِبَل القوات الاستعمارية، بما زرع الشك في صفوف البعض، ودفع البعض الآخر إلى التراجع، بل وحتى الالتحاق بالمستعمر. إن ما يحدث مع الحراك ظاهرة من صميم طبيعة البشر وسنن الكون؛ ليس جميع الخلق على نفس البصيرة والعزيمة والصبر على تحمّل تبعات مشاريعهم والمثابرة في مطالبهم والصمود أمام التحديات التي تواجههم، وذلك بمثابة امتحان لعزيمة كلّ فرد من أفراد الحركات التغييرية، فيصقل عزيمة وتجربة البعض ويُسقط البعض الآخر.

من البديهي أن هذا التراجع يعود بالأساس لحجم الرعب والقمع الذي شهدته أغلب الدول العربية التي عرفت انتفاضات شعبية (وليس في الجزائر فحسب)، وتسبّب في موجة الانكماش. قد توحي قتامة الساحة، أن الأمر أصبح محسومًا، مؤذنًا بفشل تلك الهبّات الشعبية التغييرية، ودليلهم على ذلك، الانسحابات المتتالية، ووقوف الكثير جانبًا، كأنّ الأمر لم يعد يعنيهم. شهدنا بالفعل مَن وهنت عزيمتهم بعد تلاشي أملهم في تغيير كانوا يرونه قاب قوسين أو أدني من تحقيق تطلعاتهم، وآخرون خاب ظنهم في معظم النخب التي كانوا يعوّلون عليها لحمل مطالبهم وتجسيدها، وهناك من انسحب فقط لأنه لم يحقّق ما كان يطمح إليه من مزايا شخصية، ومنهم من جعل من تمكين وجهة رأيه وزمرته، منتهى التغيير، وعندما أخفق في ذلك نكص على عقبه، ومنهم من خرج انتقامًا لفئة، وما إن تحقّق له ذلك، عاد راضيًا مطمئنًا إلى بيته،  ومنهم من اعتقد أن الحراك نزهة مأمونة الجانب وما أن بدأ فحيح القمع والتعسف، آثر العودة سالمًا مؤثرًا العافية، ومنهم من برّر انسحابه بما أسماه “تطرّف الحراك وعدميته”، محمّلًا الحراك “الفشل” بسبب “رفضه الحلول والوسطى”، وآخرون استقالوا منه، مندّدين بما وصفوه “استحواذ طيف من الحراك وهيمنته عليه”، وهناك من ذهب إلى حدّ تبرير انسحابه، بتهمة “التمويل المشبوه لحساب أطراف أجنبية متربّصة بالجزائر”، مردّدًا التهم التي وجهتها السلطة إلى معتقلي الحراك، تبريرًا لاعتقالهم بموجب المادة 87 مكرّر، ومنهم و… منهم، لكن رغم نكوص البعض وخيبة أمل البعض الآخر، ورغم الظروف الصعبة المكلفة، لم تنطفئ شمعة النضال من أجل بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، ويظلّ مواطنون قابضون على جمرة الحراك الملتهبة، يتحمّلون عبء الأمانة والمسؤولية، يواصلون المقاومة ويتحمّلون القمع المسلّط عليهم، في خضمّ حملات مفزعة من التضليل والتشويه والتشنيع، وهم بتضحياتهم تلك يؤكدون سُنّةً من سنن الحياة في التغيير، حيث يكثر الملأ عند المغنم، ويقِلّون عند المغرم.

لكن، مع تفهُّم كافة الأطراف وتحفظاتهم، كان من الواجب، سواءً على الذين يتّهمون الحراك بالتطرّف والتسرّع في جني ثمار عملية التغيير، أو الذين يصفونه بالعدمي في رفضه للحلول الوسطى والتوافقات، أو الذين يزعمون أنه تُحرّكه نزعة انتقامية ويدعو إلى نصب المشانق لتصفية حساباته مع جنرالات التسعينيات، أو الذين يرَون أن فريقًا منه يسعى إلى الاستحواذ عليه ويفرض نفسه زعيمًا وقائدًا، ويحتكر اتخاذ القرارات، كان على هؤلاء كلهم، التريّث والتحلّي بالصدق والأمانة، ويعودوا إلى عددٍ من الوقائع والأدلة التي تفنّد كل التهم والمزاعم، من ذلك الكَمّ الهائل من المبادرات (أكثر من 40 مبادرة) التي قدمتها شخصيات وتنظيمات وائتلافات، تدعو جميعها، بدون استثناء، إلى حلول توافقية بمشاركة الجميع، بمن فيهم السلطة نفسها، أي الحكم القائم الذي يراد تغييره، ناهيك عن رفاق الدرب في المسار التغييري بكل توجهاتهم، ومهما كانت درجة الاختلاف معهم، بل والحثّ على مشاركة حتى مَن هم في صلب السلطة، أي النواة العسكرية المخابراتية. هل يحقّ للمُتهِمين، بعد ذلك، تحميل المعارضة، ورشاد خصوصًا، تبعات ما يعتبرونه فشلًا، واتهامهم بالتسبّب فيه وإجهاض فرص النجاح والحلّ الذي كان سينجينا ممّا نعيشه اليوم. إلى جانب ذلك، قد عبّر جميع أصحاب المبادرات بشكل واضح، أنهم يدركون أن مسار التغيير لن يتمّ بين عشية وضحاها، وأنه يجب أن يكون بعيدًا عن الانتقاء أو الإقصاء، لكن شريطة ألا يكون تغييرًا شكليًا، ومجرّد واجهة أخرى للسلطة الفعلية. كلّ ما طالب به أصحاب المبادرات، هو أن يتمّ ذلك في إطار مشروع توافقي لا يخضع للأمر الواقع والفرض من أيّ جهة كانت، وأن يكون شفافًا ويأخذ في الحسبان مطالب التغيير الفعلي، مقتنعين بأنه سيتم بالتدرّج وعبر مراحل. فمن الإجحاف والظلم، اتهام أهل الحراك برفض المقترحات العقلانية لإخراج البلاد من محنتها. وحتى اللحظة هذه، يدرك أنصار التغيير الجذري بقناعة، أنّ الجيش الشعبي مؤسسة، ملكٌ للشعب وفي خدمته، ورغم هيمنة جزء من قيادتها العليا عليها، يوجد فيها (وفي السلطة عمومًا ومؤسساتها المختلفة بما في ذلك نواتها العسكرية)، رجال وطنيون حريصون على سلامة البلاد، بصرف النظر عن توجهاتهم وحتى عن سجلات البعض منهم، غير المشرفة، على مرّ عقود من الزمن في السلطة الفعلية، مع ذلك كله، لا يمكن أن ننفي أن الكثير منهم يريدون حقًا انتشال البلد من الورطة التي يوجد فيها. لا تزال الفرصة سانحة أمام الجميع ليشارك كل منهم من موقعه، وبتظافر الجهود مع غيرهم من فئات المجتمع، من أجل تغيير سلمي حقيقي تدريجي ينقذ الجميع.

في ظل الوضع القابل للانفجار في أيّ لحظة، الذي تعيشه الجزائر، وما يختمر من تطوّرات جسيمة، إقليميًا وعالميًا، وتفاديًا لأيّ اصطدام مع أيّ جهة، أو تعفّن الوضع القائم نتيجة تفاقم القمع وغياب الحلول الجريئة، تظلّ الفرصة سانحة، بتضافر جهود الصادقين من أبناء الشعب، من كلّ الأطراف، وقد يُسْهم العمل الجاد على الجانبين، من جهة، مواصلة الشعب في نضاله السلمي مع توخّي أقصى درجة الحذر لعدم الوقوع في مستنقع العنف الذي لا يخدم البلاد أبدًا، ومن جهة أخرى، الثلة في السلطة الفعلية (جيش ومخابرات وأمن) التي تدرك في قرار نفسها أنّ مطالب الشعب مشروعة وتصبو إلى انقاذ البلاد وليس إلى الانتقام، بل وأن مساهمتهم في التغيير هي أيضًا في مصلحتهم، داخل مؤسساتهم وحتى في مصلحتهم الشخصية. إنّ تكاتف التوجّهين والضغط من الاتجاهين، كفيلٌ بتقريب الشقّة، وتحقيق هذا المبتغى بأقلّ التكاليف، وهو ما دعت إليه رشاد ولا تزال تدعو إليه، رغم التحريف والتضليل الذي تتعرّض له من جهات شتى.

الدكتور رشيد زياني شريف. المجلس الوطني لحركة رشاد