مقالات

مَن أقحم مأساة التسعينيات، ورفع فزاعة الإرهاب، في الحراك؟سؤال مؤرق، لكن، لا مناص من طرحه

وُجِهت العديد من التهم إلى الحراك، خاصة بعد إسقاط العهدة الخامسة وإجهاض الموعدين الانتخابيين المقدمين من طرف السلطة، ومن بين تلك التهم، أنه دفع الأجيال الشابة دفعًا نحو الماضي ومآسيه، وورطهم في محن لم يشهدوها ولم يكونوا طرفًا فيها، في حين كان من الأجدر تجنيبهم صراعات ومشاكل أجيال أخرى وحثهم بدل ذلك على التوّجه نحو المستقبل. يُعاب على الحراك أيضًا بأنه أحيا مسألة مصادرة استقلال الشعب في 62 من قبل جيش الحدود الذي استولى على الحكم بقوة الحديد والنار، مستخدمًا ما كدسه من ترسانة، كان مجاهدو الداخل في أمسّ احاجة إليها، ممّا مكّن “المجاهدين المرابطين” في وجدة وغارديماو، من القضاء على المئات من مجاهدي الداخل المُعْدمين.

من أشد الانتقادات الموجهة إلى الحراك، أنه أحيا مآسي التسعينات الدامية التي لا تزال آثارها حية في نفوس وأجساد الآلاف من المواطنين المكلومين، من اختطاف وتعذيب وقتل خارج نطاق القانون، وكل الجرائم التي اقترفتها فيالق “الفارين من الجيش الفرنسي”، أمثال نزار والعماريين (محمد وسماعين) وقنايزية وغزيل وبلخير وكل من دار في فلكهم.

ويعيب البعض أيضًا على الحراك “تطرفه” وحرف الهبّة الشعبية عن مسارها، عندما وصف جهاز المخابرات بالمنظمة الإرهابية، واعتبروا ذلك مساسًا بوحدة الدولة ومؤسساتها، بينما يعلم العام والخاص أن هذا الجهاز (جهاز توفيق وطرطاڤ ومهنّى والجنّ وبولحية) كان وراء اختطاف البلاد، عبر كافة تحوّلاته، من الأمن العسكري (SM)، إلى مديرية الأمن والاستعلام (DRS) وإلى غاية تسميته الجديدة اليوم. المنتقدون يتهمون الحراك بأنه أعاد إلى الأذهان هذه الملفات الأليمة، بدافع الانتقام وتصفية حسابات من جهة مع جيش الحدود (في أزمة 62) ومن جهة أخرى مع الجنرالات اليناريين (في محنة 92).

لم أكن أرغب شخصيًا أن أتطرق إلى محنة العشرية ولا ما قبلها، في هذه الظروف العصيبة والمنعطف الخطير في تاريخ الجزائر، خاصة منذ 22 فبراير 2019، لكي لا ينحرف مسار هذه الهبّة الشعبية غير المسبوقة. تفاديت تناول هذه الفترة الدامية من تاريخ الجزائر القريب جدًا، ليس لأن القضية لا تستحق التطرق إليها، بل كل الدلائل تؤكد أنها ما لم تحلّ بطرق موضوعية مستقلة ولم تتحقق العدالة فيها (لا الانتقام)، لن يستتبّ الأمن والاستقرار والطمأنينة في البلاد. لم أحبّذ التطرق إليها أيضًا ليس لأنها أصبحت من التاريخ الغابر، ونحن نشاهد كل يوم تبعاتها الأليمة وأحزانها الدامية ماثلة أمام أعيننا، من مختطفين ومعذبين ومعتقلين لا زالوا يرزحون في سجون الظلم لأكثر من 30 سنة، قضى بعضهم نحبه وراء القضبان، ولا زال ذوو من تبقّى منهم يتجرّعون مرارة المحنة، خاصة وأنّ عددًا كبيرًا منهم تجاوز العقد السابع من العمر وهم مصابون بالعديد من الأمراض، فليس إذن من حقنا أو حق أي شخص، أن يقرّر من تلقاء نفسه، إغلاق هذه الصفحات من تاريخ دامٍ مستمرّ ليس بالبعيد.

لكن مع ذلك، حصل اتفاق ضمني حكيم، يقضي بعدم الخوض في تلك المآسي، لعدم إعطاء الفرصة لكل من يريد الصيد في المياه العكرة وإجهاض الحراك، أن يستثمر في آلام الضحايا لقلب الأمور على الجميع. وحتى مع استحالة أن ننسى ما جرى كأفراد، فإنّ المضي قدمًا على طريق المستقبل يتطلّب منّا أن نتجاوز كشعب، ما جرى، وألّا نُمَكّن لنظام متهالك أن يحوّل مآسي الماضي القريب إلى فخ نعلق فيه جميعًا ويفوّت علينا فرصة الانتقال إلى وضع أفضل. ثم لا يجب أن ننسى أن السلطة هي من سعت إلى إسكات الحقيقة حول ما جرى، وجرّمت البحث عن الحقيقة والعدالة بنص قانون سمّته ميثاق السلم والمصالحة، وأتهمت من وصف هذا القانون بأنه يكرّس “اللاعقاب”، بالسعي إلى النفخ في رماد الفتنة.

هذه التهم الموّجهة للحراك، كان من الممكن أن تكون ذات وجاهة، وعقلانية، واعتبارها مبرّرة، لتجنيب البلاد إذكاء جراحها، كونها عائقًا من شأنه أن يحرمنا فرصة تجاوز المحنة، والمرور بخطى ثابتة ومسؤولة، نحن شاطئ الأمان. كان بالفعل ممكنًا، ومن الحكمة البالغة، عدم التطرّق الآن إلى تلك الحقبة المؤلمة من تاريخنا المعاصر، والتحلّي بالصبر والواقعية المتبصّرة، وتأخير البحث عن الحقيقة وتحقيق العدالة، ليأخذ كلّ ذي حق حقه، إلى حين استقرار سفينة البلاد على أرض صلبة، في إطار دولة القانون والشفافية، لفتح مثل تلك الملفات العادلة والمشروعة.

كان بالفعل ممكنًا تأخيرها، لا إلغاؤها، حتى لا تُستغلّ لإجهاض فرصة التوصّل إلى حلّ شامل عبر مراحل، يمهّد الطريق لتحقيق مصالحة حقيقية شاملة.

كان بالفعل ممكنًا تجنيب الجيل الجديد، الذي يشكّل السواد الأعظم من الحراك، هذه المرحلة الحرجة والأليمة، وقد لا يريد أصلًا أن يغرق في تلك المآسي، لكن… أجل هناك الكثير من لكن، كيف يمكن ذلك، ونحن نعيش ونشاهد، كلّ ما يدحض تلك التهم والمزاعم: 

— العصابة المُشَكِّلة للنواة الصلبة من منظومة الحكم الفعلي اليوم، في مرحلة الحراك التي نتحدث عنها، هي نفسها التي صادرت مستقبل البلاد في 62 وانقلبت على خيار الشعب في يناير 92، برجالها، وممارساتها وآلياتها، وعلى رأسها البوليس السياسي (الأمن العسكري ثم مديرية الأمن والاستعلامات)، وتُمسك إلى يومنا هذا، بعَصب السلطة، دائمًا خلف واجهة مدنية، تغيّرها كلما شاءت، لتستمرّ في الحكم المطلق، تفعل ما تشاء دون أن تحاسب على أيّ شيء؟ لو كان الحاكم اليوم، وأقصد الحكم الفعلي، مُشَكّلًا من جيل وطاقم لا يمتّ بصلة لتلك المنظومة وأجهزتها وأساليبها، وخارج قبضة البوليس السياسي، ولم يتورّط في تلك الجرائم، لكان الحديث عن عدم الخوض في المحنة، جديرًا، له ما يبرره، لكن، كيف وأن الذي أوصلنا إلى هذه الحالة، لا زال هو نفسه الماسك بزمام كل شيء، كيف يمكن الوثوق به ومن ثمّ ترك مصير البلاد في قبضته؟

— كيف يمكن بناء دولة تضمن الحريات والسيادة والحقوق، بنفس الطاقم، الذي أهلك الحرث والنسل، ولم يبد أيّ نيّة في تغيير ممارساته، ناهيك عن الندم والتوبة، بل راح يعيد أكثر رجاله إجرامًا (مهنّى، بولحية، ناصر الجن وغيرهم) إلى أعلى مناصب الحكم، وترقيتهم في الرتب، في خطوة مستفزّة، لسان حاله يقول، نحكمكم بالحديد والنار، رقابكم ومصائركم وأرزاقك بين أيدينا. كان لنا “ربّ الدزاير” واحد، فأصبح لدينا قوافل من “أرباب الدزاير”. إننا نعيش اليوم، تحت سيطرة نفس الجلاد؛ كنا نطالب بإنصاف ضحايا 88 والتسعينات والألفين، الذين لا زالوا يقبعون في السجون، فأصبحنا اليوم نطالب بالإفراج عن المئات من ضحايا “الحراك المبارك” الذين يلتحقون كلّ يوم، بأفواج السابقين لجرائم نفس الجلّاد، بتُهم “الإرهاب” السياسية، لمجرّد التعبير عن رأيهم.

— كيف يمكن بناء جزائر الحريات والشفافية والمساءلة، بينما يرى جلّاد الأمس، نفسه مبجلًا اليوم، متربعًا على الكرسي في رأس هرم السلطة، محميًا مصانًا من كلّ متابعة، يستمرّ في ممارساته، دون حساب أو عقاب؟ إن متابعة المجرمين في السلطة ومساءلتهم، لا تهدف إلى العقاب في حدّ ذاته، بل ترمي أوّلًا إلى إنصاف الضحايا وإعادة الاعتبار لهم ولذويهم، ومعرفة الحقيقة حول ما جرى، لكن أيضًا وأساسًا، لكيلا تمرّ الجريمة دون عقاب فيتوهّم المجرم أنه مُحَصّنٌ، ومن ثمّ يتشجّع على تكرار الجريمة بعد أن شعر بقوة الحصانة والإفلات من العقاب، وإعطاء المثل لغيره ليسير على نفس الدرب.

— كان بالإمكان الإقرار بعدم جدوى العودة الآن إلى هذه الحقبة، لكن، للأسف نشاهد جميعًا كيف تُطمس الحقائق ويستمرّ التضليل على نطاق أوسع، بالتحاق كافة الوسائل، بما فيها، الخاصة، إلى مهمّة التضليل، بأمر وتسيير من نفس الطواقم التي كانت السبب في المحنة، ولا ينفي هذه الحقيقة إلا متوّرط، بشكل أو آخر، في تلك الحقبة، أو منتفع منها، أو طامع في موائدها.

— أما مَن يزعم أن [AA1] لحراك “فشل”، لأنه قام على نزعة الانتقام، نذكره بمجريات عشرات الأسابيع من الحراك الأولى، قرابة المائة، عندما كانت تتعالى الأصوات مدوية، في جو احتفالي أخوي، تطالب بدولة مدنية، وبشعارات ساطعة “خاوة، خاوة”، سواءً في إشارة إلى رابط الأخوة بين جهات وفئات الوطن، أو بين التوجهات السياسية والأيديولوجية، وبين الشعب والجيش، كلها، حماية لوحدة صف الشعب ومن أجل تفادي أي شرخ أو فتنة أو تصادم، كلها شعارات سلمية حكيمة متبصرة، تسعى إلى تقوية شوكة الشعب، بعيدًا عن كل ما من شأنه أن يفتت لحمته ويدفعه إلى التطاحن، واستمرّ النهج سلميًا أخويًا طيلة أشهر، يحذّر من العنف أو الذين يدفعون باتجاهه، وأفشل الحراك جميع العمليات الاستفزازية ومحاولات تعفين الجو، بفضل تمسّكه بسلمية أبهرت العدوّ قبل الصديق، ولم تستجب يومًا لغربان الموت والدم.

— كل من يعود إلى وقائع الحراك في مسيراته وشعاراته ومطالبه، يلاحظ غياب أي نبرة أو صوت أو مطلب يوحي بالانتقام، حتى من قِبل الأسر التي اكتوت بنار تلك المرحلة القاتمة، وظلت في الصفوف الأولى منذ بداية الحراك، صابرة محتسبة، متلاحمة مع باقي فئات المجتمع، ترفع شعارات تجمع الكلمة وتسعى إلى بناء جزائر الجميع، دون إقصاء أو انتقام، بل أبدت الكثير من هذه الأسر استعدادها للصفح عن المسؤولين، بما يفنّد مزاعم الانتقام، شريطة عودة السيادة والكلمة للشعب، لكي، تتمكّن من معرفة الحقيقة بكل هدوء وعدالة، في إطار دولة القانون والعدل.

من هو الذي أقحم مآسي التسعينات ولوّح ببعبع الإرهاب ولماذا؟

— إنها مغالطة غير بريئة، أن يُتَهم الحراك بإقحام مآسي وجرائم التسعينات، وتوريط الأجيال فيها، وتحميله مسؤولية “الفشل”. لا تعد ولا تحصى الأحداث والتصريحات، التي تفند هذه المزاعم، تثبت عكسها تمامًا، وتبّين أن الذي حشر مأساة التسعينات هم دهاليز المخابرات ورجالها، وكل من شارك معها مباشرة أو ساعدها على تنفيذ مخططاتها. همْ الذين قاموا منذ انطلاقة هبّة العشب، التي أفزعتهم، بعد أن رأوا أن الشعب مصمّم على تغيير جذري، يضع حدًا لهيمتهم وإجرامهم، فشنّوا عليه حملات تخويف وترهيب، في سلسلة من التحذيرات، تارة صريحة وتارة أخرى مبطّنة، من قبيل تصريح أويحيى، عن العودة إلى سنوات الدم، أو ضرب المثال بسوريا وليبيا واليمن، التي قال عنها، أنها بدأت بالورود وانتهت بالدماء، دون أن ننسى دخول إعلام الدهاليز وعلى رأسها التلفزة الوطنية (وردّدتها كافة وسائل الأخرى من إذاعة وجرائد ومحطات فضائية، خاصة وعامة) في مسلسل “الدحدوحيات”، تربط الحراك السلمي (باعترافهم)، بالعشرية أو برجال مزعومين من العشرية، واتهامهم بالعنف والسعي إليه، بعد أن أفجعتهم سلمية الحراك وأبطلت مفعول كافة أسلحتهم المعهودة، من تضليل وافتراء وتعذيب.

— وهل نذكر بأنّ الدحدوحيات هي أصلًا إخراج قديم، مكشوف، يعود لحقبة التسعينات عندما كانت قناة اليتيمة تقدّم مسلسلها اليومي، في نشرات الثامنة (“اعترافات إرهابيين”) انتزعت منهم تحت التعذيب، تمامًا مثلما فعلت اليوم مع “أبي الدحداح” وبن حليمة وغيرهم؟

— أما شعار “مخابرات إرهابية”، فلم يُرفع إلا عندما بدأت تخرج شهادات الضحايا إلى العلن، من أقبية المخابرات، تروي ما تعرّض له الضحايا، من تعذيب واغتصاب وإكراه، مثل إفادة وليد نقيش وسعيد شتوان، والشهادات الحية من محمد بن حليمة وسامي درنوني، وبراهيم خليل وحكيم دبازي الذي قضى تحت التعذيب رهن الاعتقال، دون أن ننسى، شهادة المخبر السابق لازري منير (التي تؤكد صحة تلك الشهادات، بالتفاصيل، وليس أقلها، قتل الحراكيين تحت التعذيب في مراكز المخابرات في هران “البيت السخون”، أي حرقًا). فقط بعد أن طفى كيل التنكيل، خرج المواطنون، يعبّرون عن سخطهم وتنديدهم بتلك التصرفات التي اعتقدوا أنها من زمن غابر وأنها لن تعود، فرفعوا شعار “مخابرات إرهابية” وهم يصفون في الواقع جرائم جهاز استغْوَل واستولى على البلاد برمته وأخذ الشعب رهينة، دون تحمّل أيّ مسؤولية أو متابعة أو مقاضاة، تمامًا مثلما دأب عليه منذ 62 وخاصة بعد انقلاب 92، وشجّعه على الاستمرار في ذلك، الرعب الذي نشره في الداخل والدعم الذي حصل عليه من الخارج، بالمقايضة، ليكون وكيل هذه الدول، يحقق لها أقصى ما تبتغيه؟

بدأ الحراك ولا يزال متمسّكًا بمنهجه السلمي، لا يحيد عنه قيد أنملة، بعيدًا عن كل نزعة انتقامية مثلما تريد العصابة اتهامه للنيل منه، ولا زال مطلبه، دولة مدنية، دولة القانون والشفافية والمساءلة، على كافة المستويات. ولتحقيق ذلك، لا توجد وصفة سحرية، فلا مناص من التخلّص من الأسباب والآليات، التي أوصلت البلاد إلى ما نحن عليه، ولا يمكن إقامة دولة المؤسسات في ظل سيف وهيمنة دولة المافيا العسكرية. كلّ الأحداث والوقائع التي نعيشها، تثبت أن منظومة وعقلية المخابرات، لا تزال هي من تسيّر كل شيء، ومن العبث الاعتقاد بإمكانية الارتقاء إلى دولة القانون مع بقاء هذا السرطان متحكمًا في كافة الأجهزة. ليس هناك مستقبل للجزائر ما لم يَعُد هذا الجهاز إلى مهامّه كما هي محدّدة بنص الدستور، دون أن يقوّض ذلك من دوره أو دور مؤسسة الجيش أو يمسّ بمكانتيها، بل التزامهما بمهامها المشروعة يحميهما ويضمن سلامة البلاد بكلّ مؤسساتها.

ختامًا، الحديث عن مصادرة استقلال البلاد في 62 وتكراره في 92 واستمراره بعد 2019، لا علاقة له بالانتقام ولا بتصفية حسابات ولا إذكاء الأحقاد، بل هو تذكير بأنّ استمرار العمل بنفس المنظومة لا يمكنه أن يسفر إلا عن نتائج مماثلة مستنسخة؛ ومُتوّهم من يعتقد بإمكانية بناء مستقبل مستقرّ وهادئ دون قراءة صفحات الماضي القريب وتصحيح أخطائه، تحقيقًا لمتطلّبات دولة القانون، وضمانًا لسلم دائم عادل.

د. رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد