قبل أيام معدودات، سَتَحّلُ علينا ذكرى عزيزة على قلب كل جزائري وجزائرية، ذكرى اندلاع ثورة التحرير، التي سقى خلالها آباؤنا وأجدادنا عبر الأجيال، بدمائهم الزكية أرض الجزائر الطاهرة، لنعيش نحن، أحرارًا، وأسيادًا في بلدنا. كان ذلك الأمل ومن أجله التضحيات الجسام… الأمل يظل حيًا، لكن الثمرة مرة والخطر حادقٌ.
أصبحت هذه الذكرى، منذ بداية الحراك تؤرق العصابة الحاكمة وتصيبها بحالة من الهذيان والتوجّس، خوفًا من خروج المواطنين للاحتفال بها كما يليق بها، بعد أن احتكرتها السلطة ووظفتها لإضفاء الشرعية على نفسها وإفراغهما من حقيقتها التي من أجلها استشهد المليون ونصف مليون جزائري. هيستيريا مروّعة أصابت الساسة، إلى حد الجنون، جعلتهم يطلقون العنان للأجهزة، لتصادر من أيدي الشبان، الأعلام الوطنية، التي أصبحت قرينة اتهام بـ “الإرهاب” يوجّه إلى كلّ من يرفعه في الساحات العامة، ويكلّفه المحاكمات وأحيانًا السجن. كانت السلطة المتحكمة تخشى تظاهر المواطنين، والآن ترتعد لمجرّد تفكير أو نداء المواطنين بالتظاهر، في جزائر تبون الجديدة.
وكما كان متوقّعا هذه السنة أيضًا، لم تتأخّر آليات البروباغندا (“المستقلة” والعمومية)، تحسبًا لخروج المواطنين، احتفالًا بالذكرى وتعبيرًا عن تضامنهم مع إخوانهم المعتقلين من الحراك وإصرارًا على مطلبهم في الدولة المدنية، دولة العدل والقانون. عادت الماكينة الإعلامية، بكلّ أصنافها وتوابعها، “تُخرِج” لنا قضايا إرهاب مستنسخة، وتحدثّنا عن القبض على ثلاثة إرهابيين هنا وخمسة هناك، في مشاهد عفا عليها الزمن، لشرْعنة ما تُعدّه من ممارساتها القمعية ضدّ كلّ حركة شعبية تستعدّ للخروج لهذا الغرض. وبذلك يعود شبح الإرهاب، يطفو في الأجواء، يزرع الرعب، كلّما احتاجت إليه السلطة، ليكون سلاحها السحري، لإحكام قبضتها على الجميع.
تخويف المجتمع وعسكرته، يتزامن هذه المرة، مع حدث بالغ الدلالة، هو تخصيص 22 مليار دولار من ميزانية الشعب، لوزارة العسكر، حسب مشروع قانون المالية لسنة 2023، أي برفع ميزانية الجيش بنسبة 120 في المائة، لتمثّل قرابة ربع ميزانية الدولة. ارتفاعٌ غير مسبوق في تاريخ البلاد منذ الاستقلال عام 1962، ولا يتوقّع أحد، أن ينبس البرلمان ببنت شفة حول الموضوع، لأنه ببساطة لا يملك أيّ سلطة أو إرادة أو رغبة في المساءلة، ناهيك عن المناقشة أو الاعتراض. وحتى إن برّر أصحاب الشأن هذا الارتفاع الفاحش، بخطورة الوضع الإقليمي والدولي، فإنّ التفسير الأقرب إلى الواقع بخصوص رفع هذه الميزانية، فضلًا عن توسيع الأقساط المقتطعة لكبار الجنرالات، هو الخوف الذي يسكن جنرالات الجزائر من انفلات الأمور داخليًا إذا ازدادت الأوضاع الإقليمية والدولية ترديًا، خصوصًا وأن الشعب الجزائري مُهيأ للعودة إلى الثورة في أيّ وقت، بالنظر إلى استفحال الأوضاع، من فقر وقمع وانسداد الأفق، أكثر حتى مما كان عليه الوضع يوم خروجه في 22 فبراير 2022.
موضوع ركوب مطية الإرهاب، عند كل منعطف يواجه العصابة الحاكمة، يحيلنا إلى نقطة بالغة الأهمية، تتمثل في ذلك التقاطع المريب، بين مصالح وأهداف أطراف داخلية وأجنبية على حساب خبز ودماء الشعوب. نظرة متفحصة للشأن العالمي والداخلي يُظهر لنا أنه حيثما توفّر النفط والثروات والمواقع الاستراتيجية، أوجدت القوى العظمى، قضايا “إرهاب” أو أقليات تحتاج إلى حمايتها، وتستدعي الانتقال إلى تلك المناطق، لأداء “واجبها الإنساني”، أو محاربة “الجماعات الإرهابية” (terrorisme ad hoc). وفي الجانب للمقابل، على المستوى المحلي، كلما أرادت طغمة مستبدة، التحكّم في رقاب مواطنيها، بعيدًا عن شرعية الصناديق، أوجدت له الإرهاب، لتبرير بسط نفوذها وهيمنتها على جميع فضاءات الحياة، والتخلّي عن حرياتهم، بحجة أولوية الأمن، تحت راية مكافحة الإرهاب؛ هنا يتقاطع الطرفان، ويتبدلان المصلحة، في عملية تنسيق رابح/رابح (win/win).
عشرات الوقائع التاريخية الموثّقة، تؤكّد أنّ “الإرهاب” شكّل عبر عقود من الزمن، أغلى وأنفس “طاقة متجدّدة” تستعملها من جهة الأنظمة العسكرية لقهر شعوبها، في ما تسميه مكافحة الإرهاب، ومن جهة أخرى، توظّفها الدول الكبرى، “الديمقراطية” (معظمها استعمارية)، لاستنزاف خيرات هذه الشعوب المقهورة. ولم يكن مفاجئًا في كلّ مرّة تتحدث فيه هذه الدول عن تواجد جماعات إرهابية من منطقة من مناطق العالم، إلّا وعلمنا بعد ذلك، أن هذه المناطق “صدفة” تزخر بالنفط أو اليورانيوم أو الذهب أو أي معادن ثمينة، أو تحظى بموقع استراتيجي (قناة السويس، قناة باناما، الساحل…)، فتجلب بقدة قادر الإرهاب، وتستدعي قدوم قوى ديمقراطية لتحريرها أو حمايتها.
ومثلما هناك تطابق سحري بين خريطة الإرهاب وخريطة ثروات الشعوب، هناك أيضًا تطابق بين مصالح الأنظمة المفروضة قهرًا بالحديد والنار على شعوبها، ومصالح القوى العظمى، أمريكا في مقدمتها وفرنسا بالنسبة لنا، حيث ينهل كلا الطرفين، المحلي والدولي، من خزان الإرهاب المتجدّد، كلّ يحقّق به مبتغاه، الأنظمة اللاشرعية تكسب، ببسط هيمنتها، بدعم القوى العظمى، بشتى الطرق، أو السكوت عنها على أقل تقدير، بالمقابل، تَضمنُ هذه الأنظمة المستبدة، للقوى الداعمة، فتح برّها وبحرها وأجوائها وآبار نفطها وبطن أراضيها، أمام نهم وجشع شركات هذه الدول؛ كلٌ مستفيدٌ، سوى الشعوب التي تزداد فقرًا على قهر.
ما يكشف مزاعم الطرفين، أن هذه الدول العظمى تلاحق نوعًا معيّنًا من “الدكتاتوريين” بحجّة انتهاكهم للحريات وحقوق الأقليات وسجن المعارضين، من خلال ديباجة تقاريرها السنوية، التي لا تعدو كونها عمليات ابتزاز، وتخصّ بمحاربتها حصريًا “الدكتاتوريين” الذين يرفضون إملاءات هذه القوى ويعملون على حماية شعوبهم ومصالحها، في حين تتعامى عن آخرين، أشدّ منهم جرمًا، لكنهم حريصون على رقابهم وعروشهم. إذا كانت الأنظمة المحلية توظّف الإرهاب لكتم أنفاس الشعوب تبريرًا لسياستها القمعية، فإنّ أمريكا على سبيل المثال، وفرنسا في حالتنا، لا تستعمل سجلّ الحقوق والحريات وغيرها من الانتهاكات، فقط ضد من يتمرد على جبروتها، بل تستعمله أيضًا لابتزاز حتى الأنظمة التي تخضع لها، لتنهب المزيد وتجعلها أكثر خضوعًا، مع علمها بأنّ هذه الأنظمة لا تملك سند شعوبها لمقاومة عصا الدول الراعية لها ولا يمكنها الاستمرار دون مساندتها. أما بالنسبة للدول التي ترفض الانصياع، فملف “الانتهاكات” جاهز، مثل محاولاتها العديدة الفاشلة لتطويع كوبا (وفنزويلا)، وذهابها أبعد مع دول أخرى، إلى حد الانقلاب الصريح على قادتها، أو حتى اغتيالهم، كما جرى في العديد من الدول، نذكر منها على سبيل المثال:
─ اغتيال عمر توريخوس Omar Torrijos (رئيس باناما) في “حادث تحطم طائرة” في 31 يوليو 1981؛ كانت جريمته، أنه انتهج سياسة وطنية تضع مصالح شعبه قبل وفوق مصالح الشركات الأمريكية. تفيد العديد من الشهادات أنّ تحطم طائرته كان في الواقع عملية اغتيال مدبّرة من قِبل وكالة المخابرات المركزية (CIA)، بعد فشل ترغيبه وترهيبه.
─ لقي خايمي رولدوس أغيليرا Jaime Roldós Aguilera (رئيس الإكوادور) حتفه في حادث تحطّم طائرة (هو الآخر) في 24 مايو 1981؛ شهادات متواترة تحيل تحطم الطائرة إلى عملية اغتيال دبّرتها الولايات المتحدة (Financial Hitmen).
─ سلفادور أليندي (التشيلي): تمّت محاصرة قصره الرئاسي في 11 سبتمبر 1973، من قِبل قوات الجيش بقيادة الجنرال أوغستو بينوشيه، بدعم الولايات المتحدة، قبل أن يتعرّض القصر للقصف من قِبل القوات الجوية، ويلقى الرئيس المنتخب، سلفادور أليندي حتفه، برصاصات أطلقت من سلاح AK-47.
─ محمد مصدّق (إيران): أُطيح به عن طريق الانقلاب الذي دعمته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بعد عملية أجاكس، واتُهِم مصدق بالخيانة العظمى وتمّ تقديمه أمام محكمة عسكرية في نهاية عام 1953، وفي 22 ديسمبر 1953، حُكم على محمد مصدّق بالإعدام، قبل أن تُخفف عقوبته إلى ثلاث سنوات سجن. وتوفى في منزله، رهن الإقامة الجبرية، في 7 مارس 1967.
هناك فصيل آخر من الدكتاتوريين “الجيّدين”، الذين تحوّلوا بقدرة قادر، إلى “أوغاد” وجب الإطاحة بهم، وفق منظومة التصنيف الأمريكية، مثل مانويل نورييغا (باناما) الذي كان عميلًا (محببا) لأمريكا، عندما كان خادمها الوفي، قبل أن يتحوّل إلى “إرهابي وتاجر مخدرات”، فيتمّ اختطافه ونقله إلى أمريكا حيث ظلّ رهن الاعتقال، ليتوفى بعد سنوات في بلده؛ وصدام حسين، الذي تمتّع بتأييد ومساعدة العمّ صام في حربه ضد إيران (1980)، قبل أن يتحوّل إلى “إرهابي” يجب القضاء عليه، فتمّت مهاجمته في 1991، بعد توريطه في الكويت، وغزو بلاده في 2003 ردًا على هجمات سبتمبر 2001 بتهمة التواطؤ مع القاعدة، قبل شنقه في سنة 2006، تزامنًا مع الاحتفال بعيد الأضحى، بتهمة امتلاك سلاح الدمار الشامل الذي اتضح بأنها تهمة لا أساس لها من الصحة؛ والمجاهدين الأفغان الذين انتقلوا من صفة “محاربين من أجل الحرية” (Freedom Fighters) وحصولهم على الدعم الأمريكي بالمال السعودي الخليجي، لمحاصرة السوفيات، في 1979 إلى غاية 1989، قبل أن يتحوّلوا هم أيضًا إلى “إرهابيين”، ومن ثمّ غزو أفغانستان وإخراجها من التاريخ. هذه النماذج، تبيّن لنا مطّاطية الإرهاب ووظيفته، محليًا ودوليًا، وكيف يُستخدم ضدّ كل من يخرج عن النص، فيكلفه ثمنًا باهظًا، يصل إلى حدّ الاغتيال.
لم يتغيّر شيء، دوليًا أو محليًا، ويكفي أن نلقي نظرة عابرة كيف أنّ هذه الدول العظمى، “منارات الديمقراطية والحريات”، لا ترى حرجًا من معانقة قادة دول أيديهم ملطخة بالدماء وتبسط لهم السجاد الأحمر، مثلما تفعل مع بن سلمان “أبو منشار” أو السيسي سفاك رابعة أو قادة إمارات الثورات ضد الشعوب، أو حتى تواطؤ حكام الإيليزي، من متران إلى ماكرون في دعم رجالهم في المرادية والثغرين، منذ انقلاب يناير ومجازرهم المهولة، بل وغض طرفهم حتى على قتل مواطنين فرنسيين، ليس أقلهم رهبان تبحرين، لأن ما يجنوه مع سفاكي الدماء، فاقدي دعم شعوبهم، أثمن وأعظم، يجعلهم باسم Real politik لا يلقون بالًا للقِيم التي يزعمون تبنّيها، ويستحق “عقلنة وواقعية”، إدارة أعينهم عمّا يقترفه وكلاؤهم الأوفياء، وفي تلك الأثناء، سيف تهمة “الإرهاب” جاهز، لخدمة الطرفين.
د. رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد