يُشكِك البعض، ويستنكر البعض الآخر، ويُجَرِم طرف ثالث، دعاة الدولة المدنية، ويتهمونهم تارة بالسذاجة وتارة أخرى بالعمالة، داخلية وخارجية. لكل هؤلاء دوافعهم ونواياهم، وهذا شأنهم، لكن ما يهمنا بالدرجة الأولى هي دوافع ومبررات من يطالب بالدولة المدنية، وسبب إصرارهم على ذلك، رغم ما يكلفهم ذلك من سجن وملاحقات ونفي واضطهاد بشتى أصنافه. الدافع الأساسي إلى الدولة المدنية، يجد مبرره بالنسبة للذين يؤمنون بها، في الواقع المزري الذي تعيشه الشعوب في ظل حكم العسكر. فنظرة عابرة من حولنا، جغرافيًا أو عبر الحقب الزمنية، تؤكد هذه الحقيقة التي جعلتْ شعوبًا بأكملها تعيش حالة بؤس بسبب هيمنة حفنة من كبار الضباط الذين تحكّموا في مفاصل الدولة والمجتمع رغم أنف الشعب، بعيدًا عن كل مساءلة أو محاسبة، وعالمنا العربي والأفريقي، كفيلٌ بتقديم عشرات الأمثلة، عبر عقود من الزمن. في كل هذه الدول “المُعَسْكرة”، أصبحت السياسة ومراكزها إما أوكارًا تابعة للحكم العسكري الفعلي، وظيفتها الحصرية أن تُستَخدم للتغطية على ممارسات الحكم العسكري، وإن خرجت السياسة عن سيطرة الحكم الفعلي، أصبحت “جريمة” يلاحَق بسببها كل من يمارسها، أو يدعو إليها. هذا النمط من الحكم الشمولي أحدث حالة من التصحّر السياسي، وقضى على إمكانية بلورة وتطوير نخب سياسية فعلية. ومِن تبعات هذا الوضع الخطير وجدت الجماهير نفسها معزولة، عندما وقعت انتفاضات شعبية في تلك الدول، تفتقر إلى أطر وقيادات سياسية رشيدة تنظم صفوفها وتترجم مطالبها إلى بديل سياسي حضاري ينقلها بشكل سلمي وسلس إلى وضع أفضل من أجل تغيير الأوضاع المزرية، مثلما جرى في ليبيا أو سوريا. أما بالنسبة للجزائر، ومع استفحال الأوضاع وحالة التعفن، وتدجين جل النخب السياسية من شخصيات وأحزاب وتجمعات، وملاحقة كل من “يغرد” خارج سرب سلطة الأمر الواقع، فإننا نتّجه نحو تصَحّر سياسي نقابي جَمْعوي، مُمَاثل لما شهدته ليبيا وسوريا، بما قد يعرّض البلاد، لا قدر الله، لمخاطر جمّة، في حالة خروج الأوضاع عن السيطرة وغياب من يؤطر أيّ حركة شعبية، ونتذكر بهذا الصدد تحذير المرحوم عبد الحميد مهري، عندما حث السلطة على التواصل الفعلي مع العقلاء، قبل أن يبحثوا عنهم، فلن يعثروا عليهم. وقد حوّل هذا التصحّر السياسي البلاد إلى سجن ومقبرة للسياسيين، ودفع الكثير منهم إمّا إلى دخول الصف، خوفًا من سيف انتقام وبطش السلطة، أو طريق المنفى “النفسي” أو الفعلي. إنّ قتل السياسة ورجالها لم ولن يحل إشكالية السلطة القائمة، حتى وإن منحها فسحة تلتقط فيها أنفاسها، بل يُعبّد الطريق لدمار ومأساة وشيكة.
موضوع الدولة المدنية أثار لغطًا واسعًا ونقاشات حادّة وأحيانًا اتهامات ثقيلة، صادرة في معظم الأحيان عن أطراف مغرضة ذات مصلحة، تعلم حقيقة الدولة المدنية ويفزعها الحديث عن إقامة مثل هذه الدولة، إدراكًا من هذه الأطراف، أشخاصًا كانوا أو أحزابًا في السلطة أو خارجها أو حتى شخصيات سياسية أو ثقافية أو إعلامية، معنى الدولة المدنية عمليًا، باعتبار أنّ تحقيق هذا المطلب سيضع حدًا لمنظومة الاستخبارات والبوليس السياسي، وينهي مصالح كلّ من يدين لهذه المنظومة بالوجود ويستفيد من امتيازاتها غير المشروعة. لكن إلى جانب هذا الطرف الأساسي، المتمثل في السلطة ومن يحيط بها، هناك أيضا جهات متنوّعة، اختلط عليها الأمر عن حسن ظن، والتبس عليها هذا المفهوم من شدة ما تعرّضت له من تضليل، فاعتبروه تارة مفهومًا غربيًا دخيلًا، أو أنه يحمل مبادئ علمانية تتنافى مع دين وقيم وحضارة الشعب الجزائري، أو أنه يهدّد أركان البلاد ويضع فئات الشعب ضد بعضها البعض.
رفعًا لهذا اللبس، من الضروري توضيح المقصود معرفيًا بالدولة المدنية، ومن ثَم كشف السبب الحقيقي من الحرب التي تشنّها العصابة ضد كل من يطالب بالدولة المدنية، بل واستصدارها قوانين، تتابع بموجبها، أصحاب هذا المطلب، بتهمة الإرهاب، مثلما يتّضح من لوائح الاتهام الموجّهة إلى الغالبية العظمى من الحراكيين المعتقلين أو الذين سُلّط عليهم سيف الرقابة القضائية.
نسأل من جديد المتوجّسين، هل الدولة المدنية كفر بالفعل؟ وهل هي غريبة عن منظومتنا الثقافية الحضارية؟ وهل هي غربية بالأساس؟ وهل الدولة المدنية دولة “أيديولوجية” محددة التوجّه الفكري؟ المواصفات العملية الموضوعية تبيّن لنا أن الدولة المدنية محددة بمبادئ وأركان ودعائم لا لون لها ولا جنسية ولا حدود تحدّها، ولا يندرج أيّ بند منها لا في خانة تُهم الإرهاب والعنف، ولا يمكن رميها بالاغتراب الحضاري أو الارتهان للخارج، مثلما يستطيع كل ملاحظ نزيه أن يتأكد منه، في مجموعة النقاط التي لخّصها الدكتور يوسف بجاوي، نذكر منها:
— الدولة المدنية تعني أنّ السياسي المدني المنتخب هو من يتحكّم في الجيش وليس العكس؛
— الدولة المدنية تعني أنّ الرئيس المدني المنتخب هو القائد الأعلى للقوات المسلحة؛
— الدولة المدنية تعني أنّ الحكومة المدنية المنتخبة هي التي تقرّر ميزانية وزارة الدفاع وليس الجنرالات؛
— الدولة المدنية تعني أن البرلمان له الحق في مساءلة وزير الدفاع عن كيفية صرف الميزانية، وعن العقود المبرمة بين وزارة الدفاع وشركاء اقتصاديين أو أمنيين أو عسكريين، وعن السياسات العسكرية والأمنية والتكوينية، الخ؛
— الدولة المدنية تعني أن قرار السلم والحرب هو قرار الرئيس المنتخب بعد مشاورة البرلمان والمجلس الأعلى للأمن الذي يسود فيه مدنيين منتخبين وأخصائيين في المسائل الأمنية والاستراتيجية؛
— الدولة المدنية تعني تفكيك كل الاجهزة الاستخباراتية والأمنية (DRS, DSS, RG) التي تراقب المدنيين من ناشطين وأحزاب وصحافة ونقابات وقضاة ورجال دين ومقاولين الخ، والتي توظّف البعض منهم لهندسة مشهد سياسي اصطناعي يخدم أغراض القيادة العسكرية الظرفية؛
— الدولة المدنية تعني أن البرلمان المنتخب له صلاحية مساءلة كل قادة الاجهزة الامنية والاستخباراتية عن صرف ميزانيتهم وعن أنشطتهم وعن انتهاكات حقوق المواطنين؛
— الدولة المدنية تعني أن القضاء مستقلّ وله السلطة لمتابعة وسجن أيّ ضابط وأيّ قائد من قادة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في كل ما يخصّ انتهاكات حقوق الإنسان والفساد وسوء التسيير، الخ؛
— الدولة المدنية تعني أن عقيدة الأمن القومي التي تُدرّس في الأكاديميات العسكرية والأمنية والاستخباراتية لا تعتبر الشعب كخطر على الأمن القومي كما هو الحال الآن، هذه عقيدة الجيوش الاستعمارية، عقيدة مبنية على التحكم الداخلي. في الدولة المدنية الخطر والتهديد هو خارجي والجيش مهمته التركيز على التهديد الخارجي؛
— الدولة المدنية تعني أن قادة الاجهزة الأمنية والاستخباراتية هم مدنيون تعيّنهم الحكومة المنتخبة. أما جهاز أمن الجيش (DCSA حاليًا) فقائده عسكري؛
— الدولة المدنية تعني أن النشاط السياسي مكفول لكل مواطن، وتشكيل الأحزاب يتم بمجرد الإخطار وليس بموافقة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وأيّ خلل محتمل من طرف هذه الأحزاب، يُعالج بالقانون، وليس بالحلّ الإداري البوليسي.
وبدورنا نسأل، هل مثل هذه البنود، التي يطالب بها الحراك، وبسببها يُعتقل المئات، لها أدنى علاقة بالإرهاب والعنف، أو بتوجّه أيديولوجي بعينه؟ وهل هي منافية لمنظومة حكم راشد عادل؟ وهل هي حقًا مستمدّة من محيط حضاري أجنبي يتنافى مع مقومات الجزائر وشعبها المقاوم التوّاق إلى الحرية والعدل؟ أسئلة حريٌ بكل من يساوره الشك أن يطرحها على نفسه أوّلًا.
الدكتور رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد