مقالات

جمال بن سماعيل، بن حليمة محمد وحسين سليمان، ثلاثة نماذج في منظومة تسيير الحكم

من مهام الدول تسيير شؤون البلدان بما يخدم مصالح شعوبها، وتنفيذًا للعقد المبرم بين الحكام والشعوب صاحبة التفويض، بما يُكسب هذه القيادات شرعيتها. تستند هذه الشرعية على أسُس قانونية وقواعد أخلاقية أو معنوية. يَعتبِر بعض فقهاء السياسة أنّ للشرعية ثلاثة جذور: الأوّل مستمدّ من القانون (الذي تسنّه الدولة عملًا بالدستور)، والثاني مصدره المؤسسات السياسية (نظام فصل السلطات) والثالث، شرعية المواطنين، أي خيارهم مَن يحكمهم. إذا كان الشق القانوني من هذه الشرعية هو ما يتوافق مع ما تسنّه الدولة من مواد ينص عليها الدستور، فإنّ الشرعية بمفهومها الأوسع، تتجاوز هذا الشق، وتقوم على قِيم إنسانية أكثر عمقًا وشمولية، لا تنحصر في مجموعة بعينها، بل تشترك فيها البشرية عمومًا، كالعدل والتضامن والحرية، بما يجعل أحيانًا بعض التدابير التي تتّخذها بعض الدول، “قانونية” لكنها غير شرعية، كونها تفتقر لمثل هذه العناصر، ومثال على ذلك عندنا، المادة 87 مكرر من قانون العقوبات المُعَدّل، الذي يجعل من كلّ تعبير سياسي، أو موقف أو نشاط، “خارج” النطاق الذي حدّدته القوانين التي سنّتها الدولة ولو كان سلميًا، يُعتبر غير قانوني ويصنّف ضمن الأنشطة الإرهابية، كما تبيّنه عشرات الإدانات الصادرة ضدّ مجموعات كبيرة من نشطاء الحراك. مِثل هذه المواد “القانونية”، تلجأ إليها عادة الأنظمة المستبدّة، التي تفتقر إلى شرعية الشعوب، فتصطنع شرعية بديلة، توظّفها لخنق كل صوت يعارضها أو يسعى إلى تغييرها، خارج الإطار الحصري الذي حدّدته، وأغلقت به كافة السبل الأخرى في التعبير.

يُفترَض أنّ قادة الدول موظفون لخدمة الشعوب التي عيّنتهم، بأصواتها، وتزيحهم بنفس الطريقة، متى عجز هؤلاء القادة، أو أخفقوا أو أخلفوا وعدهم، يجري مثل هذا السلوك في الدول التي تحترم الشرعية كما هي مُعَرّفة ومعمول بها في الدول التي تحترم مواطنيها ومسخرة لخدمتهم؛ لكن، ماذا عندما تأتي السلطة، على غير هذا الطريق، وتفرض نفسها بحكم أمر الواقع؟ ليس أمامها في هذه الحالات، خيار سوى البحث عن شرعية بديلة، تلتفّ بها عن شرعية خيار الشعب. من جملة السبل البديلة:

– شراء دعم خارجي يسندها، يتغاضى عن افتقارها لشرعية شعبها، لِقاء مصالح مجزية، تقدّمها هذه الأنظمة على حساب مصالح الشعب من خزائن الدولة؛

– فبركة وتصدير صورة براقة عن نفسها إلى العالم، بتنظيم منتديات ومهرجانات وورشات دولية، لإعطاء الانطباع بأنها ذات وزن على الصعيد الدولي، على غرار تنظيم قمة الجامعة العربية بالنسبة للنظام في الجزائر، وقمة المناخ في شرم الشيخ (مصر السيسي)، وقمة الفرنكوفونية في جربة (تونس قيس سعيد)، إضافة إلى منح هبات مالية لدول أجنبية، والتظاهر في صورة القوى المانحة للمساعدات لغيرها (عشرات ملايين الدولارات لدول أفريقية، هدية تبون بمحطة توليد كهرباء لـ…كوبا)؛

– اصطناع عدوّ خارجي تصدّ به الأنظار عن المشاكل الجوهرية، وتبرّر به استنزاف خزينة الدولة للغدق على ميزانية الجيش، بغلاف مالي يصل إلى ربع ميزانية الدولة؛

– وعدوّ داخلي، “محاربة الإرهاب”، لم تتوّقف عن توظيفه طيلة عقود من الزمن، تؤجّجه كلما احتاجت إليه من أجل لجم كلّ صوت معارض، وتخفضه إلى أدنى مستوى، عندما تريد الظهور بتحقيقها قدرًا من السلم والأمن، لتمرير مهرجانات انتخابية، تجدّد بها واجهتها السياسية المدنية؛  

– يُضاف إلى ذلك، شراء ذمم بعض الصحف الأجنبية في مقالات إشهار مدفوعة الأجر، تغطي مساحاتها خمس صفحات أحيانًا، على غرار المقالات الإشهارية التي دفعت السلطة الجزائرية مقابلها عشرات الآلاف من اليوروات إلى صحيفة لوموند الفرنسية، مقابل رسم صورة براقة عن جزائر بوتفليقة أو الواشنطن تايمز، في زمن تبون، وشراء مئات الصفحات الإلكترونية والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعية داخل الوطن وتحويلها إلى ذباب يعزّز آليتها الإعلامية الثقيلة، الخاصة والعمومية، وفي الوقت نفسه، غلق المواقع المستعصية وسجن كل من يرفض الدخول في الصف.

إذا نظرنا إلى ما يحدث في جزائر اليوم، ولا سيما منذ حراك 22 فبراير 2019، نسجّل أنّ الثابت في سياسة النظام هو مطاردة وسجن المواطنين، بالعشرات، لفترات تصل أحيانا 20 سنة، فقط لأنهم يعبّرون في منشورات عن رأيهم. وهل ثمّة غرابة، من طرف نظام تقوم شرعيته على خنق صوت المواطنين، وتعيين أجرمهم في أعلى المناصب، على غرار ترقية مجرم من طينة “الجن” المعروف بقتل عشرات الأبرياء بيديه، جنرالًا؛ وتعيين ثاقب جماجم مواطنين بالمثقاب، رئيسًا لمديرية مكافحة لإرهاب؛ وقاتل مواطنين، خارج القانون، صاحب العبارة الشنيعة “هَبّطو… للواد”، مديرًا لمركز الدراسات الاستراتيجية!؟

نقدّم هنا ثلاثة نماذج، لتسليط الضوء على بعض أدوات صناعة هذه الشرعية البديلة:

أوّل النماذج، تُلَخِصها واقعة جمال بن سماعيل (رحمه الله): نموذج إشعال نار الفتنة بين فئات المجتمع لخلط الأوراق ونقل الصراع من بعده العمودي، بين شعب يبحث عن التحرر من ربقة المستعمر المحلي، وسلطة غاشمة تتحكم فيه دون إرادته، إلى صراع أفقي بين مكوّنات المجتمع، من خلال تأجيج النعرات العرقية أو الأيديولوجية أو اللغوية، حتى لو اقتضى الأمر إشعال نيران حرب أهلية لا تبقي ولا تذر مثلما فعلت منظومة جبّار مهنة، من خلال إشعال نيران منطقة القبائل، ودفع فئات غاضبة من سكان المنطقة، جرّاء ما حصل لأهلهم، بإيعاز وتنظيم أيدي مخابراتية، وتوجيههم نحو “فاعل” (مواطن مسالم، جاء متضامنًا ومساعدًا لأهل المنطقة)، حدّدته آلية المخابرات، وحرّضت عليه، فكان جزاؤه، الحرق حيًا، رغم أنه كان في حماية الأمن، فتحوّل إلى قطعة لهيب، كادت أن تشعل الوطن كله نارًا حارقة. هذا النمط ليس بالجديد، بل معمولٌ به للتحكم في الشعوب وصدّ أنظارها عن العدوّ الحقيقي، بفبركة حروب وأعداء عرقيين أو جهويين أو أيديولوجيين، بالنظر إلى حساسية وخطورة مثل هذه الحروب وسرعة انتشار لهيبها الفتّاك.

النموذج الثاني، بن حليمة محمد عزوز: الهدف منه، زرع الرعب وسط المبلّغين عن الفساد، وجعل من أمثال بن حليمة، مثلًا رادعًا، وسط أفراد الجيش وأجهزة الأمن وكافة مؤسسات الدولة داخل الوطن، ورسالة إلى كل من تحدّثه نفسه، الكشف عمّا يجري من فساد وإجرام داخل هذه المؤسسات، فيفكر مليًا قبل أن يغامر بمصيره، ومن جهة ثانية، تمرير رسالة مُوسّعة، مفادها أنّ يد “القوة الضاربة” طويلة، يمكنها أن تطال حتى من هو خارج الوطن، وإن وُجِد في دول غربية ويعتقد أنه محصّن من التسليم، مثلما فعلت إسبانيا مع محمد عبدالله وبراهيم لعلامي وبن حليمة محمد عزوز، وتركيا مع بونويرة، أي أنّ الجميع تحت سيف وقبضة السلطة، وبذلك، تقضي على كل من بنيّته تقديم شهادات واعترافات حول ما يجري داخل هذه الأجهزة، ومن ثمّ تفعل بالعباد كيف تشاء.

النموذج الثالث: حسين سليمان، ذلك المواطن الشهم المتضامن مع بائع البيض المغلي، ضحية والي “ارفد قشك”. الرسالة التي مرّرتها السلطة في هذه الحالة، أنّ التضامن مع الذين يتعرّضون لظلم وازدراء المسؤولين، ثمنه السجن والتبرؤ منهم حتى من قِبَل من كان ضحية تعسّف المسؤول ومحلّ تضامن المواطن. يُراد بذلك قتل روح التعاطف والتضامن وتشتيت أوصال المجتمع وتفكيكهم، لكي يفكّر كل فرد في نفسه فقط، ولا يهتمّ بغيره، أي تطبيق من جديد سياسة المستعمر، فرّق تسد. المراد هنا هو ترهيب كلّ من يسلك هذا الطريق، ويسعى إلى كسر حاجز التنافر، وتشجيع رابطة التضامن. ولإضفاء الطابع القانوني على هذا التعسّف في حق مواطن متضامن مع مواطن ضحية تعسف، كُيِفَت تهمته، وفق مواد القانون الصادر أصلًا لترهيب الشعب، فكانت التهمة الموجّهة إلى حسين سليمان، إهانة موظف (الوالي)، وإهانة هيئة نظامية والتشهير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحُكِم عليه بسرعة البرق بسنتين سجنًا، وكأنّ كشف عجرفة الوالي وازدرائه لمواطنين، هو إهانة مسؤول أو هيئة نظامية! من الواضح أنّ هذا التكييف القانوني، الهدف منه، منع أيّ احتجاج أو اعتراض على تصرّفات مسؤولين مجرمين، كفضح جرائم جنرالات، فيكيّفون ذلك مساسًا بوحدة الجيش الشعبي والأمن القومي ونشر أسرار الدولة.

سبب هذا التشنج من السلطة، ما يشعرون به من ذعر من أيّ موجة تعاطف وتضامن بين المواطنين، لذا تسارع هذه العصابة إلى إجهاض كل مساعي رص صفوفهم وتلاحمهم، مع بذل كل ما تستطيع لزرع مشاعر الندم في نفوس كلّ من يبني جدار التضامن، ليستمرّ الريب والشكوك وسط الجميع، وكما كان متنظرًا، ومُتوقّعًا من أعمال دهاليز العصابة، لم تمر سوى أيام قلائل، حتى خرج ضحية الوالي، بائع البيض، يُمجّد الوالي، وينأى بنفسه عمّن تضامن معه ودخل السجن من أجله، في رسالة يُراد نشرها، أنّ أيّ تضامن مع أيّ ضحية، سيندم عليه صاحبه، فيقتنع الجميع بعبثية التضامن مع أيّ مظلوم مع نشر الاعتقاد بأنّ الشعب لا يستحقّ أن يُضحّي من أجله أحدٌ. طبعًا، لم يغب عن إدراك أحد، أنّ الضحية، المغلوب على أمره، قد تمّ ترهيبه ووعده بمزايا، والهدف المراد تحقيقه، هو وقف هبّة التضامن، والقضاء على المروءة، وجعل المتضامن يدفع ثمن تضامنه، بل ويتلقى طعنة في ظهره من يد الذي تضامن معه ودخل السجن بسببه. ومن غير المستبعد أيضًا، أن يخرج كل من حظي بتضامن من مواطنين، ليصرّحوا بدورهم بأنهم لا يحتاجون من يتضامن معهم، لكسر هذه الفطرة النبيلة وقتل روح التعاطف مع غيرهم، تلبية لمشاعر رفض الظلم والوقوف مع المظلوم، بما يفسّر انطلاقة كلّ هبات التغيير التي ترفض الاستبداد.

هذه الممارسات من السلطة تؤكّد مدى هلعها المستمر من عودة انتفاضة الشعب والحراك تحديدًا، رغم زعمها دفنه إلى الأبد، وما الاعتقالات والمتابعات بالعشرات، إلا دليل على خشيتها من اجتماع المواطنين حول أرضية مشتركة، لتأسيس دولة القانون. وقد تعاظمت هذه الخشية، بعد أن أيقنت بأنّ الموطنين، تفطّنوا لمكائدها وأدركوا أنّ ما يجمعهم أكثر بكثير ممّا يفرّقهم، وأنّ اختلافاتهم ثراءٌ وليست عائقًا، وأنّ الهوّة بينهم مفتعلة، تمّ استغلالها والنفخ فيها من قِبَل العصابات المتتالية، لكي يستمرّوا في الحروب بالوكالة، لاستمرار حكم العصابات. وقد لامسنا ذلك في فرصتين على الأقل، في 1995 في العقد الوطني المنعقد في روما، عندما اجتمعت مختلف الأحزاب الممثلة فعلًا للشعب الجزائري وخرجت بأرضية شاملة كان من شأنها أن تنقذ البلاد وتوفّر عنه دمارًا هائلا وخسارة بشرية بلغت ربع مليون قتيل، لولا رفضها من قبل العصابة الانقلابية، واتّهام أصحابها، مثل المرحومين، حسين آيت أحمد وعبد الحميد مهري وعبد النور علي يحيى وأحمد بن بلا، بالخيانة العظمى، والفرصة الثانية كانت الحراك الذي أذهل العلم وأفزع السلطة، فعملت كلّ ما بوسعها ولا تزال، لكي لا يعود.

هذه النماذج الثلاثة في تسيير شؤون الدولة، تلخّص طريقة وأدوات استراتيجية النظام الحاكم للتعويض عن الشرعية الحقيقية التي حرمها منها الشعب الجزائري ووضعها في موضع… اللص المتسلّل.

د. رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد