مقالات

“حتى لا يتمّ استغلال الشباب سياسيًا”!

قد تسألون من هو صاحب هذا التوجيه السامي؟ إنه من رئيس “الجزائر الجديدة”. وبأيّ مناسبة أدلى به؟ عند تخصيص منحة بطالة الشباب. يرى “الرئيس”، ضرورة تجنيب الشباب (معظمهم من الجامعيين)، السياسة، ويعتبر ممارسة الطالب للسياسة استغلالًا من أطراف تريد الشر للبلاد، ومن ثمّ وجب تحريمها عليهم، لتبقى السياسة والحكم، محفوظين في أياد آمنة، لا تخرج عن قبضتها، بأي حال من الأحوال. هل هذه النظرة خاصة بتبون والسلطة الحالية؟ كلا، إنها ممارسة واعتقاد، ساري العمل بهما منذ استرجاع البلاد استقلاله، فأصبحت ثابت من ثوابت الحكم، تفوق قدسية ثوابت الأمة.

لا بد من الاعتراف بأنّ منظومة الحكم، حتى وإن فشلت في معظم الميادين وأفسدتْ جلها، إلا إنها نجحت نجاحا لا ينكره إلا جاحد، في “مهمة” إقصاء الشعب من تسيير شؤون بلاده، وما يزيد من براعة نجاحها، أنها جعلت البعض يتخلى طواعية، عن حقه في المشاركة، لترك دواليب الحكم، للثلة المؤيدة بتفويض سامي، لا يجب منازعتهم فيه، لأنه في حالة تخلي هذه الثلة عن الحكم “لا قدر الله”، ستنهار الدولة برمتها. هذه القناعة موجودة فعلا وليست مبالغة أو من نسيج الخيال، هناك من يؤمن إيمانًا راسخًا بها ويدافع عنها بحماسة.

سمعنا العديد من المواطنين، حتى رؤساء أحزاب وجمعيات ومثقفين، يَسْخَرون ممن يطالب بالانفتاح السياسي، وبالتعددية وتكوين الأحزاب والجمعيات، دون شروط أو موافقة أمنية مسبقة، فيردون ردًا مفحمًا أن مثل هذا الطلب انتحار، وحجتهم أن مثل هذا لانفتاح، مؤذن بالفوضى والخراب، لأنّ الأحزاب مجرّد كيانات لا حقيقة لها في الواقع، وفاسدة أكثر من النظام الذي تعترض عليه وأكثر دكتاتورية من السلطة نفسها، وأن قادتها لا يغادرون مناصبهم إلا بالموت أو الانقلاب عليهم، ومن ثمّ، من حسن حظ الجزائر أن الله حباها بحكم “الجيش”، الذي ضبط أمنها، بل يذهب هؤلاء إلى التوصية بتسليم إدارة كافة مؤسسات الدولة، السياسية والتجارية والثقافية وحتى الرياضية إلى قادة أمنيين عسكريين صارمين، يضمنون نجاحها مثلما ضمنوا نجاح مؤسسة الجيش، “المؤسسة الوحيدة المتماسكة وصاحبة الإنجازات الباهرة” على غرار تعيين ممثلين من وزارة الدفاع في إدارة جامعات ثلاثة، وفق آخر الأخبار.

السؤال الذي يفرض نفسه، كيف نشأت مثل هذه الذهنية التي تبدو غريبة ومنافية لفطرة الإنسان الحر، وكيف ترسخ هذا الاعتقاد في عقول البعض؟ تشكلت هذه العملية “التكوينية” بمنهجية وثبات، وبدأ العمل على ترسيخها منذ أن استولت قيادات جيش الحدود على السلطة، وأحكمت قبضتها بالمطلق، بحيث لم تكتف باحتكار السلطة وجعلها حقًا مقدّسًا لا ينبغي لأحد غيرها، بل جعلت من ممارسة السياسة، ناديًا مغلقًا خاصًا بهم، وفي الوقت نفسه، خطًا أحمرا بالنسبة لسائر المواطنين، فسنت لهذا الغرض القوانين، وجعلت من ممارسة السياسة جريمة يُعاقَب عليها، تارة بحجة “المساس بمؤسسات الدولة” أو “زعزعة استقرار البلاد”، أو بتهمة الإرهاب. شهدنا في مناسبات عدة، كيف أن المواطن الذي يُراد توريطه، تُلفّق له تهمة “ممارسة السياسة”، فيضطر إلى أن “يُقسم قسمًا غليظًا” أنه برئ من هذه الجريمة الشنيعة، إلى أن جاءت انتفاضة أكتوبر 88 فحرّرت المواطنين، وأعادت لهم بعض الحقوق، منها حقهم المشروع في المشاركة في التغيير، عبر خيار حر بين مرشحين متعددين، ينتمون لأحزاب شتى وتوجهات مختلفة، على عكس ما عهدوه طيلة ربع قرن في ظل نظام الحزب الواحد، والسياسة الواحدة، والإيديولوجية الواحدة، تحت هيمنة النظام الواحد، لكن لم تستمر هذه “الفسحة” أكثر من 3 سنوات، حتى تمّ إغلاقها في حمامات من الدماء، لتعود الأمور إلى عهدها القديم، بتحريم وتجريم السياسة خارج “تحكم” أصحاب التفويض السماوي، أي العودة إلى نسخة مستحدثة من نظام الحزب الواحد، بواجهات متعددة، تأخذ جميعها أوامرها من ذات المصدر، واستمر الوضع على هذا النحو، إلى أن تعفنت الأوضاع وكادت الدولة تنفجر، لولا حراك 22 فبراير 2019 الذي أعاد الأمل، وشعر المواطن بولادة جديدة، وطموحات أعادت له الحياة، قبل أن تنقض عليه نفس المنظومة وتنسف ذلك الأمل مجددًا، وتحظر التعبير الحر والسياسة وحركية التغيير، باستعمال ترسانة قانونية، على غرار المادة 87 مكرّر، التي جعلت السياسة المستقلة عن دواليب السلطة، جريمة. هذا التصوّر والاعتقاد يفرض علينا بعض الأسئلة:

  • هل هيمنة منظومة الحكم راجع لعبثية التعويل على المواطنين أصلًا، لخوض معترك السياسة؟
  • هل يستحيل ممارسة السياسة خارج بوتقة أصحاب القرار؟
  • وهل الشعب الجزائري غير مؤهّل ليأخذ زمام أمر تسيير بلده بنفسه، ولهذا السبب وضع مصيره بقناعة ورضى بين أيدي الجيش الآمنة؟
  • أم أن استمرار الوضع على حاله، يعود لغياب معارضة ذات كفاءة ومصداقية؟

الرد على هذه الأسئلة، يفترض ابتداءً أن يكون هناك نظام شرعي، بسياسات واضحة، ومواطنين أحرار، يقيّمونها، فيؤيدونها أو يرفضونها، بحسب إنجازاتها أو إخفاقاتها، أي وجود دولة القانون، ونظرًا للواقع الذي يعرفه الجميع، فإنّ طرح هذه الأسئلة غير مجدٍ، لأنّ العمل السياسي منعدم بعد أن تمت محاربته بكل الاشكال، ليستقر الحكم المطلق بين أيدي جماعة، بعد أن أقصت كل من لم يرضخ رضوخًا تامًا لإرادتها، فكان جزاء “العصاة” إما التصفية الجسدية، داخل الوطن (شعباني، مدغري، بوضياف، حشاني…) وخارجه (عبان رمضان، خيضر، كريم بلقاسم، مسيلي، الشيخ صحراوي…)، أو الوضع تحت الإقامة الجبرية، بن يوسف بن خدة، الشيخ الإبراهيمي، ومنهم من اختار طريق المنفى، بعد الاعتقال ثم الهروب، للإفلات من التصفية الجسدية (آيت أحمد، بوضياف)، إلى أن جاءت انتفاضة أكتوبر 88 التي مكّنت من انفتاح دام إلى غاية ديسمبر 91، عاش فيها المواطن، جوًا فريدًا من الحرية لم يعهدها طيلة حياته. لمّا أيقنت السلطة أن مصيرها على كف عفريت هذه المرة، وأن التغيير الذي يلوح في الأفق، لن يكون شكليًا، عادت إلى ممارستها المعهودة بعد انقلابها الدموي، باصطناع واجهة سياسية تعددية، عبارة عن “معارضة” مُشَكلة من توابع وظيفية تدور في فلكها، وأكثر حرصًا على استدامة هذه السلطة صاحبة نعمتها. نجحت السلطة مجددًا في القضاء على “الممارسة السياسية” الحقيقية، في إظهارها في صورة العاجزة والفاسدة (وهي التي أنشأتها ورعتها)، وبالمقابل، همّشت أخرى قهرًا وتعسفًا، أو بتلطيخ سمعة البعض الآخر بتهمة التطرف والإرهاب، أما السياسيون المتواجدون في الخارج، فقامت من جهة بغرس في صفوفهم عناصر مشبوهة بغية إشغالهم في خلافات هامشية وإدخالهم في حروب منهكة، ونشر صورة مشوهة عنهم، تصفهم بالمغامرين، وأن نشاطهم مجرد رد فعل وانتقام وطمع في مزايا شخصية ضيقة، وأن الحراك، لم يَعدْ يمت بصلة للنضال السياسي السلمي، كخيار استراتيجي، وأنه أصبح “تحريضًا على العنف، يناقض طبيعة السلمية التي يدعو إليها”، ويضربون مثال على ذلك، ما يسمونه توريط الشعب في “معاداة دولتهم”، من خلال دفعه إلى رفع شعارات عدائية مسيئة للبلد، على غرار “مخابرات إرهابية”، ومن جهة أخرى بتحريض سلطات هذه الدول للتضييق عليهم ومنعهم من مواصلة النضال المستقل.

كل هذه الحملة المُهَندسَة بعناية، الغاية منها إبعاد المواطن عن ممارسة حقه وجعله ينأى بنفسه عن النضال من أجل التغيير خارج منظومة الحكم، وإقناعه بضرورة ترك مجال تسيير شؤون البلاد، للموّكلين بتفويض سماوي، وكلها مغالطات فاضحة: في الجزائر، ببساطة لا يوجد عمل سياسي، بمعناه الحقيقي، لا بالأمس ولا اليوم (باستثناء الفسحة الديمقراطية من أكتوبر 88 إلى يناير 92)، ولا معارضة فعلية معترفٌ بها يمكنها النشاط داخل الوطن، بعد أن “أنجز” أصحاب القرار تَصَحُر سياسي مطلق، بغلق كافة أبواب النشاط والتعبير عن الرأي المخالف، وصناعة بدل ذلك، هياكل سياسية واجتماعية وثقافية وجمعَوِية، تحت أعينها. ومن ثم فكل من يتحدث، عن فشل البدائل عن السلطة، يجانب الصواب في أحسن الحالات، ومخادع في أكثرها، لأن ما يجري في البلاد، أولًا، لا علاقة له بأوضاع سياسية عادية، يمكن تقييمها بمعايير سياسية، وثانيًا، هناك فرق شاسع بين المعارضة السياسية التي تكون في مناخ سياسي عادي، في ظل نظام شرعي، تختلف فيه الآراء والطروحات والتوجهات وتُسوّى هذه الخلافات بالنضال السلمي داخل أطر وآليات الدولة ونُظُمها، وبين المقاومة السياسية الاضطرارية، عندما تغلق كافة أبواب الحوار والنقاش والتشاور الفعلي، وتغيب هذه الآليات والنُظُم، وتغيب السلط الشرعية وتستولي بدلها، عصابات مدنية أو عسكرية أو مالية على دواليب لحكم. حاليًا في الجزائر، من العبث الحديث عن معارضة سياسة وتقييمها، بالفشل أو الفساد، لأن الماسكين بالحكم لا يتركون لها مجالا للتعبير، بل يعملون بكل الوسائل، للقضاء عليها، بما في ذلك بـ”القانون”، منها على سبيل المثال المادة 87 مكرّر، التي تحصر سبل التغيير، فقط وفق ما تضبطه السلطة بضوابطها، وتتحكم فيه بأجهزتها والدستور الذي يدبجه رجالاتها.

لا نذيع سرًا إذا قلنا أنه ليس من أولوية السلطة جعل السياسة ممكنة في بلادنا، أو تهيئة الشروط لممارستها، همُها الوحيد الأوحد، على غرار من سبقها، هو تنظيم الانتخابات، مرة بعد أخرى، بهدف التزكية وتجديد العهدة للصاحب السلطة ليس إلا، لذا فكل ما نشاهده اليوم، لا يعدو كونه عهدة مستنسخة من عهدات بوتفليقة، في “تجمعات مواطنية”، تناشد فخامته للترشح لعهدة جديدة، وقد انطلق السباق بالفعل، في مسرحيات Déjà vu تؤكد لنا أن السياسة والحكم، تفويض سماوي خاص بفئة حصرية، ونجسة لا بد الابتعاد عنها لغيرهم من المواطنين.

رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد