مقالات

لن يستقيم الظل ما دام العود أعْوَج

أشادت وكالة الأنباء الجزائرية في تعليق لها تحت عنوان “الجزائر في عهد التطور والبروز” بما سمّته النصف الأوّل من عهدة تبّون، ووثّقت تعليقها بانبهار “محللين” بما وصفوه “الجزائر الجديدة التي يرسي دعائمها الرئيس تبّون…” وأشادت وكالة الأنباء “بالمعجزات التي تحقّقت والمفاجآت القادمة”. حول هذا التعليق من الوكالة، كتب الأستاذ نجيب بلحيمر مقالة بعنوان “السياسة المستحيلة وصداع الخلافة”، أشار فيها إلى ذلك الاستنساخ العقيم في الأساليب والأداوات، الذي لا يعرف الابتكار إليه طريقًا. كلّ ما يقوم به اليوم طاقم تبّون، ليس أكثر من نسخة متهرية من خريطة طريق طاقم بوتفليقة، طيلة عهداته الأربعة قبل إجهاض محاولة الخامسة. ذكّر الأستاذ نجيب بلحيمر بما دأبت عليه “السلطة منذ عقود على طرح موضوع الانتخابات الرئاسية قبل أوانها” ورأى في تعليق وكالة الأنباء “إشارة إلى نية تبّون في الترشح لعهدة ثانية… وأنّ الحديث عن عهدة جديدة لتبّون هو محاولة لإقناع الناس بأنّ التنافس على الحكم ممكن في ظل هذا النظام وآلياته في التعيين، … وأنّ الحديث عن عهدة جديدة في وقت مبكّر هو “أيضًا جزء من مونولوغ يتحدّث من خلاله بعض النظام إلى بعضه الآخر…”، ويُذَكِّر السيد بلحيمر في نفس الوقت “بأنّ مشكلة خلافة شاغل منصب الرئيس بقيت مشكلة كبيرة لنظام الحكم منذ إقالة الشاذلي بن جديد، وهذه المشكلة تطرح على أكثر من مستوى، الأول هو صعوبة إيجاد وجه مقبول ومحلّ ثقة أصحاب القرار … والثاني أنّ التوافق على اسم الشخص المرشح ليس مسألة سهلة وهذا يعني أنّ كلّ خلافة قد تفتح الباب أمام تصدّعات في نظام يعاني من الهشاشة وانعدام الثقة بين مراكز القوة فيه” ثم يواصل “وفي حالة تبّون فإنّ الزلزال الذي مثّلته السلمية سبّب صدوعًا عميقة لم يتم رأبها، وسيكون امتحان الخلافة تعميقًا للخلاف وهو ما يجعل بقاء تبّون تحصيل حاصل في كلّ الأحوال بصرف النظر عن نتائج عهدته”. وعن سبب تذكيره بهذه الحقائق، يقول الأستاذ بلحيمر “الهدف هو التنبيه إلى أنّ السيناريو لم يتغير، وأنّ آليات التعيين لم تتغير، وأنّ منظومة الحكم لم تتغير، وحتى عندما أثبتت منصات التواصل الاجتماعي وما يدور فيها من نقاش حول وضع البلاد أنّ وعي الأغلبية هو الذي تغيّر، فإنّ السلطة ارتدت إلى وسائلها القديمة وفضلت أن تحدّث نفسها عبر وسائل إعلام تدفع لها لتُسمعها اللحن الذي تهواه وهي إشارة إلى أنها ماضية في أسلوبها القديم دون استيعاب لدروس السنوات الأربعة الأخيرة…”.

ما تفضل به الأستاذ نجيب بلحيمر ذكّرني بمقال كتبتُه قبل 20 سنة (2001)، تحت عنوان “هل أخفق بوتفليقة ولماذا؟”، ويُمكن بسهولة كبيرة استبدال بوتفليقة (في عنوان المقال) بتبون، أو الشاذلي، أو زروال وكل رئيس جيء به لواجهة الحكم، دون أن يغيّر ذلك في واقع الجزائر شيئًا، لأنّ معالجة الوضع في كلّ هذه الحِقب كانت معالجة كرنفالية، ترفض النظر إلى الوضع الفعلي، وإلى طبيعة الأزمة، ولا تريد أن تعترف بأنّ المشكلة بنيوية عميقة، تتعلق بالشرعية، لا يمكن حلّها بالمهرجانات الانتخابية، مما جعلنا نراوح مكاننا طيلة عقود من الزمن، ونهدر الفرص والطاقات، مع تكرار المكرر وتجديد الفشل.

محتوى هذه المقالة “هل أخفق بوتفليقة، ولماذا؟” التي تعود إلى أكثر من 20 سنة، ينطبق تمامًا على كل “رئيس” تم انتقاؤه لشغل منصب واجهة السلطة، ومن العبث، توقّع تغيّر نتائج هذه الممارسة، في حين لا زلنا نعيش في ظل نفس منظومة الحكم وآلياتها وأسلوب عملها.

بالنسبة للشطر الأول من السؤال (هل أخفق)، فالجواب، أجل أخفق، ولا يملك سوى أن يخفق، أخفق مثلما أخفق من قبله زروال وبوضياف وغيرهم، وتبّون بعدهم، وكل من سيأتي لخلافته. أما عن شطر السؤال لماذا، فكل الدلائل تبيّن أنّ هذه النتيجة حتمية وسببها طبيعة التركيبة البنيوية للسلطة منذ الاستقلال، بل وحتى قبل ذلك. هذه الحقيقة لخّصها السيد الهواري عدّي، الباحث في علم الاجتماع، في حديثه لصحيفة لومند بتاريخ 21 ديسمبر 2000: “للنظام السياسي في الجزائر منطق خاص وهو بقوة الفولاذ لا يتزحزح و يرتكز (بل ينبني) على التناقض البنيوي بين السلطة الفعلية (العسكر والمتمثّل أساسًا في عدد من الجنرالات) والسلطة الشكلية (الرئيس و الحكومات المتعاقبة)، نفس السيناريو  يتكرر دون انقطاع إلى درجة أصبح مألوفًا بل يعرفه المتتبّع للشأن الجزائري على ظهر قلب وأصبح يعرف العام والخاص من هو وراء هذا القرار أو ذاك، إنها لعبة واضحة تمامًا مثل لعبة الشطرنج”. وبمجرّد بروز تباين وشرخ حقيقين بين السلطة الشكلية وبين إرادة السلطة الفعلية، تُنهي صاحبة السلطة الفعلية، مهام الواجهة التي عينتها بمقتضى الاتفاق غير المكتوب الذي يحدّد المجال الحصري لتحرك الواجهة: إقالة الشاذلي بن جديد واغتيال بوضياف على سبيل المثال، إقالة الأول بسبب إصراره على مواصلة المسار الانتخابي، والتعايش مع برلمان منبثق لأوّل مرّة في تاريخ الجزائر، عن خيار حرّ من المواطنين، واغتيال الثاني، بوضياف، بعد أداء جزء المهمة التي أوكلت إليه، قبل تفطّنه للفخ الذي أوقعوه فيه.

هذه الحقيقة كان بوتفليقة يعرفها جيّدًا قبل أن ينصّبه أصحاب القرار رئيسًا، وقد صرّح هو نفسه في حديثه مع العديد من الكتّاب والمحلّلين (الذين زاروه في منفاه) أنّ النظام في الجزائر عسكري انقلابي في طبعه وأنّ كلّ تغيير مهما بدا عميقًا لا يرقى إلى حقيقة السلطة، وكان كلما يُستفسر حول مغزى وأثر تغيير مسؤول كبير، كان يُهوّن من الحدث معتبرًا أنه طالما بقي المتنفّذون من الجنرالات ماسكين بزمام الأمور فلا أمل في انفراج، لكن بدا وكأنه تناسى هذه الحقيقة عند تنصيبه رئيسًا!

وقد أكّد هذه الحقيقة الرئيس الشاذلي بن جديد بعد صمت طويل، في ردّه على سؤال صحيفة “الحياة” (14 يناير 2001 ص 4) “ما هي أهداف الذين تحرّكوا ضد فوز الإنقاذ؟” فأجاب “هذه الجماعة (يقصد الانقلابيين) كسبت ثروة غير مشروعة ولا يريدون الشفافية في الحكم وعندما وصلنا إلى مرحلة متقدّمة من الديموقراطية تحرّكوا ضد التجربة الفتية لأنهم رأوا فيها خطرًا يهدّد مصالحهم”. 

ظلّ العدوّ اللدود بالنسبة للعصابة الحكمة منذ الاستقلال، ولا زال، يتمثّل في إرادة الشعب وكلّ جهة، جماعة أو أفراد، ترفض القيام بدور الواجهة، وتطالب باستعادة الشعب حقّه وسيادته الفعلية (مثلما تمّ الانقلاب على مطالب الحراك الفعلية). عقود من الزمن وتوالي الرؤساء والحكومات “المُتنوّعة”، كشفت زيف المبرّرات التي حرمت الشعب من حقه في التعبير والاختيار، والتلويح بفزاعة “الإسلام السياسي”، بعد أن اتضح أمام الجميع أنّ هذه السلطة لا يضايقها أيّ توجّه أيديولوجي مهما كان، شريطة التزامه بـ”الدور” المتفق عليه سلفًا. والشاهد على ذلك، مشاركة “حماس” (ثم حمس) في مختلف المجالس بعد الانقلاب، بل وحتى في عدد من الحكومات، وكذا النهضة (وتفرعاتها)، وتعيين بعض وجوه الجبهة الإسلامية للإنقاذ، رغم وصفهم بالتطرّف، وزراء وسفراء، كلّ ذلك يُثْبت لنا أنّ منظومة الحكم تستطيع استيعاب الجميع، شريطة محافظتها على الحكم الفعلي، فيمكنها:

– أن تتأسلم وتُزايد حتى في إسلاميتها وسلفيتها؛

– وأن تتعلْمَن فتنافس جبهة آيت أحمد إن استطاعت تحييده او تدجينه؛

– وأن “تتبربر” (أي تتبنى المطلب الأمازيغي) فتصبح أكثر تطرّفًا من سعيد سعدي نفسه (أدخلته بيت الطاعة السياسية، في عدّة حكومات)، وبإمكانها فعل الشي نفسه حتى مع فرحات مهني.

حكمٌ يقوم على إقصاء الشعب واتخاذه عدوًا لا يمكنه بناء دولة ولا جزائر جديدة، ومن ثمّ، ليس هناك أيّ غرابة في اخفاقاته المتتالية. إنّ الاستمرار في هذا الأسلوب في تسيير شؤون البلاد، يُفوّت مرة أخرى الفرصة للانتقال الحضاري إلى نظام سياسي مدني، الذي يظلّ مهما طال الزمان، مطمح معظم المواطنين، والسبيل الأوحد للتخلّص من الأنماط المتعفّنة التي لم تعد تقبل بها حتى تلك الدول التي كنا نتهمها بالتخلّف عن المركب.

د. رشيد زياني الشريف | المجلس الوطني لحركة رشاد