مقالات

مطلب التغيير السلمي كان ولا يزال طوق نجاة وحصن للوطن، ومن وصفه بغير ذلك فهو مفترٍ

في منتصف عهدة تبون، ظهرت إشارات، هنا وهناك، توحي بانطلاقة السباق نحو الإعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة. هذه “الحملة التمهيدية”(تسخين البندير)، تتولّاها كالعادة جهات هامشية، دون تَحَمُّل السلطات الرسمية المسؤولية (سرّ بوليشينال secret de Polichinelle كما يقول المثل الفرنسي). قد يكون قرار التجديد لتبون من عدمه، أو استبداله بمرشح يحظى بتوافق مكونات السلطة، ما زال معلّقًا، ولم تفصل فيه بعدُ الجهات صاحبة “تعيين الرؤساء”. لكن في كلّ الحالات، لن يُغيّر ذلك من طبيعة المعضلة المزمنة التي يعيشها البلد، بما يقتضي من أنصار التغيير الجذري، توخّي الحذر وتدارس الأمر، فالوضع جدّ حسّاس وحالة البلاد تتطلّب التريّث وتبنّي موقف عقلاني، يجنّب البلد مزيدًا من النكبات. هذا الموقف الواجب تبنّيه، مثلما يستلزم عدم التسرّع في الحكم والقرار، يرفض أيضًا الجري وراء السراب والمخادعة.

المشاركة السياسية، حتى في نظام فاسد، ولو كان منغلقًا ومستبدًا، أمرٌ قابل للنقاش والدراسة، وغير مرفوض بالإطلاق، كما ليس من مهامّ السياسيين ولا شيمهم اتّهام كل من يشارك في منافسة هذا النظام ولو وفق قواعده، بالخيانة أو العمالة، لأنّ المشاركة في حدّ ذاتها تُعتبر نوعًا من التدافع بين الحق والباطل، والصراع سياسي بين الفساد والإصلاح، وسُنة من سنن الكون التي لن تتبدل ولن تتغير، من أجل التغيير ما استطاع إليه المرء سبيلا. إذا كان الرفض التلقائي المطلق لكل مشاركة قد يكون نوعًا من العدمية التي تجري وراء سراب المثالية، فبالمقابل، المشاركة الآلية المزمنة في هذه الأنظمة، مع ما يعرفه الجميع من نتائجها وحيثياتها، هو الآخر أمرٌ عبثي وانتحاري في الكثير من الأحيان، والبديل الأسلم بين الوقوع من جهة في فخ العدمية ومن جهة أخرى، اللهث وراء المشاركة بأيّ ثمن، هو التحلّي بالعقلانية الفعلية، لا التبريرية، وتدارس كافة الاحتمالات، ونصيب النجاح فيها، لتحقيق الهدف الأسمى، وعلى أقلّ تقدير وضع اللبنات الأساسية، والسير في الاتجاه الصحيح، من قبيل فرض حدّ أدنى من الشروط الموضوعية القابلة للتطبيق، التي تمكّن من إنجاح العملية وتضمن متابعتها ومراقبتها في جوّ الشفافية، والإصرار على ضرورة انفراج حقيقي، يفتح المجال السياسي والتعبير الحرّ أمام المواطنين، بما يضمن إعادة الأمل في بناء دولة القانون، ويضمن وضع حدّ للممارسات التي ألفها المواطن، كفرض السلطة بمفردها خطة محسومة النتائج سلفًا، يحضرها المدعوون المُنتَقون، لتكريس ما تريده صاحبة القرار.

دعونا ننظر بموضوعية إلى الأحداث الجارية وفي حياة المواطنين، وخاصة المناخ الاجتماعي والسياسي، ونسأل هل هناك مؤشرات ملموسة تحثّ المواطن على إعادة تقييمه للوضع ويحفّزه على تغيير رأيه في موضوع “المشاركة” السياسية؟

دعونا نسأل مثلًا، هل المادة 87 مكرر المعدلة، التي تُشَرعِن القمع بغرض توجيه “الممارسة السياسية” نحو مربّع النظام السياسي، تنسجم مع دعوات حسن الظن وعدم الحكم المسبق؟

أليست هذه المادة ترجمةً فعلية لإرادة التخلّص من الثورة السلمية (التي لولاها ما وجد تبون نفسه في الرئاسة)، وتجرّم مطلب الانتقال الديمقراطي من خارج النظام الدستوري الحالي الفاقد للشرعية، وتعتبره عملًا إرهابيًا؟  

أليس الهدف الأساسي من هذه المادة وأخواتها، هو فرض خيار العودة إلى ما قبل 2019، والانخراط في العملية السياسية للنظام، ومن ثمّ الارتداد النهائي عن أهداف الثورة التي لا زال معظم المواطنين ينتظرون تجسيدها؟

هل يخفى على أحد أنّ هدف السلطة من هذه الممارسة هو التخلّص من الحراك لدقّ أسفين بين مكوّناته السياسية وتقسيمهم بين معتدلين وراديكاليين، ودفعهم إلى التناحر فيما بينهم؟

أليس في ذلك دليل مؤشّر على إدراك السلطة عجزها على إقناع الجزائريين بالجدوى السياسية السلطوية، بعد إدراكها مدى النضج السياسي الذي غرسته الثورة السلمية في نفوس المواطنين، وتوحيد صفوفهم بمختلف مشاربهم الفكرية والأيديولوجية، حول مطلب الانتقال الديمقراطي لبناء دولة القانون معًا؟

مثل هذا التصرّف من السلطة اليوم يذكّرنا بممارسة القوة الاستعمارية التي كانت تحاول إشراك الجزائريين في مشروعها الاندماجي، وفق قواعدها وقوانينها، وتسنّ القوانين التي تصنّف التحرّر عنها، إرهابًا (مثل 87 مكرر اليوم)، بما لم يترك أمام الحركة الوطنية خيارًا آخر سوى تنظيم صفوفها، وما تمخضّ عن ذلك من تشكيل جبهة التحرير، لتحقيق الهدف الأسمى، ووحدة كلمتها بمختلف مشاربها.

بعد كل هذه التجارب المُمِيتة، هل استخلص نظام الحكم الدرس، وأصبح يعي خطورة الاستمرار في ممارساته وأسالبه، وإصراره على إغلاق العملية السياسية برمّتها، وهل لا زال هناك أملٌ في عودة النظام إلى رشده والاقتناع بأنّ هناك حلّ وسط، يُمَكِّن من جسر الهوّة بينه وبين الرافضين لأيّ مشاركة في ظل هذه المنظومة؟

يقترح البعض، في إطار البديل والحلّ “الوسط” المشاركة الواقعية، بشخصية سياسية تحظى بثقة غالبية الشعب، تتّصف بكفاءة ونزاهة ولم تُلطّخ أيديها بممارسات السلطة (يُطلق عليه البعض اسم المرشح التوافقي)، أو بتَجَمُّع سياسي من منظّمات وحركات وجمعيات، يتجاوز اختلافاته السياسية والأيديولوجية، مع تركيزه الحصري على وضع أرضية مبادئ واضحة وجامعة تُجسّد جوهر ما تطمح إليه الثورة السلمية، منذ 22 فبراير 2019. لكن مع ما يحمله من أمل، يبقى هذا التوجّه محفوفًا بالمخاطر، لخشية استغلاله من خلال توظيف المشاركة في أيّ انتخابات من داخل مربع النظام، للقضاء على الثورة من أصلها، عن طريق نزع المصداقية عنها، وتفجير كلّ جهود القطيعة، بما يعتبره البعض “تراجعًا استراتيجيًا” يطيل من عمر النظام ويحقّق أهداف الثورة المضادة، ومن ثمّ يجد أنصار الثورة أنفسهم يشاركون بأنفسهم في دفن ثورتهم، ويمكّنون النظام بضرب عصفرين بحجرة واحدة: أ- القضاء على الثورة السلمية؛ ب- وإشراك أنصار هذه الثورة في تقوية الثورة المضادة، معتقدين أنّ انخراطهم في العملية، يحافظ على أهداف الثورة.

امتحان ثقة ومصداقية صعبٌ وخطير ينتظر السلطة وأنصار التغيير، على حدّ سواء. هل دعوة السلطة تكون هذه المرة إلى طاولة جامعة لمعالجة إشكالية نظام الحكم في العمق، من أجل الخروج بحلول جادة، ولو بالتدرّج، أم تراها تستنسخ طبعة أخرى من “الزردات” يحضرها الضيوف المزمنون، أنصار الواقعية ورفض الكرسي الشاغر؟ إذا كان هذا الاحتمال متوّقعًا منها، فكيف يكون ردّ أنصار التغيير؟ هل هم مستعدّون للمشاركة في بديل، ولو مرحلي تدرّجي، قابل للتحقيق؟ مثل هذا الاحتمال، لا يمكن تجسيده ما لم يتمّ أوّلًا تشخيصٌ موضوعي دقيق، للأسباب التي أدّت إلى هذا التشرذم، الذي حال دون تجميع الطاقات، ثمّ التعفّف عن التراشق وزرع القلاقل والأراجيف، التي أجّجت الخلافات وألهبت الأجواء، وتسبّبت في إجهاض فرص تحقيق المطالب الأساسية المشروعة المشتركة.

إذا كان أنصار التغيير جادّون وصادقون فيما يقولون، ويضعون مصلحة البلد قبل كلّ شيء، فما الذي يقف في طريق جمع الكلمة ويعرقل الجهود الساعية إلى إعادة الثقة في إمكانية تحقيق التغيير الجذري السلمي، خاصة أنّ أشهُرًا من الحراك والتحاور وتبادل التجربة، أثبتت للجميع، أنّ معظم الأطراف تتّفق بشكل شبه كلّي في الوصف والتشخيص، وعلى أولوية التغيير السلمي المرحلي.

د. رشيد زياني شريف | المجلس الوطني حركة رشاد