مقالات

العسكر بحاجة إلى رئيس، فلا بد إذن من انتخابات، والعصا لكل صوت يرى غير ذلك

“النظام الجزائري مستبد ولن تكون هناك انتخابات شفافة”

هذا التصريح ليس مني، وصاحبه (وصاحبته) لا هي معارضة للسلطة ولا ممن يصفهم النظام ووسائله، بالإرهابيين أو المتعاطفين معهم، وصاحبته ليست من أعداء الجزائريين التقليديين، القدماء منهم أو الجدد، التصريح ببساطة صادر عن الباحثة والمحللة السياسية المتخصصة في الشأن الجزائري، داليا غانم، التي خلصت في دراستها المطوّلة إلى أن “النظام الجزائري، لم يكن يوما في نيته دَمَقرطة نفسه” على مرّ عقود من الحكم ولا حتى عقب انتفاضة أكتوبر 88. هلْ يمكن اعتبار أن ما أدلت به الباحثة، كان حكما قاسيا ومبالغا فيه؟ هل فيه تجني وأحكام مسبقة، تنم عن عداء للدولة الجزائرية، كما يحلو لمنابر السلطة اتهام كل من يصفها بما لا يروقها؟ للأسف، كل ما جاء في دراسة الباحثة تؤكده وتؤازره الوقائع والتجارب المرة والقاسية التي عاشها الشعب الجزائري، ولا يزال رهينة عواقبها الوخيمة. 

لا نذيع سرا إذا ذكّرنا بأن النظام الجزائري، منذ استقلال البلاد، عمد بإصرار ويد من حديد على إغلاق جميع فضاءات التعبير والممارسة السياسية الحرة، ولم يترك فرصة ولا مناسبة ولا مبادرة، للانعتاق من منظومة الحكم المستبد، إلا وأجهضها، وفرض ستارا حديديا، حرم من خلاله الشعب من حقه المشروع لاستعادة سيادته الفعلية. عشرات السنين من هيمنة الحكم العسكري، 60 سنة على وجه التحديد، كفيلة لتُبيّن بما لا يدع مجالا للشك، أن النومنكلاتورا الحاكمة لم تقبل يوما حكم الشعب، ولم تسمح أبدا بممارسة الأغلبية حقها، وحتى عندما أجبِرت، على نوع من التراجع، خاصة بعد أكتوبر 88 (وفي أعقاب حراك 22 فبراير 2019)، تحايلت على هذه الهبة الشعبية والتفت على خيار وإرادة الشعب في التحرر، من خلال توكيل واجهات مدنية، مُعَينة من قبلها، خاضعة بالمطلق لأوامرها، مما يؤكد ما خلصت إليه الباحثة، “أنّ النظام لم ينو يوما دمقرطة البلد“، ويرفض بالمطلق أي حل أو تسوية أو مبادرة، لا تخضع لسلطته، مثلما يشهد على ذلك، موقفه الرافض والمتعنت لمبادرة العقد الوطني في 1995، مع تجريم المشاركين فيه (المرحومين آيت أحمد ومهري وعلي يحيى عبد النور وبن بلا)، واتهماهم “بالخيانة العظمى”، وكذلك رفضه عشرات المبادرات المفتوحة، المقدمة إليه غداة الحراك، رغم تقديم أصحابها تنازلات كبيرة، وليونة منقطعة النظير، من قبيل التغيير بالتدرج، وبمشاركة السلطة الفعلية، من أجل وقف حالة الاحتقان واستعادة الوطن عافيته، لكن هوس النظام بالحكم المطلق، وقف حاجزا دون تحقيق هذه المبادرات وأجهض كل الفرص، وبدد كل آمال الشعب، ولا يزال يدفع نحو كارثة محققة.

الحل بالنسبة للسلطة القائمة

“تريدون دولة مدنية، سنمنحكم رئيسا مدنيا، سننشئ لكم أحزابا من المدنيين، سنصدر لكم دستورا مدنيا، سننتخب لكم برلمانا ومجالس محلية مدنية، بل سنزوّدكم حتى بأحزاب وشخصيات وتنظيمات [معارضة] وصحافة [مستقلة]”، طبعا النظام لم يقل هذا حرفيا، لكنه نفذه بحذافيره على أرض الواقع. وكان دائما حريصا على تمرير رسالته الصارمة، أنه هو مَن يمنح، منًا منه وغير ملزَم، وليس خضوعا لإرادة الشعب. وحتى عندما قدم ما يبدو أنه تغيير في ممارساته وأساليبه، لم يفعل ذلك استجابة للمواطنين، بل نفذه إدراكا منه بضرورة التواري عن الأنظار، بالنظر إلى ما يعرضه “الحكم المباشر” من مخاطر على تماسكه، وحفاظا على قاعدة “الحكم الفعلي المطلق، دون تحمل أي مسؤولية أو مساءلة”. هذه الحقيقة ذكرها السفير الفرنسي في الجزائر، سابقا، كسافيي دريانكور ( تصريح لا علاقة له بوخز الضمير أو تحسره على وضع الجزائريين، بل تعبيرا عن سخطه مما يراه من تهاوي بلده فرنسا في ما يربطها بمستعمرتها القديمة)، في مقالته يوم 9 جانفي، مع صحيفة لوفيغارو اليمينية، قال فيها”يلاحِظ جميع المراقبين الموضوعيين أنه منذ عام 2020، بعد أسابيع قليلة من الأمل، أظهر النظام وجهه الحقيقي: نظام عسكري (تَدَرب رجاله على أساليب الاتحاد السوفيتي السابق، أمرٌ نكاد نغفل عنه أحيانا)، نظامٌ وحشي، متربص ومختفي، وراء واجهة حكم مدنية، نظام عسكري مهووس بالحفاظ على امتيازاته والريع الذي يجنيه، غير مبالي بصعوبات الشعب الجزائري”. وهو بذلك لم يأت بجديد، فحتى رئيسه ماكرون، قبل أشهر قال نفس الشيء، عن تبون العالق في حبال شبكة عسكرية مالية، ولا يستطيع فعل شيء، الأمر الذي أغضب مؤقتا النظام وجمد لبرهة علاقته معه، قبل العودة في الأحضان.

من المفيد التذكير أيضا، منذ “وقف المسار الانتخابي” (التسمية المعتمدة من قبل اليناريين للانقلاب 92 الذي يصادف اليوم، 11 جانفي الذكرى الـ31)) وإنهاء “الفسحة الديمقراطية” القصيرة، بين أكتوبر 88 ويناير 92، انتقلت هذه السلطة من نظام الحزب الواحد، شكلا وحقيقة، إلى نظام تعددي في واجهته، وأحادي في حقيقته، كما تلخصه الباحثة دالية غانم في مقابلتها مع جريدة لومند الفرنسية، تقول فيه “هناك انتخابات، لكنها لن تكون شفافة أبدا. هناك صحافة، لكنها لن تكون أبدا حرة بما فيه الكفاية. هناك أحزاب سياسية، لكنها لا تستطيع أبدا تهديد النظام الجزائري“، أما عن سيطرة النظام على مقاليد الحكم، تقول الباحثة “هذا النظام يقوم على خمسة أركان: الجيش، استيعاب المعارضة، تشرذم المجتمع المدني، ريع المحروقات، والقمع، التي مكنته من المقاومة والتكيف“. للأسف، ما سبق أن حذر منه العديد من الوطنيين الشرفاء، الباحثين عن حلول موضعية سلمية، تنقذ البلاد من محنته، وتحذيرهم من مخاطر اندثار الدولة الجزائرية الوشيك، بفعل السياسات الإجرامية المتتالية، نجدُ أن السفير الفرنسي الأسبق، هو الآخر خلص مقالته، قائلا “لا تزال (الجزائر) تمثل مشكلة بالنسبة لفرنسا، إنها تنهار، لكنها تهدد بجر باريس في طريق سقوطها”. وسعادة السفير الأسبق، لا تهمه الجزائر والهوية التي تتجه إليه، بل اهتمامه منحصر على مصير بلده، ومحذر من السقوط المترابط.

د. رشيد زياني الشريف | المجلس الوطني لحركة رشاد