مقالات

تصريحات السفير دريانكور، رسالة قيادته إلى “نظرائهم” في الجزائر

السفير وظيفة حساسة، المُعيّن في هذا المنصب، منتقى بعناية بالغة، خاصة عندما يوفد إلى بلد له خصوصياته، وتربط به علاقات مميزة لظروف تاريخية أو جغرافية أو تعاونية، على غرار “العلاقة” الفرنسية الجزائرية، مثلما يوّضحه السفير الفرنسي الأسبق كسافيي دريانكور نفسه، في مقدمة كتابه “اللغز الجزائري” مستذكرًا نصيحة صديق طفولته، الأمين العام في الخارجية، موريس غوردو مونتاني، قبيل تعيينه بالجزائر العاصمة “بالنسبة لفرنسا ودبلوماسيتها، هناك بلدان لهما بالغ الأهمية، لأسباب مختلفة بطبيعة الحال، ألمانيا والجزائر”، الجزائر نظرا لتاريخ 132 سنة من الاستعمار، أما بالنسبة لألمانيا، فتاريخ البلدين مليء بالحروب والمنافسة المتواصلة إلى يومنا هذا. السفير بحكم منصبه، ملتزم بتوجيهات قيادات بلده ومنفذٌ لسياستها، وحريصٌ على تحقيق مصالحها، ومن ثم لا يتحدث من تلقاء نفسه، وكلامه، تصريحًا أو تلميحًا، ليس مجرد ثرثرة أو تعبير عن رأي شخصي، في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة، بل يتحدث من منطلق أداء المهمة، حتى وهو “متقاعد”، مثله مثل المناصب السامية والحساسة، المدنية أو السياسية، كالوزراء والدبلوماسيين، أو الضباط السامين في مختلف الأجهزة، حتى بعد خروجهم إلى التقاعد.

تصريح السفير الأسبق كسافيي دريانكور، في حواره مع صحيفة لو فيغارو (9 جانفي 2023)، ليست زلة لسان، بل مدروس ويهدف إلى تمرير رسالة. ورغم إدراكه أنه سيثير ردود فعل وانتقادات شديدة، لم يمنعه ذلك من توجيه رسائله المشفرة إلى من يعنيه الأمر، خاصة وأن ما قاله سبق أن عبّر عنه في كاتبه “اللغز الجزائري”، واستبق فيه هذه الانتقادات “لن أذهب إلى حد استعمال مقولة فرنسوا متران، في 1954، [الجزائر هي فرنسا]، لكن أقول بعد قضائي قرابة 8 سنين هناك، الجزائر هي بالفعل ضمن السياسة الداخلية لفرنسا، وهذا ينطبق أيضًا على دبلوماسيتها، إن الجزائر العاصمة تبعد بـ 800 كلم فقط عن مارسيليا، وستبقى كذلك مهما حدث؛ أنا أدرك ما خلفته مذكرات برنار باجولي، السفير الذي سبقني، من أثر، وهذا ما دفعني تحديدًا إلى التوضيح بأن مذكراتي لا تُلزم السلطات الفرنسية، بل تُلزم فقط صاحبها”، وهو بذلك يبين أنه يتوقع شدة ردود الفعل، لكن لم تثنه تلك الانتقادات عن الإدلاء بتصريحاته مهما بلغت شدة ردود الفعل.

توضيحًا لهذه النقطة يقول “عندما قبلتُ منصب سفير بالعاصمة الجزائرية، كنتُ أشعر أنني أتولى مسؤولية بارزة وبالغة الأهمية، نظرًا لمعرفتي بالأهمية التي تكتسيها الجزائر بالنسبة لدبلوماسيتنا، بالنظر إلى أهمية القضايا الأمنية، والدبلوماسية، والتاريخية، والثقافية، ومسائل الهجرة، وحساسية المنصب بالجزائر هي التي جعلت كل من تولاه قبلي، يصنف ضمن السفراء البارزين”. هذا التوضيح من السفير يفرض علينا بالتالي قراءة متأنية لمغزى تصريحه ووضعه في سياقه الأعم.

حول طبيعة الحكم، يقول “يلاحِظ جميع المراقبين الموضوعيين أنه منذ عام 2020، ربما بعد أسابيع قليلة من بصيص الأمل، أظهر النظام وجهه الحقيقي: نظام عسكري (تدّرب على النمط السوفيتي السابق)، نظام وحشي، يتربص وراء الستار، خلف سلطة مدنية، مهتم بتحقيق مصالحه… مهووس بالحفاظ على امتيازاته والريع (الذي يجنبه من مداخيل المحروقات)، وغير مبال بما يعانيه الشعب الجزائري من صعوبات في الحياة”، أول ملاحظة، يتحدث السفير عن تدريب النظام الجزائري على النمط السوفياتي، لكنه يغفل أو يتغافل أن تدريب جزء واسع من أطر أجهزتنا الأمنية والإدارية والثقافية، تم أيضًا على أيدي الأجهزة الفرنسية وفق نمطها، كما أنه يتعامى عن عمق التنسيق بين جهاز توفيق والعماري ونظرائهم باسكوا وماركياني، ومدى صلابة العلاقة بين هذه الأجهزة إلى اليوم. ثم هل اكتشف السفير الآن فقط أن النظام الحاكم نطامٌ عسكريٌ بواجهة مدنية، ألم يصفه ماكرون قبله، في 30 سبتمبر 2021 في صحيفة لوموند، بـ”نظام سياسي عسكري متعب وأن تبون عالق في شبكة هذا النظام، ولا يستطيع فعل شيء خارج قبضته؟” وحتى قبل ذلك بعقود، عندما دعمت السلطات الفرنسية النظام في انقلابه في يناير 1992، وضمنت له الحماية الدبلوماسية والمالية والتنسيق الأمني في عهد باسكوا وكلود غيان وغيرهم (شهادة شارل ماركياني الموّثقة، التي يتحدث فيها عن توجيهات ميتران له بوقف الدور الثاني من الانتخابات، من خلال تنسيق ميداني بين ضباط النظام الفرنسي ونظرائهم في الجزائر)؟ ألم يعلموا أن النظام عسكريٌ، أثناء حكم بوتفليقة، الذي مجده مختلف رؤساء فرنسا، وذهب أحدهم، فرنسوا هولاند، إلى حد استفزاز الجزائريين والاستخفاف بهم، عندما صرح عقب زيارته لبوتفليقة، الذي كان وقتئذ شبه محنط، أنه وجده في حالة نشاط عالية، مستعملا مفردة تكاد تندثر حتى من القاموس الفرنسي “alacrité “؟ وحتى عند انطلاق الحراك، ألم يوصِ الإليزي ويحث الجزائريين على السماح بتمديد عهدة بوتفليقة الرابعة، ليتسنى له تطبيق مطالب الحراك؟

ينتقد السفير القمع الذي تعرض له الحراك، ويعرب عن خيبة أمله في توّقفه، وكأن فرنسا كانت تدعمه، يقول “إن القمع انتشر في البلاد، والجيش الذي يخطط وينفذ هذا القمع، لا يتوّقف عن تمجيد الحرب ضد فرنسا التي يصفها [بالعدو الأبدي]، هذا القمع قد انتهى في نهاية المطاف بقتل الآمال التي عُلِقت على الحراك، لإرساء الديمقراطية في البلاد”. الواقع يثبت العكس، لأن الحراك شكل منغصًا وعدوًا للنظامين، الفرنسي وفي الجزائر، والطرفان يدركان، أن جوهر ما يطالب به الحراك هو دولة العدل والقانون، دولة مدنية، تعود فيها السيادة للشعب، وهذا المطلب للتغيير الجذري السلمي، لا يخدم لا فرنسا ولا النظام الجزائري، كما اتضح على أرض الواقع، وترجمته فرنسا بالضغط والمضايقة، على أفراد الجالية من الحراكيين على أراضيها، لمساعدة النظام القائم في الجزائر على البقاء، مع التضحية ببعض أكباش الفداء، وتمكين السلطة (التي يصفها السفير بالعسكرية والقمعية) من استعادة المبادرة والتحكم في الجزائر من خلال تكميم أفواه المواطنين على أرض الوطن.

يعرب السفير عن تحسره على قمع الحريات، فيقول “اليوم، الصحافة مُكممة، حيث يُعتَقل الصحفيون أو يحرمون من جوازات سفرهم، صحف مثل Liberté أغلقت، الوطن وضعت تحت الوصاية، وفي نهاية ديسمبر، عندما كانت السفارات الغربية تحتفل برأس السنة الجديدة، تعرض الحصن الأخير، راديو M والموقعMaghreb émergent  للحظر، مع اعتقال مديره إحسان القاضي ليلًا. ويوم السبت 7 يناير، جاء دور موقع AlgériePart لاتهامه بتلقي أموال من الخارج لنشر أخبار كاذبة من أجل [زعزعة استقرار البلد]”. استفاقة عجيبة، هذا أقل ما يمكن قوله، لأن هذا القمع ضد حرية الصحافة والرأي لم يبدأ بهذه المنابر بل سبقها بسنوات وأشهر على الأقل ضد كافة المواقع والصفحات، على الورق أو الانترنت، لكل الأقلام والكتاب والمثقفين السياسيين الذين رفضوا خريطة طريق السلطة، ومع ذلك لم تنبس فرنسا التي كان يمثلها، ببنت شفة حول تلك الانتهاكات، كأن القمع والاعتقالات كانت مقبولة آنذاك، والنظام كان جمهوري، أما اليوم فلا، والنظام أصبح عسكريًا يقمع الحريات! إذن ما سر هذه الاستفاقة الانتقائية؟

وفي تشريحه للنظام “العسكري” وكشف خصائصه، يقول ” تكمُن قوة هذا النظام في جعل العالم يعتقد أن الجزائر قد لا تكون ديمقراطية على النمط الغربي، لكنها تتجه، حسب وسائلها الخاصة، نحو نظام استبدادي شيئًا ما، بوليسي قليلًا، لكن دون أن يكون ديكتاتوريًا أبدًا. عبقرية هذا النظام هي قبل كل شيء أنه استطاع تمرير هذه الرواية وجعل الفرنسيين، الذين من المفترض أنهم يعرفونه أفضل من غيرهم، يبتلعونها”. في الحقيقة لا أعتقد أن فرنسا تبتلع هذه الرواية، بل هي من صنعتها وروّجت لها، لأنها تخدم مصالحها، لأنها ببساطة لن تجد أفضل “نظير” من نظام يفتقد شرعية شعبه، ويستحكم في الوضع بفضل سكوت وتعاون القوى الغربية عمومًا وفرنسا تحديدًا، لنفس الأسباب التي ذكرها السفير نفسه، أي خصوصية الجزائر بالنسبة لفرنسا. الجدير بالذكر، أن السلطة الفرنسية، يسارية كانت أم يمينية، لم تتأخر يومًا في دعم ساسة النظام الجزائري، على مر عقود، والسبب مُتَفَهم وجلي، فرنسا تجني من نظام يحتاج إليها، ما لا يمكنها جنيه من جزائر ذات سيادة، يحكمها أبناؤها، يتنافسون على خدمتها أولا وقبل كل شيء.

يقول السفير “بدافع السهولة أو الانتهازية، لكن بالتعامي بكل تأكيد، إننا في باريس، نغض الطرف عن الواقع الجزائري، نتظاهر وكأن السلطة الجزائرية شرعية، حتى وإن لم تكن ديمقراطية، وأن الخطاب المعادي للفرنسيين شر ضروري لكنه عابر، وأن الديمقراطية هي تدريب وتَعَلُم يستغرق وقتًا. لكن تعامينا هذا خطأ تاريخي؛ اعتقاد باريس أن الذهاب إلى الجزائر، والرضوخ للجزائريين في قضايا عزيزة عليهم، مثل الذاكرة والتأشيرات، يُمَكِننا من كسبهم ودفعهم إلى مزيد من التعاون، لكن اتضح أن هذا الاعتقاد مجرد وهم. العسكريون الذين يديرون البلاد ليس لديهم أي مشاعر أو وخز ضمير عندما يتعلق الأمر بفرنسا…”، هنا أيضا وكأن السفير يكتشف طبيعة النظام، وتشكيلته، ورجاله الذين يحمل العديد منهم جنسية بلده، ويقيم أبناؤهم على أرضه، ويملكون حسابات في بنوكه. بل ويوجد من هؤلاء “الذين يحكمون البلاد من العسكريين” مَن لا يخفون ولعهم وارتباطهم الوجداني العميق بفرنسا ومشروعها، مثلما نقله نيكولا بو، في حواره مع أحد الأطر السامية في مديرية الاستعلامات والأمن، الكولونيل علي بن قدى، المدعو [بتي سماعين] “نحن الجمهوريون التقدميون، نمثل بشكل من الأشكال، آخر الأقدام السوداء، باعتبارنا ندافع عن قيم المجتمعات التي أضحت أقلية، وعلى اصدقائنا الفرنسيين أن يتركونا نتصرف، لأننا نعرف طريقة عمل الجماعات الإسلامية”. هل يريد السفير إقناعنا بأن مثل هؤلاء الذين شكلوا العمود الفقري للنظام العسكري في الجزائري وكانوا ينسقون مع نظرائهم الفرنسيين على أعلى مستوى، لم تكن قيادات بلده، تعلم طبيعتهم؟ من الصعب تصديق تصريحاته.

يقول السفير “يمكننا القول أن الجزائر ربحت المعركة ضد المستعمر القديم، ولا تزال تشكل معضلة بالنسبة لفرنسا، وهي تتجه نحو الانهيار، لكن الخطر، أن انهيارها قد يجرنا معها”، يبدو أن السفير محق في النتيجة المحتملة، لكن يجانب الحقيقة في ذكر أسبابها، لأن انهيار النظام في الجزائر، إذا حدث، يكون بسبب لا شرعيته وسياسته الأمنية القمعية التي لم تترك للشعب أي فضاء لممارسة حقه، وتدمير طاقته، أما جر فرنسا معها، فسببه، تنسيق فرنسا ودعمها له، على حساب مصالح وإرادة الشعب الجزائري.

لا أعتقد أن “صدمة” السفير الأسبق، تثبت أمام الواقع، لأن الدوائر الحاكمة في فرنسا تعلم خير وأكثر من غيرها طبيعة وتشكيلة النظام في الجزائر، وبالتالي فالسفير لم يكتشف شيئًا جديدًا. يبدو أن “سخط السفير” الإعلامي، هو تعبير “غير رسمي” عن عدم رضا فرنسا، على تقاعس النظام الجزائري إزاء قضايا محددة، مثل الموقف الجزائري من ملف الحرب الروسية في أوكرانيا وملفات أخرى مسكوت عنها. وللتأثير على النظام الجزائري تلجأ كالعادة إلى تشغيل بعض المنابر والتلويح بملفات “تقليدية” (على غرار قضايا حقوق الإنسان والأقليات، والجمعيات الخيرية). النظام الفرنسي يعلم تفاصيل وضعية المسؤولين الجزائريين بالنظر إلى ما يربطهم من علاقات ومصالح في فرنسا، فجعلهم مجبرين على الاستجابة، مثلما كشفته قضية إعادة العلاقة الحميمة مع فرنسا، بعد تصريحات ماكرون حول “النظام العسكري الحاكم” وما أثارته من غضب تبون، الذي لم يعمر طويلًا. فرنسا توظف وضعية ودقائق ملفات “الثوريين” الذين يقول عنهم السفير دريانكون “من الشائع انتقاد فرنسا خلال النهار، لكن عندما يأتي المساء، يتم مراسلة هذا الموظف أو ذاك من السفارة أو القنصل العام، أو السفير نفسه أو المستشار الثقافي، غالبًا عبر عنوان بريد إلكتروني، حتى يبقى الأمر سرًا، للحصول على تأشيرة (تأشيرة صالحة لمدة ثلاث سنوات إن أمكن)، تأشيرة لدراسة الابن في فرنسا، تأشيرة للعلاج لفائدة أحد الوالدين المسنين (الذين يعانون من مرض لا يمكن علاجه في الجزائر!) وما إلى ذلك من طلبات. لكن كل هذا يجب أن يظل سرًا، وبالطبع من الأفضل إصدار التأشيرات في القنصلية، في مكتب خاص بعيدًا عن الآخرين، وليس مع عامة المواطنين…”! هؤلاء الذين يعلنون عداءهم الجامح لفرنسا جهرًا، أصحاب هذه الملفات والعقارات، والإقامات الباريسية، يدركون أن إغضاب فرنسا أو عدم التسليم لإرادتها يفتح عليهم أبواب الجحيم، لا يستطيعون تحمله، من قبيل سحب منهم الإقامة ومنعهم من التأشيرة، وحرمانهم من العيش في جنتهم الباريسية.

السفير يصوّر المشهد وكأن فرنسا رهينة طيبتها، بين أيدي من يستغلونها، في حين الواقع يبين العكس تمامًا، ويكشف أن فرنسا لا تزال تملك الأدوات التي تُخضع بها أقطاب النظام في الجزائر، وتمتلك أساليب استعمالها، للحصول على ما تريده، عبر وكلائها “غير الرسميين”، مثل بعض المنابر الصحفية والعدالة “ذات السيادة” ثم الزعم التزامها مبدأ فصل السلطات وعدم تدخلها في عمل الصحافة والعدالة، في حين غالبًا ما يكون تحرك هذه الجهات بإشارات وتوقف برموت كنترول.

للأسف، في كل الحالات يبقى الشعب الجزائري الخاسر الأكبر، وضحية ظلم مزدوج، ضحية قمع قادة البلاد في الداخل من جهة، وتواطؤ القوى الأجنبية، التي تبتز قادته، ليس دفاعًا عن الشعب وانتصارًا له، وإنما للحصول على مزيد من المصالح مقابل غض الطرف على انتهاكاتها، ودفع النظام الجزائري إلى الرضوخ لإرادة ومصالح فرنسا وغيرها من القوى المؤثرة، في ملفات محددة، وما تصريح السفير الأسبق، إلا نموذج من هذا الابتزاز “غير الرسمي”.

د. رشيد زياني الشريف | المجلس الوطني لحركة رشاد