على مرّ عقود من “الجزائر المُستقلة”، بدل اخذ أسباب القوة والتمكين لتعزيز سيادة الشعب ورفاهيته، جعلتْ الزمر المُتغلبة المتعاقبة، من التشبث بالحكم المطلق أسمى أهدافها، وكرّست لذلك استراتيجية اختلاق “العدو”، سبيلا لتوطيد تحكمها وصد الأنظار عن احتكارها للسلطة، مقابل “حماية” الشعب من ذلك “العدو”، وما “اللقاء التأموري الثلاثي الأخير في تل أبيب بتنسيق المخابرات الفرنسية، لضرب 4 ولايات”، إلا بعبع آخر، لصد الأنظار عن واقع حقيقي بائس يتجرعه الشعب يوما بعد آخر.
منذ الانقلاب العسكري في 1962 ضد الحكومة المدنية، فرض جيش الحدود نفسه باعتباره الفاعل السياسي الوحيد في المجتمع، لتتحوّل الجزائر برمتها ملكاً حصريا للجيش، وتختفي بذلك الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الموعودة، منذ ذلك اليوم، ويتضح أمام الجميع أن الثقافة العسكرتية ليس أكثر من الوجه الآخر للثقافة الاستعمارية، من حيث قهر الشعب وازدرائه، مع سلب ثرواته وإرادته، ويثبن بما لا يد شكا، أن جزائر الجنرالات، أصبحت فعلا تهديدا حقيقيا على تماسك الشعب ووحدة أراضيه.
وفي سياق تحديد “هوية” العدو (وقود البقاء والتحكم)، وإعداد المبررات للقضاء عليه، كانت التهمة الجاهزة على الدوام، من النوع الثقيل “المساس بأمن الدولة” وتهديد “استقرار البلاد” و”الخيانة العظمى” و”العمالة للخارج”، وكل واحدة منها كافية للإلقاء بالعدو (الخصم غير القابل للانصهار والخضوع) في السجن (بوضياف، ايت احمد، حشاني…)، أو وضعهم تحت الإقامة الجبرية (الشيخ البشير الابراهيمي، عبد اللطيف سلطاني…)، أو دفعهم إلى المنفى (الدكتور مسيلي قبل قتله، الشيخ عباسي…)، دون الحديث عن اغتيالهم سواء داخل البلاد (شعباني، مدغري، قاصدي مرباح، حشاني…) أو خارجه (خيضر، كريم بلقاسم، الشيخ صحراوي…). لتوجيه مثل هذه التهم، لم تكن السلطة في حاجة إلى قرائن قانونية تثبتها بالأدلة الملموسة، بل تكتفي في ذلك بإطلاق منابرها الدعائية لنهش لحوم المغضوب عليهم ونعتهم بأشنع الصفات، مثل ما كانت تقوم به الصحف العتيقة في عهد الحزب الأوحد (المجاهد والشعب…)، أو ما قامت به لاحقا وحتى يومنا هذا، عشرات مثيلتها “المستقلة” (من صحف وقنوات فضائية) أو عن طريق تصريحات رسمية على غرار تصريح وزير الخارجية السابق (والحالي) الذي غمز في اتجاه قامات سياسية وطنية مثل مهري وعلي يحيى عبد لنور وايت احمد رحمهم الله، فقط لأنهم اجتمعوا من أجل التوّصل إلى حل ينقذ البلاد، فاعتبره معالي الوزير “مرفوضا جملة وتفصيلا”، مع ترك مهمة توجيه تهمة الخيانة العظمى لأبواق السلطة. الجديد اليوم أن هذه التهمة الغليظة اتخذت اسما مستحدثا، يناسب المرحلة، تهمة “الإرهاب”.
واليوم نشاهد كيف أن تعريف الإرهاب (العدو)، يتغير بحسب الظروف، وبحسب الفئة المستهدفة، والطرف المغضوب عليه، أي الجهة التي تستعصى على ثنائية العصا والجزرة. في التسعينات، كان “العدو” هو الإسلامي المتطرف، مُمَثلا في الفائز في الانتخابات، وسبب تصنيفه عدوا، هو رفضه عدم قبوله تولي دور الواجهة (المعتمدة من 62) لترك الحكم الفعلي لأصحاب الظل، فحَكم على نفسه “الاستئصال”، بمقتضى الوصفة السحرية التي تجيز القضاء عليه، (الإرهاب والتطرف الإسلامي)، لتنفير الناس من حول، وقطعه عن نسيج المجتمع بعد تشويه سمعته وانزاله إلى مرتبة البهيمية، لتبرير قتله وتقليل شأن إبادته، ومن هنا شاع مصطلح استئصال والاستئصاليين (مهمة تُركت للواجهة السياسية المجتمعية المدنية، مُمَثلة بالأساس في جماعة إنقاذ الجمهورية)، ثم تم توسيع نطاق العدو، ليشمل كل من يعارض الانقلاب، ويكفي لذلك أن يُصنف، بأنه مناصر أو مقرب أو متعاطف أو فقط لعدم تأييده الانقلاب العسكري.
لكن اليوم، تغيّر العدو، خاصة منذ حركة الشعب، في 22 فبراير 2019، بعد أن أثبت الحراك، للعالم قاطبة، في الداخل وخارج الوطن، مدى وعي الشعب الجزائري وفهمه لطبيعة الصراع وتشكيلة الحكم القائم، وتوجيه أصبعه إلى العدو الحقيقي، الاستبداد بالأساس. هذا الحراك حقق ما سعت العصابات إلى منعه طيلة عقود، لقد سمح بتفنيد الرواية الرسمية ونجح في توحيد صفوف فئات الشعب بكل توجهاتهم (التي كانت السلطة تزعم استحالته)، وبتحديد أولويتهم من خلال توحيد مطلبهم الجوهري، وتجاوز مرحليا كل ما من شأنه أن يدخلهم في حروب هامشية.
ما أوجع السلطة الحاكمة في هذه الحركة الاحتجاجية الشعبية العارمة، وأبطل مفعول سحرها الفتاك، أن مكونات الحراك لا تنتمي لطيف سياسي محدد، لكن مطلبها واحد، مطلب يندرج في سياق تاريخي هو جزء من تاريخ الكفاح التحريري: الشعب يريد الاستقلال، شعار رددته حناجر آلاف الحراكيين، وكان الشعب الوحيد في التاريخ المعاصر، الذي بعض خوضه حرب تحرير رهيبة واستعادة استقلاله، يطالب مرة أخرى بعد 60 سنة من ذلك، باستقلاله.
وعي الشعب الجزائري، أبطل حجة ومفعول الإرهاب الإسلامي الذي لطالما تم توظيفه لترهيب الشعب وإحكام قبضة السلطة على الجميع، هذه التهمة نسفها الحراك في شعاراته “ما كاين إسلامي، ما كاين علماني، كاين عصابة تسرق عيناني” وغيرها من الشعارات التي أجبرت السلطة إلى استحداث تعريف آخر، وعدو آخر، يشمل كل فئات المجتمع الرافضة لهيمنتها، فاهتدت إلى سن المادة 87 مكرر، فأصبحت تهمة الإرهاب تُلصق بكل عمل تغييري يتم خارج أطر المؤسسات، أي إلصاق التهمة بأي عمل ليس من تنظيم وتحكم …العصابة، وقد تجسد ذلك على أرض الواقع، من خلال اعتقال شخصيات متمايزة، يجمع بينها، مطلب التغيير ودولة القانون. لم يعُد سجناء الرأي منذ فبراير 2019 من لون سياسي أوحد، بل ينتمون إلى الجسم الاجتماعي بأكمله ويحملون مطلبًا واحدًا: التغيير السلمي الجذري. هذا المتغيّر أفقد السلطة توازنها.
لكن دعونا نُسَلم جدلا بالتعريف المعتمد من قبل السلطة في صياغتها تهمة الإرهاب، ونحاول “إنزاله” على من هو اليوم في أعلى قمة الدولة، اقصد الرئاسة، لنرى، ما إذا كانت بنود هذا التعريف تنطبق على تبون، بما أن “الجزائر الجديدة”، دولة القانون، والقانون يُطبق على الجميع دون تمييز؟
دعونا نسأل إذن ألم يأتي تبون في إطار “تغيير” خارج إطار الدستور؟ طبعا لا أقصد تزوير الانتخابات فحسب، ومقاطعة قياسية من المواطنين لتلك الانتخابات، ما أقصده هو أن الرئيس تنطبق عليه المادة 87 مكرر بحذافيرها.
دعونا نذكر بالنقط التالية، حتى نوّضح الصورة الكاملة.
– ألم يخرج الشعب في 22 فبراير 2019 في مسيرات عارمة، علما أن الخروج في الشارع كانت تعتبره السلطة منذ 30 سنة ممنوعا قانونا وخارج الدستور؟
– ألم تكن تلك الاحتجاجات (المحظورة قانونا) هي التي ألغت العهدة الخامسة لبوتفليقة، التي كان كافة الساسة، وعلى رأسهم تبون، يتهيؤون لتمريرها، وفرضها عل الشعب؟ ألم يكن إسقاط بوتفليقة، انقلابا على الدستور وعملا خارج القانون؟
– ألم يُجهض الشعب في احتجاجاته المستمرة (غير القانونية بموجب قانون السلطة) الموْعدين الانتخابيين، من خلال رفع صوته “لا انتخابات مع العصابات”؟
– الم يكن كل ذلك “غير دستوري وخارج إطار مؤسسات الدولة”، كما تنص عيه المادة 87 مكرر؟
– رغم ذلك، ألم يبارك قائد لأركان قايد صالح، الحاكم الفعلي آنذاك تلك المسيرات (غير الدستورية والمنتهكة للقانون) ووصفها بالحراك المبارك “الذي أنقذ البلد من حكم العصابات”، على حد تعبيره؟
– ألم يُنتخب تبون بناء على ما انتجه الحراك، بعد تعيينه من قبل قايد صالح؟
– ألم يكن هذا الانتخاب/ التعيين (تبون)، خارج المؤسسات (التي كانت مع العهدة الخامس والعصابات لتي تم الزج بنصفها في السجن، ليستقر الحكم في يد النصف الآخر؟ (ألقي بسلال وأويحيى في السجن، واعتلى تبون كرسي المرادية.)
– ألا يحق إذن تطبيق المادة 87 مكرر على تبون، الذي استوفى كافة نقط وبنود، المادة 87 مكرر، وانتخب في ظل هذه الحركة الشعبية؟
لماذا إذن يلقى بموجب هذه المادة، بعشرات أبناء وبنات الحراك في السجن، في حين يتربع تبون/ شنقريحة، في المرادية/”الطغاران”؟
د. رشيد زياني شريف، عضو المجلس الوطني لحركة رشاد