مقالات

مقتل نائل، فرع من شجرة القمع البوليسي التي تغطي غابة الأبارتايد

أولا اغتيال نائل، ابن 17 سنة من العمر، ليس سابقة في هذه الممارسة القاتلة، الكثير مثله وفي سنه قضوا بنفس الشكل وربما بطريقة أكثر بشاعة، دون أن يصل أنين أنفاسهم الأخيرة إلى سماع ومشهد أحد، ودون أن تنتشر صورهم الفاجعة على شاشات الإعلام وغيرها من وسائل الإعلام المملوكة في معظمها لذات الجهات التي أوعزت إطلاق الرصاص. في تلك الحالات التي لم يسمع عنها إلا القليل من الناس، طغت رواية الشرطي القاتل، وأخمدت قصة المقتول. وهل كنا ننتظر غير ذلك، وهل يُعقل أن تصمد شهادة الضحية أو أي شاهد آخر على الجريمة أمام محضر مُطلِق الرصاص، حامي أمن الجمهورية ومؤسساتها وقوانينها؟ وماذا عن القضاء ووسائل الإعلام؟ طبعا رواية رجل الأمن هي المعتمدة، ابتداءً وانتهاءً، أما الضحية، فدائمًا وطبيعيًا، هو المذنب، المتهم، ومن ثم لا يستحق أيّ تعاطف ولا حتى ذكره بصفته ضحية. وكما هو مُنتظر، ففي كل حالة مماثلة، تُسرِع نقابات الشرطة وإدارتهم لتعزيز رواية “عنصرها” وتقدّم له المساندة التامة، مع التذكير بخطورة عمله في وجه همجية وبربرية “قاطني الضواحي”. ولا تتغيّر هذه الروايات الرسمية الأمنية، حتى لمّا توجد شهادات موثّقة تفنّد مزاعم رواية البوليس، لكن ما عسى شهادات “مواطنين من درجة أدنى” أن تفعل أمام “المؤسسات الراسخة”؟ أمّا وسائل الإعلام المرئية الثقيلة، فمعظمها تتبنّى الرواية الرسمية تلقائيًا، غير عابئة بما تخلّفه من حالة احتقان وغضب وتزرعه من بذور ثورة بين فئات من الفرنسيين المهمّشين المحتقرَين والمدانين قبل أيّ محاكمة، ذنبهم الذي لا يغتفر، أنهم يحملون أسماءً مختلفة ولون بشرتهم “مزركشة”، وطريقة تحدّثهم “بدائية” كافية لتأكيد جريمتهم، ومثال على ذلك ما زعمته بعض هذه الوسائل الإعلامية، حول السجل القضائي للضحية، بعد ساعات قليلة من الجريمة، أنه صاحب سوابق عدلية، الأمر الذي فنّده محاميه، معربًا عن عزمه ملاحقة قضائيًا هذه المنابر على تشويه صورة الضحية ونشر الأكاذيب. وممّا يرسّخ هذا الميل للاحتقار والغطرسة، ففي الوقت الذي كانت الأم يحترق قلبها على فقدان فلذة كبدها، أُعلِن عن فتح التبرّع لصالح أسرة الشرطي القاتل، في عملية استفزازية غير مسبوقة، تُذكي نيران الفتنة المشتعلة. كلّ هذه الاستفزازات تبيّن خطورة المنحى الذي تسير عليه فرنسا، أو بشكل أدق الاسطبلشمنت الحاكم، بدعامتيه الأساسيتين: الإعلام وأجهزة الأمن.

قضية نائل لم تكن هي الأولى، لكن ما جعلها تأخذ هذا الحجم، وتتفاعل بهذه السرعة، أنها حدثت في عصر رقمي، حيث يمكن الآن لكل واقعة، أن تنتشر بسرعة الضوء، على الوسائل البديلة، التي رفعت الحصار الإعلامي الرسمي المفروض على الصوت الصورة، التي كانت محتكرة لدى الوسائل التقليدية، لتمرير روايتها حصرًا، وتفتح شاشاتها وصُحُفها، فقط لمن ترضى عنه ويقدّم “السكربت” المعدّ سلفًا؛ هذه المنابر كانت تتكتّم على عشرات الأحداث المماثلة، وجعلت من الصعب معرفة الحقيقة حولها، حتى جاءت كاميرات الهواتف، بين أيدي المواطنين البسطاء، لِتكشف زيف وتدليس روايات الشرطة والإعلام، وتضعها في حرج، فسقطت منظومة التدليس الرسمي المنهجي وكشفت هذه المرة حقيقة القتل العمدي، لأنّ “الصيد” من منظور مُطلِق الرصاص، يدخل في مجموعة “المباح” (عربي، أفريقي، مسلم) أي باختصار الذين “مكانهم الطبيعي” إما السجون أو القبور. إن الوضع خطير ولا يمكن أن يستمر في هذا الاتجاه، وما فتئ يدق العقلاء داخل المجتمع الفرنسي ناقوس الخطر، ويحذرون من مغبة الاستمرار في هذه الممارسات، ويلحّون على معالجة هذه المشاكلة معالجة هادئة عميقة وليست أمنية فحسب، لكن، كل نداءاتهم ظلت صيحة في واد، حتى جاءت واقعة قتل نائل، وما أعقبها من أحداث، ولم يعُد الأمر يتحمل الانتظار، فلا مناص من حلّ عقلاني شامل، تعود فوائده على فرنسا بلدًا وشعبًا، دون تمييز أو إقصاء. وحان الوقت للاتعاظ بهذه الفاجعة واتخاذ التدابير التي تبدّد الريبة والخوف وتوقف تشرذم المجتمع يومًا بعد آخر.

لماذا وصلت فرنسا إلى هذا المستوى من الاحتقان والاستقطاب؟

– الصورة التي كشفتها فاجعة قتل نائل تُبيّن أن المشكلة في فرنسا ذات ثلاثة مستويات: أوّلًا، عدم هيكلة الفرنسيين المسلمين أنفسهم، لتشكيل فئة متجانسة، تدافع عن حقوقها بالقانون. المواطنون من أصول عربية أفريقية إسلامية، في معظمهم غير منتظمين، مما يُعرضهم لشتى أنواع التمييز والتهميش. وإذا كان من الممكن تفهّم الأمر بالنسبة لأجدادهم لأسباب تاريخية، وقد أتوا إلى فرنسا مهاجرين، بحثًا عن لقمة العيش وفي حالة من الأمية التي حالت دون انسجامهم في المجتمع وعاشوا معزولين عنه، وغير مدركين لآليات المؤسسات والقوانين السارية، فالتفهم يكون أقل بالنسبة لآبائهم، وغير مبرّر بتاتًا بالنسبة للأحفاد بعد ثلاثة أجيال من العيش في المجتمع الفرنسي وكونهم جزءًا لا يتجزأ منه، وقد درسوا في مدارسه وكلياته ومعاهده، ويتمتعون بالحق في الانتخاب واختيار ممثليهم، ولهم كلّ الوسائل والأدوات التي تجعلهم في وضع أحسن للانسجام الفعّال دون تنكّر لأصولهم وقِيمَهم، ودون العيش منعزلين عن غيرهم من مكوّنات المجتمع الفرنسي. للأسف بقاء الوضع على حاله، جعلهم لقمة صائغة وعرضة للاستغلال من قِبَل بعض الجهات السياسية المتطرّفة التي تسعى إلى شيطنتهم خدمة لأجنداتها الخاصة. فبعد أن كان الضحية هو نائل، ومن ورائه الشباب المهمّش، أصبحوا هم الجناة البرابرة، في أعقاب أعمال التخريب والنهب والحرق، مما عزّز الصورة التي تتوق إليها الأطراف العنصرية المتربصة، وتستثمرها لرسم صورة المسلم/العربي/الأفريقي الهمجي؛ المستوى الثاني، السلطة وأجهزتها المختلفة، من أمن وقضاء وإدارة وإعلام، وفضاء العمل، من خلال تهميشها هذه الفئة من المواطنين، والتعامل معهم كمتهمين ابتداءً أو منبوذين، وتنظر إليهم بهذه الصفة، من خلال ملامحهم وأسمائهم وملابسهم، أو بالنظر إلى الأحياء السكنية التي يقطنونها، بما يعمق عزلتهم ويزيد من شعورهم بالإقصاء ومن ثمّ الدفع بهم دفعًا نحو تصرفات غير محمودة؛ وعلى مستوى ثالث، المحرضين عليهم من بعض الجهات السياسية أو الإعلامية أو الثقافية، العنصرية أو النخبوية، التي تتّهمهم مباشرة، عند وقوع أيّ حادثة، وتعتبرهم دخلاء، رغم ولادتهم في فرنسا عبر جيلين أو ثلاثة، ورفض دمجهم في المجتمع، وترى أنّ المعاملة الوحيدة المناسبة إزاءهم هي المعاملة الأمنية البوليسية بل وترحيلهم، لتفادي ما تسميه “الاستبدال الكبير” ( Le Grand remplacement) بحجّة عدم قابلية انسجاهم في المجتمع الفرنسي، مع إلقاء اللوم عليهم في كل ما تواجهه فرنسا من انتكاسات، سواءً اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية؛

– لا نفشي سرًا إذا قلنا إن هناك توجّه معتمد ومستمر، يسعى إلى تركيز الاهتمام وتسليط الأضواء على الفئات أو الأفراد المتطرّفين داخل سكان الضواحي، وتضخيم حجمهم وتأثيرهم، مع تجاهل منهجي وغير بريء للغالبية المسالمة التي تعيش حياتها بشكل طبيعي وتنسجم مع مجتمعها في احترام القانون، دون تخلّي أو تنكّر لخصوصيتها. ولا ينكر أحد أنّ الغالبية منهم من المتعلمين والمثقفين، والمتفتحين على غيرهم والمتفهمين لاختلافاتهم، يمارسون شعائر دينهم ومعتقدتهم بهدوء بعيدًا عن كل عنف أو استفزاز؛

– لا بدّ من التذكير أنّ المسلمين في فرنسا أو غيرها من بلدان العالم متنوّعون، كغيرهم من البشر، فلا يُعقل وضعهم جميعًا في سلّة واحدة وأخذهم بجريرة عدد قليل منهم، فقبولهم واحترام اختلافاتهم داخل هذه المجتمعات يشكّل جزءًا من الحلّ وعاملًا حاسمًا في تماسك المجتمع وتفادي تشققاته، بدلًا من شيطنتهم؛

– هذا التوجّه لا ينحصر في فرنسا، بل ينطبق أيضًا على الدول المسلمة، حيث يوجد التطرّف، مثل إندونيسيا، لكن نظرًا لميول غالبية المجتمع هناك نحو إسلام التعاطف، غير الإقصائي، في إطار مجتمع ديمقراطي، فقد ساهم ذلك إلى حد كبير في تهميش الفئة المتطرّفة الضيّقة وجعل مفعولها يتلاشى تلقائيًا وتدريجيًا، دون مصادمة أو الدفع نحو حرب مفتوحة أو نشر الكراهية والأحقاد؛

– الاعتماد على توجّه الغالبية وتنميته، لا يعني عدم أخذ في الاعتبار المتطرّفين، وعدم التصدّي لهم بترسانة قانونية مناسبة، لكن، التركيز المفرط عليهم وتضخيم حجمهم وآثارهم مثلما هو الحال في فرنسا أو بعض الدول الأوروبية الأخرى، يؤتي ردودًا وآثارًا معاكسة، ويُعقِّد المشكلة، خاصة عندما تتدخّل أطراف توظّف هذا الوجه العنيف المتطرّف، لتؤكّد على صحة توجّهها؛

– عين الحكمة والعقلانية والفاعلية إذن تقضي بإيلاء الاهتمام للمسلمين العاديين أي الأغلبية منهم، حتى وإن كان ذلك لا يخدم أجندة بعض الأطراف التي تبحث عن الصورة الصادمة الخارقة، لتعزيز روايتها، فهؤلاء المسلمون العاديون المسالمون، عندما يشعرون أنهم محلّ اهتمام وعناية واحترام من طرف الدولة حيث يقيمون ومؤسساتها وأجهزتها، فلا شك أنهم يشكّلون الحصن المنيع في وجه التطرّف والمتطرفين، دون صدام؛

– إنّ وحدة الصف والشعب في أيّ بلد من البلدان، لا تضيق بتنوّع المجتمع ولا تعني محو الفوارق، ووضع المواطنين في قالب واحد، فالمشكلة التي تقع فيها السلطات الفرنسية أنها تفرض نظرة أمنية بحتة لإسلام مواطنيها، تسميه تارة إسلام فرنسا، وتارة أخرى إسلام الجمهورية، تسيّره أمنيًا دون غيره من ديانات البلاد، من قِبَل وزارتها للداخلية، وتنظر إلى كل المسلمين نظرة ريب، نظرة من يجب مراقبتهم والتحذير منهم وليس باعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من المجتمع على غرار المكوّنات الأخرى، سواءً العرقية أو الدينية أو الثقافية؛

– بدل محاصرة المواطن الفرنسي العربي، الأفريقي، المسلم، وعزله واتهامه ابتداءً، من الحكة والعقلانية، قبوله بصفته تلك، والاستفادة من ثراء منظومته الثقافية المتنوّعة الدينية، وبدل اعتماد إزائه السياسة القديمة “فرّق تسد”، فالحلّ يكمن في لمّ شمل الجميع لكي يعيش المجتمع الفرنسي ككلّ، في احترام ووئام، وعندئذ، لا تستفيد هذه الفئات من المواطنين وحدها من هذا الجو الرحب، بل سيستفيد المجتمع برمته من تحرّرهم من القيود والإكراهات التي وجدوا أنفسهم رهينة لها على مرّ عقود وسببّت هذا المناخ من الاحتقان، المنذر بحرب أهلية في فرنسا ذاتها.

لا يُعقل في دولة تدّعي الحريات والتنوّع، أن يُفرض على فئة من مواطنيها نمط محدّد من العيش والقِيَم والعادات وحتى تحديد الملابس المقبولة والأخرى الممنوعة عليهم، إن هذه التصرّفات ليست من صلاحية السلطة، أيًا كانت، لأنها تدخّل في إطار الشأن الفردي المجتمعي، بل هي تصرفات صبيانية تشلّ وضع مجتمع بكامله وتتركه مجمدًا في مرحلة الطفولة العاجزة، وتعيق تطوّره وازدهاره، وتدفع به في نهاية المطاف، كما شهدناه في العديد من الحالات، وآخرها في أعقاب قتل نائل، نحو انتفاضة قد تتفاقم بشكل لا يمكن التحكّم فيه، ومصير لا يحمد عقباه. الإصرار على هذا النهج، لا يجعل من الدولة عنصرية إقصائية فحسب، بل فاشلة في أداء مهامها، ويعزز شعور المحاصرين، بالاغتراب، لأنهم فضلًا عن حرمانهم من حريتهم في اختيار طريقة عيشهم، يُفرض عليهم حتى من يتحدّث باسمهم، وضد مصالحهم، ويُعيّن لهم المثقفون الذين يفكّرون نيابة عنهم والأئمة الذين يفتون لهم، بإيعاز من نفس الوزارة التي تكوّن الشرطة لتعنيفهم و…قتلهم.

د. رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد