مقالات

“أيّ ديمقراطية للجزائر؟” | الديمقراطية بين بعديها الفلسفي والإجرائي

د. رشيد زياني شريف*

في الجزء الثاني من هذا المقال “أيّ ديمقراطية للجزائر؟” المُتضمّن في محاضرة الأستاذ عباس عروة يوم 18 مارس 2023 في باريس، أوْضَح المحاضر أنّ مشكلة المجتمعات التي تبحث على الديموقراطية، والعائق الذي يحول دون تحقيق هدفها، يكمن في كون مكوّناتها تعيش منعزلة، كأنها في علب منفصلة لا يمكنها التواصل مع بعضها البعض أو تبادل الرأي، وهذا الوضع بطبيعة الحال، تغذيه وتنفخ فيه السلطات الحاكمة التي تبذل قصارى جهدها لإبقائها مشتتة، لا تعرف بعضها بل والأخطر من ذلك، تناصب بعضها البعض العداء، دون حتى أن تلتقي وتسمع من بعضها البعض مباشرة.

هل التناغم بين الديموقراطية وقيّم المجتمعات المتنوعة ممكنٌ، أم يتعرضان مع بعضهما البعض؟

هذه مسألة شائكة وكثيرًا ما يدور حولها لغط واسع، سواء كحيلة من حيل الأنظمة المستبدة التي لا يمكنها قبول سيادة الشعوب وخيارتها، وتأجيجها لإشغال الشعوب عن جوهر الديمقراطية، أو جهلا من الناس بمضامينها. بادئ ذي بدء، مُخطئٌ من يعتقد أنّ الديمقراطية حيادية ثقافيًا وقيميًا، لأنّ كل مجموعة من المواطنين تسعى إلى بناء نظام ديموقراطي، لها جذور راسخة عميقة تنهل من منظومة قيمِهِ مشتركة بين فئات مجتمعها، وعليها تبني نظامها الديمقراطي، المتجانس مع قِيَمها بل والمناسب لبلورتها. الديمقراطية لا تقوم على نفسها ولا تنشأ من فراغ قِيَمي، بل تعكس نظام من القِيَم المشتركة التي تشكّل الاسمنت الذي يجمع ويربط مكوّنات المجتمع ويعزّز تماسكه ويساعد على تعزيز هذه القيم المشتركة.

(بعض) تعاريف الديموقراطية

الديمقراطية أولًا وأساسًا، مفهومٌ كغيره من المفاهيم، نابع من ضرورات وتجارب الإنسانية، لتُحَقق طموحاتهم وتستجيب لما تصبو إليه.

الديموقراطية مثلها مثل المصطلحات الأخرى، تتّخذ معاني مختلفة بحسب المجتمعات التي تتبناها، وليست مجرّد نياشين يتوشح بها المرء، وينسبها لنفسه حصرًا وفخرًا، دون ممارستها على أرض الواقع، أو يحتكرها لنفسه ويجعلها “ماركة” خاصة به، بل يوّظفها ليقصي غيره، ويحاربه، بحجة عدم “أهليته” للديمقراطية؛ فهذا الفهم الحصري المشوّه يؤثر على ممارسة الديمقراطية ذاتها، لأنّ عدم قبول الآخر، ورفض الإنصات إليه ومحاولة فهم كيف ينظر هو إلى سبل معالجة مشاكل المجتمع، يُقَسّم المجتمع ويعمّق حالة التشرذم والتنافر، مما يُعزز استراتيجية السلطة التي لم تدّخر يومًا جهدًا في تعزيز الانزواء وتضخمه لمنع أي تقارب وتبادل بين فئات المجتمع.

لا يمكن (وليس من أهداف هذا المقال أصلا) حصر كل تعاريف الديمقراطية، نكتفي بإلقاء بعض الأضواء حول المصطلح، والإشارة كما يُنبِّه إليه المحاضر، أنّ الديمقراطية ليست حيادية أو منقطعة عن أي منظومة قِيَمية حضارية. كلُ أمة تتبنّى الديمقراطية، انطلاقًا من سياقها التاريخي الحضاري ووفق الأهداف التي تصبو إليها لتحقيق ازدهارها ونهضتها. في بعدها الفلسفي، الديمقراطية تمنح المجتمعات سيادتها والسلطة العليا للشعوب، وهي من هذه الزاوية تُعتبر شكلًا من أشكال العقائد أو الرؤى للعالم، أو حتى نمط حياة، أما من الناحية الإجرائية، فتُعتبر أداة تضمن للشعوب خيار ممثليها، أو ما يمكن اختصاره في عملية “الانتخاب”، إلى جانب المنظور الفلسفي والإجرائي، هناك مجموعة لا تعد ولا تحصى من التعاريف، منها على سبيل المثال، رؤية تشرشل الذي يعتبرها “الأقلّ سوءًا بين النُظم السياسية المتاحة”، أو مَن يعتبرها “مسار يسمح بتسوية الخلافات وسط مجتمعٍ متعدّد ومتنوّع المشارب”؛ في الحقيقة، كلّ مجتمع يعطي للديمقراطية معنى خاص به، بحسب تطلّعاته وأهدافه وما يعاني منه، وبما أنّ لكل مجتمع معوّقاته الخاصة به وطموحاته المُحدّدة، فالديموقراطية بالنسبة إليه وسيلة للتغلّب على هذه العراقيل وتحقيق هذه الطموحات، فما يطمح إليه الصيني في انتفاضته على الحكم المركزي ليس هو ما يتوق إليه اليمني أو الإيراني أو …الجزائري.

من التعاريف الجامعة، نذكر تعريف المفوضية السامية لحقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة (HCDH-ONU) في تحديد العناصر الأساسية للديموقراطية:

– الحفاظ على كرامة الفرد وحقوقه الأساسية وتعزيزها؛

– تحقيق العدالة الاجتماعية؛

– تشجيع التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع؛

– تعزيز تماسك المجتمع؛

– توطيد الأمان الوطني؛

– إرساء مناخ مؤات للسلام الدولي.

أما لجنة حقوق الإنسان للأمم المتحدة، التي أصبحت تحمل اسم مجلس حقوق الانسان للأمم المتحدة (CdH ONU)، فتلخّص العناصر الأساسية للديمقراطية في الآتي:

– احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الرأي والتعبير وحرية تكوين الجمعيات؛

– إمكانية الحصول على السلطة وممارستها بمقتضى سيادة القانون؛

– عقد انتخابات دورية حرة وعادلة بالاقتراع العام وبالتصويت السري كوسيلة للتعبير عن إرادة الشعب؛

– وجود نظام تعددية الأحزاب والمنظمات السياسية؛

– فصل السلطات؛

– استقلال القضاء؛

– الشفافية والمساءلة في الإدارة العامة؛

– حرية وسائط الإعلام واستقلالها وتعددها.

ومن باب التذكير فكلا التعرفين تتبناهما رشاد دون تحفظ.

*رشيد زياني شريف عضو مجلس حركة رشاد