مقالات

مشهد 1960-2019 “ابق قويًا، فقصتك لم تنته بعدُ”

قلم د. رشيد زياني شريف*

“اليأس ليس حلًا، بل وسيلة إحباط… ابق قويًا، فقصتك لم تنته بعدُ”، كان هذا جزءًا من آخر منشور للفقيد فيصل دريد، وكأنه يذكّرنا بقناعة الرعيل الأول من مجاهدي حرب التحرير، التي جسّدوها في أنفسهم وساروا عليها إلى آخر لحظة من حياتهم، دون تردّد أو شكّ أو نكوص، وأبقوْها لنا لتكون شعارًا وسبيلًا يتعظ به جيل الاستقلال، وبعده جيل الحراك ليواصل معركتهم من أجل استكمال مشروع التحرير وإقامة الجزائر ذات السيادة والكرامة في ظل دولة الحق والعدل.

قد يسأل سائل، ما وجه أو مناسبة المقارنة بين 57-60 و2019 إلى اليوم؟ ولماذا الربط بينها وبين صرخة الفقيد فيصل دريد؟

بات واضحًا، منذ أواخر الخمسينات وبداية الستينات (57 -60 تحديدًا)، أنّ قوى المجاهدين في الجبال والمدن قد وهنت وكادت تندثر بالنظر إلى السيطرة شبه المطلقة لجيش الاستعمار، الذي باشر استعداداته للاحتفال بالقضاء المبرم على بؤر المقاومة والقبض على ما تبقّى من المجاهدين. انتشرت بذور اليأس في نفوس غالبية الشعب، مِن أنّ المعركة حُسمت للقوى الاستعمارية التي تفوق بكثير المجاهدين عددًا وعدّة، غير أنّ مشاعر اليأس لم تنل من نفوس ثلة من الجزائريين الذين أخذوا على عاتقهم مواصلة الكفاح، فداءً لبلدهم مهما كلّفهم الأمر.

هذه المقارنة بين الحقبتين، تطرّق إليها محمود سنادجي في مقالة (24 ديسمبر 2022) على موقع ألجيريا ووتش، تحت عنوان “60 سنة بركات” اقتبس منها أبرز ما جاء فيها بعد ترجمتها وبشيء من التصرّف.

بعد ثلاث سنوات من معركة الجزائر، اقتنع النظام الاستعماري الإمبراطوري بأنه سيّد الميدان، وغلوّ الطغيان جعله يتجاهل أنّ شعلة المقاومة ولهيب الغضب لا ينطفئ أبدًا في قلب شعب تجرّع علقم الإذلال والهوان، شعب يتوق إلى العيش حرًا ويسعى إلى افتكاك استقلاله، شعب نهض ليكسر قيود الخوف، هاتفًا… الاستقلال.

هذا الوضع عبّر عنه أحد العسكريين الفرنسيين لصحيفة لوموند قائلًا: “جاءت انتفاضة الشعب الجزائري (1960) لتهزّ يقين المستعمر الذي اعتقد أنّ المعارضة السياسية العسكرية قد تمّ سحقها، وأنّ الشعب الجزائري الآن تحت السيطرة والخضوع التام للمستعمر. وجاءت هذه الانتفاضة بمثابة صدمة نفسية للمستعمر: لا توجد قوّة مهما كانت، باستطاعتها إخضاع شعب يريد استقلاله. لقد فسح الانتصار العسكري للمستعمر الطريق أمام الانتصار السياسي للشعب الجزائري”.

عندما نادى الشعب الجزائر “لا لجزائر فرنسية”، فقد وضع حدًا بينه وبين المستعمر الفرنسي، ووقّع بشعاره هذا، أنّ هناك شعبين متميزين على أرض الجزائر، المستعمِر والمستعمَر، واليوم بندائه “دولة مدنية ماشي عسكرية”، يعبّر الشعب مرة أخرى، عن الشرخ بين الطغمة العسكرية من جهة والشعب الجزائري من الجهة الأخرى، ويعبّر في نفس الوقت عن رفضه لعسكرة الدولة.

ومثلما كان بالأمس من المستحيل أن يعيش شعبان تحت سقف واحد، خاصة عندما يكون الطرف المتسلّط هو أقلية غريبة عن تاريخ هذا البلد، تُمعِن في الشعب قمعًا وإذلالًا وترهيبًا، نرى اليوم المشهد يتكرّر، بحيث تتصرّف أقلّية مهيمنة (الطغمة الحاكمة) مع الشعب بنفس الاستعلاء والاحتقار، وما يزيد هذه الممارسة بشاعة أنها تتمّ تحت رداء “الجيش الشعبي سليل جيش التحرير”.

في 1960 هتف أهل القصبة، مهد الوطنية والمقاومة، “تحيا الجزائر”، “تحيا الاستقلال”، وبعد عقود من الزمن، في 4 يوليو 2019، ارتفع صوت أبنائهم وأحفادهم من جديد يردّدون في شوارع الجزائر العاصمة “الشعب يريد الاستقلال”. وكأنّ الحاضر يحاكي الماضي، كما لو أنّ شيئا لم يتغيّر بالنسبة للشعب. لا تزال الذهنية الاستعمارية سائدة، عَصَبها الحُقْرة (الاحتقار والازدراء). لقد تغيّرت ملامح مستوطن البارحة، لكن هوية الضحية ظلّت على حالها (ابن الشعب دائمًا). المستوطنون الجدد لا يحبون الجزائري (الإنسان) ولا الجزائر (البلد)، يزرعون بذور الخراب واليأس حيثما حلّوا وارتحلوا، يخيّرون أبناء الشعب بين الموت فقرًا أو انتحارًا على أرض الوطن، أو الموت في البحر، وإن كانوا من المحظوظين، ينتهي بهم المطاف مشرّدين في مدن أوروبا أو سجونها، بعد أن سُدّت أمامهم كل أبواب الأمل وقُتلت في نفوسهم الأحلام التي نسجها خيالهم. لقد حلّ محلّ قِيَم المجاهد (الزهد والتقاسم والكرم والتضحية) رواسب ثقافة جديدة، ثقافة العسكر، التي شوّهت الجزائر شعبًا ووطنًا.

شهد أبناء العاصمة ذات صباح شعارًا كُتب ليلًا على الجدران “algiri piyé fotu”، يختصر مأساة الجزائر، كُتب بكلمات فرنسية منكوبة، وكأنها تئن تحت وطأة بلد ينزف دمًا، “بلد ينجرف نحو التلاشي”، شعارٌ يذكّرنا بشعار مماثل كُتب في باريس، “هنا نُغرق الجزائريين”، تخليدًا لمجازر 17 أكتوبر 1961، وكأنّ الجدران أصبحت المكان الوحيد في جزائر 2022 الذي يمكنه أن يؤوي الحقيقة، ويستقبل صرخات الشعب، بعدما تحوّلت كلّ الأماكن الأخرى، من مجالس “منتخبة”، ووسائل إعلامية، وأحزاب سياسية، إلى ملحقات للثكنات العسكرية، لإنتاج الكذب والدعاية والمناورات.

بالنسبة لأبناء الشعب الجزائري المسحوقين، فالأمس لا يزال مستمرًا إلى اليوم. خلال فترة الاستعمار كان هناك جزائريان يواجهان بعضهما البعض (جزائر المستوطنين وجزائر السكان الأصليين)، أمّا في جزائر اليوم، فلا زال لدينا جزائريان (جزائر الجنرالات وجزائر الشعب). بين عامي 1960 و1961، كانت الأجهزة الأمنية تطارد “العرب” (la chasse à l’Arabe) في الجزائر العاصمة وباريس، أمّا في جزائر اليوم فتطارد المناضلين الجزائريين في الجزائر وخارجها. إنّ جزائر الجنرالات بنخبها صاحبة الامتيازات وقواتها القمعية لا تمثّل سوى أقلية، تمامًا مثلما كان الحال إبّان جزائر المستوطنين الفرنسيين.

في الماضي كانت لدينا المدينة الأوروبية والمدينة العربية (أحياء الصفيح المخصّصة لغالبية الجزائريين)، واليوم لدينا جزائر نادي الصنوبر والجزائر الحقيقية (جزائر الظل أو الذل بالأحرى) التي يسكنها باقي المواطنين. تفصل بين الجزائرَين حدودٌ وجودية وسياسية واقتصادية. كانت لدينا الثقافة الاستعمارية، واليوم لدينا الثقافة العسكرية، والمشترك بينهما ازدراؤهما التام للشعب وللنفس البشرية.

إذا كانت جزائر الجنرالات هي بحق وريثة جزائر حقبة الاستعمار، فإنّ جزائر الشعب هي وريثة روح المقاومة. وهذه المقاومة لها جذورها العميقة في تاريخنا، وهذه الروح لا تزال موجودة أبدية، تنبض بالحياة، نشأت في عام 1960، وانبعثت من جديد في 2019.

في 2011، في أعقاب الثورات العربية، صدر تقرير عن يورونيوز بعنوان: “هل الجزائر مستعدة لبدء ثورتها الخاصة بها؟” والجواب أنّ مثل هذا السؤال ليس واردًا بالمرة، لأنّ هذه الثورة السلمية الحضارية تفرض نفسها كحتمية من أجل التحرّر. فالخيار الوحيد المتبقي لنا لكي تستعيد جزائر الشعب سيادتها هو الخيار الثوري الذي انطلق في فبراير 2019. لقد انبعثت روح “تحيا الجزائر” في 2019، شعلة تحرّرية تنمو في نفوسنا. روح تنبض بالحياة.كنّا أجسادًا منعزلة متناثرة بلا روابط حقيقية وأدنى أفق، وها نحن قد صرنا من جديد كما كنا في عام 1960، جسم موّحد، وأفق واحد. لا مكان اليوم للتنازع، حان الوقت للعمل الذي عرَّفه الحراك الثوري: السلمية كسلاح ثوري، وعلى خطى 1960 التي باغتت المستعمر وأفسدت عليه انتصاره المسلّح. أو كما قال فيصل دريد رحمه الله “ابق قويًا، فقصتك لم تنته بعدُ”.

د. رشيد زياني شريف* عضو المجلس الوطني لحركة رشاد