مقالات

أيّ ديموقراطية للجزائر (الجزء الثالث)

بقلم الدكتور رشيد زياني الشريف*

مؤشر نجاح النظام الديمقراطي

لقياس نجاح (أو فشل) أيّ مشروع أو عمل أو نظام تسيير، لا بد من توفّر عدد من المؤشرات. بالنسبة للنظام الديمقراطي، ليتسنى لنا الحكم بنجاحه، فلا بد أن يتحقق في العمل السياسي داخل هذا النظام، مبدأ المواطنة الحقيقية، والمساواة بين المواطنين أمام القانون، بعيدًا عن أيّ اعتبارات أخرى من قبيل الانتماء العرقي أو اللغوي أو الجهوي أو الديني أو الأيديولوجي؛ ومن هذا المنطلق، فأيّ مشروع يسعى إلى إقامة نظام ديمقراطي، عليه أن يضع تحقيق مبدأ المواطنة في قلب هذا النظام.

ومن شروط نجاح الديموقراطية في مجتمع متعدّد ومتنوّع، أن تقتنع كل مكوّنات المجتمع بحتمية العمل المشترك لبناء مجتمع متماسك في إطار دولة العدل والقانون والحكم الراشد، مع احترام تنوّعها واختلافاتها، ودون أن يُجبَر أيّ طرف من الأطراف على التخلّي عن قناعاته ومرجعيته، لأنّ تنوّعها لا يحول بأيّ حال من الأحول دون تحقيق الهدف المشترك، القائم على أرضية التوافق في الأمور الأساسية، كإقامة دول الحق والقانون والعدل والتناوب السلمي على السلطة واحترام الحريات الفردية والجماعية… من خلال بناء فضاء عمل مشترك، تعمل فيه مختلف الفئات، بما يتماشى مع مرجعية كلّ طرف، وبحيث يجد كلّ طرف في قناعاته (إسلامية أو علمانية أو غيرها)، ما يبرّر ويُضفي الشرعية على هذا الهدف المشترك.

لكن من الضروري، قبل الانتقال (أو القفز) إلى أيّ منافسة سياسية (انتخابية)، لا بد من تحديد والاتفاق على القواعد الإجرائية التي تحدّد الإطار الذي تجري فيه العملية الديمقراطية واحتكام الجميع إلى هذه القواعد الإجرائية التي يشارك الجميع في إعدادها، مع مراعاة قضية حقوق الأقليات السياسية؛ وبما أنّ أيّ عملية انتخابية، ستُفرِز أغلبية انتخابية وأقليات انتخابية، فلا بد إذن من حماية هذه الأخيرة وعدم انتهاك حقوقها. وتفاديًا لأيّ تجاوزات من شأنها نسف العملية برمتها والانزلاق باتجاه استقطاب أو حتى حروب أهلية، فلا بد من إدراج ضمن هذه القواعد الإجرائية، آليات شفافة وعملية تحمي هذه الأقليات الانتخابية.

ماذا عن الشروط المسبقة للديمقراطية التي يطرحها البعض؟

هذه الإشكالية كثيرًا ما تُطرَح من جهات شتى وبدوافع مختلفة، منها جهات لها مبرّراتها وتخوّفاتها المشروعة (تغوّل الأغلبية وتعسّفها على سبيل المثال)، في حين يستخدمها آخرون لتعطيل الانتقال الديموقراطي ومنع اجتماع كلمة الجزائريين والتشاور فيما بينهم حول سبل إخراج البلد من ورطته. يمكننا معالجة هذه الإشكالية (الشروط المسبقة)، وحماية العملية برمتها، من خلال اعتماد العناصر الأساسية للديمقراطية المذكورة في ميثاق لجنة حقوق الانسان للأمم المتحدة، مع إضافة القواعد الإجرائية المتّفق عليها قبل خوض أيّ عملية سياسية. لكن “الشروط مسبقة للديمقراطية” لا تعني فرض نماذج مجتمعية على الشعب. إذا كان من حق كافة الأطراف والفئات المجتمعية أن تتناقش فيما بينها حول موضوع النماذج المجتمعية، كأفراد، وكمواطنين، وجمعيات وأحزاب، فلا ينبغي الخلط بين الشروط الضرورية للديمقراطية والمسائل المتعلّقة بخيار المشروع المجتمعي الذي يعود الفصل فيه في نهاية المطاف إلى الشعب من خلال ممثلّيه الشرعيين.

وحتى مع نجاح هذا المسار، وتخطّي حواجه العديدة، يبقى الطريق محفوفًا بالمخاطر والعقبات، لأنّ الذين يعترضون طريق الانتقال الديموقراطي لهم مصالح جمّة لن يتخلّوا عنها دون مقاومة شرسة. من أبرز هذه العوامل المعرقلة للتغيير: جماعات الضغط من مختلف الأنواع، الثقافية والأيديولوجية والمالية؛ بارونات الفساد المنتفعة من الوضع القائم؛ دوائر تشكيل الرأي العام، خاصة أثناء الانتخابات؛ سيطرة الأقليات على وسائل الإعلام؛ دور وسائل التكنولوجية الحديثة في التأثير على نتائج الانتخابات؛ الانتهازية والنظرة القصيرة لدى فئات واسعة من السياسيين لتحقيق انتصارات انتخابية ظرفية؛ توظيف الشعوبية لاستغلال النظام الديمقراطي بغية انتهاك حقوق الإنسان الأساسية.

لمواجهة هذه التحديات لا بد من:

  • تنمية درجة الوعي والكفاءة والتنشئة السياسية للمواطنين، لكي يتمكّنوا من القيام بخيارات واعية مستنيرة وتفادي كلّ ما من شأنه أن يهدد النظام الديمقراطي. وفي هذه النقطة تحديدًا، لا بدّ من الإقرار بالمستوى العالي من الوعي السياسي الذي برهن عليه الجزائريون، طيلة عشرات الأسابيع من الحراك؛
  • حماية الممارسة الديمقراطية بقوانين وأدوات وإجراءات، تحدّ من تأثير جماعات الضغط والمال ومراكز النفوذ والتلاعب بالرأي العام ـ وتضمن انتخابات حرة ونزيهة فعلًا.

أهم وأخطر عاملين يحاربان الديمقراطية

أول عدو للديمقراطية والانفتاح السياسي هو عسكرة الدولة؛ الديمقراطية نقيض عسكرة الدولة التي يسيطر فيها الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات على الساحة السياسية، بحيث لا يُترك للمواطن أيّ مساحة للنشاط المستقل، سواءً في الحقل السياسي او المجتمعي أو النقابي، فكل الفضاءات ترزح تحت سيطرة كاملة للنظام العسكري المخابراتي. وأيّ انتقال من دولة عسكرية أمنية إلى دولة مدنية، يفرض على أصحابه درجة عالية من التنظيم، لمواجهة منظومة منظّمة تحتكر كلّ وسائل الدولة بدون استثناء، ثم يأتي عائق الاستقطاب الأيديولوجي، الذي لا يقلّ خطورة ويفرض على أنصار التغيير الديمقراطي تجاوزه. إذا كان الاختلاف معقول ومحمود أحيانًا فإنّ الاستقطاب مهلك ومنذر بانفجار العمل المشترك، وعامل من عوامل التفرقة والتشرذم، بل يُعَدّ بمثابة جريمة في حق الشعب الذي انتظر طويلًا لاستعادة سيادته وبناء دولة القانون والمؤسسات. بالنسبة للتجربة الجزائرية، تعود مسؤولية الفشل والخيبة، بالدرجة الأولى إلى النُخب، إمّا لعدم ارتقائها إلى مستوى وعي وحرص الشعب، أو تقاعسها أو اختيارها معسكر السلطة المريح، وهذه النخبة هي في كثير من الأحيان سبب ومحفّز الاستقطاب الأيديولوجي.

*رشيد زياني الشريف عضو المجلس الوطني لحركة رشاد