نشر الأستاذ رضا دغبار يوم الجمعة الماضي فيديو يتضمّن ثلاثة محاور، أوّلها ملاحظاتٌ عن تراجع الطابع السياسي في شعارات الحراك يومَي 22 و26 فبراير، والثاني تنظيرٌ لهذه الظاهرة، والثالث ما يراه ضروريًا لبعث الطابع السياسي في شعارات الحراك من جديد ولدفع السلطة نحو قرارٍ سياسيِ صائب. لن نتطرّق هنا للمحور الثالث لأنه مجرّد تعبيرٍ مشروعٍ عن رأيٍ سياسي.
نتابع في حركة رشاد مداخلات الأستاذ دغبار منذ بداية الحراك لاحتوائها على تحاليل قيّمة من منظور القانون الدستوري تُثري وعي الحراك الوطني، وقُمنا بالترويج للعديد منها على مواقعنا. أمّا مداخلة الأستاذ دغبار الأخيرة فقد خرجت في مجملها عن منظور القانون الدستوري لتعالج تراجع الطابع السياسي في شعارات الحراك مؤخرًا من باب الجدل السياسي، أو لنَقُلْ التنظير التآمري بصراحة، فتضمنّت عدة مغالطات تستدعي هذا التعقيب.
كان الأستاذ دغبار موفّقًا إجمالًا في المحور الأول من مداخلته، ونشاركه ملاحظة أنّ شعارات الحراك يومَي 22 و26 فبراير تميّزت بصعود شعارات المظلومية والتنديد بأجهزة الأمن والشرطة وبتراجع الشعارات ذات الطابع السياسي المحض. نقول إجمالًا لأنه لم يخلُ حراك يومَي 22 و26 فبراير من شعارات سياسية من قبيل “دولة مدنية ماشي عسكرية” أو “جزائر حرّة ديمقراطية”، كما لم تخلُ كلّ مسيرات الحراك منذ بدايته من شعارات تندّد بمضايقات وقمع أجهزة الأمن أشهرها “Pouvoir assassin” (السلطة سفّاحة)، فالذي ظهر يومَي 22 و26 فبراير هو اختلال في التوازن بين الشعارات السياسية، التي يجب أن تتصدّر خطاب الحراك، وشعارات المظلومية والتنديد التي تعبّر عن القمع والمضايقات الذي يُعاني منه عددٌ معتبرٌ من ناشطي الحراك.
ثمّة أسبابٌ موضوعية لهذا المنحى الظرفي في شعارات الحراك، سنسرد بعضها أدناه، لكن الأستاذ دغبار، خلافًا لعادته، لجأ إلى نظرية مؤامرة ملتوية لتبيين هذه الظاهرة. ما هي هذه النظرية؟ يزعم الأستاذ دغبار أنّ التحوّل في طابع الشعارات يرجع إلى “هندسة العقول” التي تقوم بها جهة نافذة يُلمّح لها دون تسميتها ألا وهي رشاد، وذلك من خلال
أ) الترويج لأفكار من مصادر مختلفة حتى يقتنع المواطنون بأنّ تلك الأفكار محلّ إجماع،
وب) التدرّج في الإقناع لأنه يستحيل إقناع الناس بأفكار متطرّفة مباشرة فاللجوء إلى تقسيم الفكرة إلى مراحل يسهّل استيعابها تدريجيًا.
يقتضي المنهج العلمي أن يُنسب المعتقد إلى الدليل والإثبات، فارتقاء نظرية دغبار عن تحوّل الشعارات من الجدل إلى التبيين العلمي يقتضي أن يُبرهن دغبار أنّ هذا التحوّل هو استنباطٌ استنتاجيٌ من نظريته بعدما يُثبت أنها تتناسق مع البيانات الكاملة والموثوقة المتوفّرة. لكن الأستاذ دغبار لم يكلّف نفسه عناء إثبات ادّعائه. فهو لم يقدّم أيّ دليل في ما يخصّ المقدّمة الأولى من نظريته، أيْ تعدّد المصادر. إنّ حركة رشاد لها موقعٌ واحدٌ في الشبكة العنكبوتية وموقعٌ واحدٌ في كلٍّ من فايسبوك وتويتر ويوتيوب، وكلّ مواقعها لها شارة معروفة، وأعضاؤها لهم صفحات بأسمائهم الحقيقة، ولا تُدير قطعًا أيّ موقع أو صفحة متخفّية أو مستعارة. هناك حملات مخابراتية مغرضة من الإشاعات، منذ بداية الحراك، تنسب إلى رشاد تحرّكات مشبوهة – منها التخوين – في وسائل التواصل الاجتماعي، غير أنّ هذا محض وهم في المخيلات الأيديولوجية المنقطعة عن الواقع، ومحض كذب لتشويه رشاد أو لنفخ حجمها وتوظيفها كـ “بُورورو” لتقسيم الحراك. ونفس الجهة تحرّك حملات دورية تنسب لحركتنا ناشطين ليسوا من رشاد، وذلك رغم نفينا ونفيهم لتلك الإشاعات. أين هي إذن بيانات الأستاذ دغبار التي تأسّس لمقدمته عن تعدّد المصادر؟ سنبقى في انتظارها منه.
في ما يخصّ الادّعاء بأنّ رشاد تنتهج التدرّج في إقناع الحراكيين بأفكارها المتطرّفة التي ترمي إلى جرّ البلاد نحو العنف، لم يقدّم الأستاذ دغبار أيّ دليل مقنع. دليله الوحيد هو عبارة “الاشتباك السلمي” الذي استعمله المناضل محمد العربي زيتوت في أحد لايفاته. ولم يشفع لزيتوت أنه يؤكّد على السلمية في كلّ مداخلاته منذ 2007، ولم يشفع له أنه يثبّتها عند الشباب بنعتها “سلاح الحراك النووي”، ولم يشفع له أنه في تلك الحصّة قال للحراكيين لا تتعاونوا مع رجال الشرطة عند اعتقالكم لكن لا تضربوهم بأيّ شيء وفي أيّ حال من الأحوال، حتى لو بادروا هم بضربكم. إذن كلمة “الاشتباك السلمي” المنزوعة من سياقها هي مجموع الأدلة على تطرّف وعنف حركة تضمّ عشرات المناضلين في الجزائر والمهجر وتنشط منذ 14 سنة. ألا يظن الأستاذ دغبار أنه لو كانت رشاد حركة متطرّفة وعنيفة، كما ادّعى، لتجلّى ذلك مع الوقت في أكثرَ من موطن؟
يمكن للأستاذ دغبار وصف حركة رشاد بالراديكالية، فقد صرّحت منذ تأسيسها بأنّها تسعى إلى تغييرٍ جذريٍ وإصلاحٍ عميقٍ لمنظومة الحكم في الجزائر، لا إلى تغييرٍ شكليٍ لواجهة النظام دون المساس بطبيعته الجوهرية. لكن لا يجوز له أبدًا نعتها بالتطرّف فهي منذ البداية اختارت نهج الوسطية والتعاطي العقلاني مع الأزمة الجزائرية، وكان خطابها دائمًا خطابًا جامعًا بعيدًا عن كلّ أشكال الإقصاء لأيّ طرف بما في ذلك قيادة الجيش التي تعتبر رشاد أنّ لها دورًا ضروريًا في مرحلة الانتقال الديمقراطي وبناء دولة القانون. ولا يُعقل وصم رشاد بالعدمية وهي التي حرصت دومًا على التوازن بين نقد السياسات والممارسات وتقديم المبادرات والمقترحات العملية لإحداث تغييرٍ تشارك فيه كلّ شرائح المجتمع، كما تشهد عليه “أرضية من أجل التغيير في الجزائر” التي شاركت في صياغتها والتوقيع عليها في مارس 2019.
إنّ التطرّف في الفكر، التطرّف بمعناه الفلسفي، هو تأكيد جانب من جوانب ظاهرة مركّبة على حساب جوانبها الأخرى، فبهذا المعنى يبدو أنّ الأستاذ دغبار هو المتطرّف.
ومن باب توضيح الظاهرة المركّبة التي يجهلها أو يتجاهلها الأستاذ دغبار، نُعلِمه أنّ خيار رشاد للمقاومة اللاعنفية حُسم منذ تأسيس الحركة عام 2007، وهو خيارٌ استراتيجيٌ ترسّخ بعد دراسات معمّقة للعشرات من المقاومات السلمية الناجحة والفاشلة في العالم. وساهمت حركة رشاد بكل تواضع في إرساء ثقافة المقاومة اللاعنفية في الجزائر بإنتاج مئاتٍ من الساعات من البرامج التحسيسية والوثائقيات عن المقاومة السلمية التي بثتها عبر قناة العصر منذ 2011، كما نظّمت الحركة منذ تأسيسها العشرات من الدورات التكوينية عن المقاومة السلمية في الجزائر والمهجر. ومواقع حركة رشاد مليئة بالكتابات التثقيفية والتوعوية في المقاومة اللاعنفية، ويمكن لأيّ مواطن أن يتأكّد من هذه المعلومات بزيارة مواقع رشاد، والبحث في أرشيف قناة العصر على اليوتيوب أو باستجواب مناضلي الحركة في الميادين. فخلافًا لما يدّعيه الأستاذ دغبار، تدلّ البينات على مساهمة رشاد في التأسيس للسلمية في الجزائر والثبات عليها وليس على التدرّج في التطرّف.
إذن قام الأستاذ دغبار بهندسة مغالطات، ولم يقدّم نظرية مقنِعة لتبيين ظاهرة تراجع الشعارات السياسية وبروز شعارات المظلومية والتنديد بمصالح الأمن في مسيرات يومَي 22 و26 فبراير. وثمّة نظريات بديلة بسيطة تفسّر هذه الظاهرة الظرفية. الأطروحة الأولى هي الكورونا، فهناك تراجع في النشاط الاقتصادي والسياسي في كل بلدان العالم، وبعد تعليق المسيرات لمدة سنة لا ينتظر أيّ عاقل أن تُستأنف المسيرات بنفس الشحنة السياسية التي كانت عليها قبل توقيف المسيرات. أما ارتفاع الشعارات المندّدة بالمخابرات والشرطة فذلك يرجع أساسًا إلى القمع الذي سلّطته هذه المصالح على الحراكيين لمدة سنة كاملة بحيث استغلّت بعض القيادات الأمنية في البلاد الجائحة للانتقام من الحراكيين وللتحرّش بهم وإهانتهم ومضايقتهم. فالشعارات التي نعتت المخابرات بالإرهابية والشرطة بالقوة الاستعمارية هي نتاج تجاوزات فضيعة كان آخرها تعذيب الشاب وليد نقيش. ولم تصطحب هذه الشعارات أعمالُ عنف أو تحريضٍ عليه، فالأرجح أنها عنفٌ لفظيٌ تعبيريٌ للتفريج عن المظالم والتنديد بها بدلًا من أن تكون عنفًا لفظيًا أداتيًا يرمي إلى شرعنة العنف ضد المخابرات أو الشرطة. ولا شكّ أنّ أنجع الطرق لوضع حدّ لمثل هذه الشعارات هو توقيف القمع وردّ المظالم، وفي هذه النقطة نتّفق مع ما قاله الأستاذ دغبار.
نذكّر أيضًا رضا دغبار، أنه وهو الأستاذ الجامعي الذي يزن كلامه، تأثّر يومًا بحادثة إهانة معلّمة في مدرسة بن زرجب بوهران اشتكت من سوء ظروف الدخول المدرسي فقام والي وهران بتعنيفها، إلى درجة أنه كتب تدوينة على الفايسبوك بتاريخ 21 أكتوبر 2020 بعنوان “هذي دولة ولّا استعمار!!!!” ختمها بعبارة “يا حنا يا نتوما والله ما رانا حابسين”. فما بالك بما يشعر به ضحايا الانتهاكات الجسيمة والمتكرّرة لكرامة وحقوق الإنسان، وما قد يصدر عنهم من شعارات!
هناك عاملٌ ثالثٌ يفسّر هذا المنحى في الشعارات، وهو عملية تسيّس الشباب منذ بداية الحراك بحيث اكتشف تدريجيًا، بفعل تناقضات المنظومة السياسية وحماقات بعض القيادات العسكرية وأتباعها، أنّ المشهد السياسي في البلاد هو مجرّد واجهة مدنية مسؤولة بدون سلطات، منخورة بالفساد، تحرّكها من الخلف أجنحة عسكرية متسلّطة غير مسؤولة، بواسطة البَوْلسة السياسية. فتطوُّرُ وعي الشباب السياسي – مع تطوّر الحراك والضربات التي تكبّدها من العصابة – مكّنهم من فكّ تشفيرة المشهد السياسي وتشخيص مصدر الانغلاق السياسي وانسداد الأفق في البلاد.
حاول الأستاذ دغبار في المحور الثاني من مداخلته تعويض الفقر الإثباتي في تحجّجه الجدلي بالتلميح إلى أنّ حركة رشاد تهدف إلى إسقاط النظام وتهديم الدولة. وللأسف لم يكلّف الأستاذ دغبار نفسه بمستلزمات الخطاب العمومي المسؤول من بحث وتدقيق في الموضوع، ولو فعل ذلك لوجد أنّ حركة رشاد لم تنادِ يومًا بإسقاط النظام، بل نادت دائمًا بتغييرٍ جذريٍ للنظام وإرساء دولة القانون والحكم الراشد (bonne gouvernance). وبادرت حركة رشاد منذ 2007 إلى البحث والكتابة عن التحكّم الديمقراطي في القوات المسلّحة وتطوير الجيش إلى قوة قتالية احترافية متفوّقة، كما اقترحت إجراءات دقيقة لإصلاح جهاز المخابرات لتحويله من بوليس سياسي إلى جهاز احترافي منضبط يحمي الشعب والدولة والدستور، وذلك بمراجعة تفويضه، وأسسه القانونية، وهيكلته وحجمه، وصلاحياته، ووسائل التحكّم فيه ومراقبته، والتدقيق في انحيازه السياسي وانتهاكاته لحقوق الإنسان. يبدو أيضًا أنّ الأستاذ دغبار يجهل رسالة رشاد لإخوانهم الضباط في الجيش الوطني الشعبي. كلّ هذه المادّة متاحة للجمهور على موقع الحركة. وإنه من الإجحاف تشويه هذه الجهود البنّاءة لتشييد دولة القانون وتصوير حركة رشاد على عكس ما هي.
أخيرًا، إضافة إلى العيوب المنهجية والإثباتية في مداخلته، لم ينتبه الأستاذ دغبار إلى الطابع الانعكاسي في تهجّماته على رشاد. فهو يدّعي أنّ رشاد تهندس العقول لجرّها إلى العنف في حين أنّ مداخلته قد يُساء تُأويلها واعتبارها كجزءٍ من هندسة المخابرات للعقول ضد رشاد، بمعنى أنها قد تُأوّل بأنها مصدرٌ إضافيٌ من المصادر المتعدّدة لصنع الإجماع، خاصة أنها جاءت من حيث التوقيت بعد مهزلة الدحدوح ودعاية اليتيمة. والأستاذ دغبار يدّعي أنّ رشاد تُشرعن للعنف من خلال الشعارات ضد قوى الأمن في حين أنه هو يُشرعن للعنف ضد رشاد باتّهامها بهتانًا بالتطرّف وجرّ الحراك إلى العنف، وهي شرعنة قد يتمّ توظيفها في الأخير لتبرير عنف الدولة ضد شرائح من الحراك. وأمّا ادّعاء الأستاذ دغبار بأنّ رشاد قوة مضادة للحراك متواطئة مع النظام، فهو يناقض الوقائع الميدانية وقد ينعكس عليه بتهمة التواطؤ مع الثورة المضادة. وأخيرًا يتّهم الأستاذ دغبار رشاد تلميحًا بتخوين الحراكيين، بدون أيّ دليل طبعًا، في حين أنه هو الذي يخوّن رشاد بتصوريها في شكل غول أو بُعبُع يهدّد السلم والسلمية ويتآمر لتحطيم الدولة، ممّا يُقصي مناضلي رشاد من حقّهم في المواطنة وينـزع عنهم حتى صفة الآدمية.
إنّ حركة رشاد تتعرّض لهجمة قويّة من طرف النظام ووسائل دعايته في محاولة يائسة لتشويه سمعتها وشيطنتها وتخويف المواطنين منها، كما يتعرّض أعضاء الحركة باستمرار إلى مختلف أنواع القذف والتشهير، وهم نادرًا ما يردّون عن هذه الافتراءات لأنّهم تصدّقوا بأعراضهم في سبيل الله خدمةً لمصلحة الوطن. وأمام هذه الهجمة المسعورة على رشاد التي تعدّدت أصواتها وتكاثرت أقلامها، من المؤسف أن يقلّ المبادرون من فواعل الحراك الذين لهم ظهور إعلامي إلى قول كلمة حق والإدلاء بشهادة منصفة في حق حركة لطالما دعمتهم ودافعت عنهم كلّما اقتضى الأمر. ومع ذلك فإنّ رشاد ستستمرّ في الدفاع عن تنوّع وتعدّدية الحراك في إطار الوحدة، وفي اعتبار كلّ فواعل الحراك شركاء في عملية التغيير وبناء الدولة الجامعة لكلّ أبنائها، وستسعى عن قناعة للتجسير بين مختلف مكوّنات المجتمع الجزائري لتفادي التجاذبات الحادّة التي يعمل النظام على تغذيتها والنفخ فيها من أجل الاستمرار في بسط سيطرته على المجتمع وإحكام قبضته على مفاصل الحكم من دون أدنى قدر من الشرعية الشعبية. كما ستستمرّ رشاد، قدر الإمكان، في المساهمة من أجل تحقيق التوازن بين الشعارات السياسية وشعارات المظلومية والتنديد لإبعاد كلّ شبهة على الطابع السلمي والحضاري للحراك.
يوسف بجاوي وعباس عروة
عضوا حركة رشاد
1 مارس 2021