مقالات

بن طلحة، فيالق الموت، تساؤل حنون واعتراف زروال، الحقيقة تأبى النسيان

قلم د. رشيد زياني شريف

في مثل هذا اليوم، قبل 26 سنة، عاشت الجزائر مسلسلًا فظيعًا من الأحداث الدامية غير القابلة للنسيان، بلغت أوجّها في مجازر مهولة مزّقت نسيج الشعب الجزائري، كانت مجزرة بن طلحة إحدى أكثرها دموية، وقعت على بعد كلومترات قليلة من العاصمة، في منطقة مسيّجة ومُحاطة بعدّة ثكنات للجيش، واستمرّت لساعات طويلة.

هذه المجزرة الرهيبة قامت بها فيالق الموت، المثيرة للذعر وسط سكان القرى والمناطق الهامشية، بالنظر إلى الفظاعات المعروفة عنها، تحت رداء جماعات إسلامية، مصطنعة أو مخترقة، ترتكب جرائمها في جنح الليل تحت رداء أفغاني، محاولةً منها للتمويه وترهيب المواطنين. حصدت أيدي الإجرام في تلك الليلة المفزعة أكثر من 400 نفس بريئة، لم تفرّق بين رجل وامرأة، بين شيخ طاعن في السن ورضيع، فضلًا عن عشرات الجرحى واليتامى والثكالى، وصدمة جماعية مروّعة استمرّ أثرها سنين عدة. نُفّذت هذه المجزرة ليلة الاثنين 22 إلى الثلاثاء 23 من سبتمبر 1997، على يدي مسلّحين “مجهولين” قارب عددهم المئتين، في قرية بن طلحة بالقرب من مدينة براقي، واستعملوا فيها الفؤوس والسيوف والخناجر والرصاص، مع إضرام النيران ونهب ما وقعت عليه أيديهم من ممتلكات، قبل أن ينصرفوا في هدوء. إنّ ما أثار الشكوك والتوجّس وسط المواطنين أنّ المذبحة دامت ستّ ساعات، دون أن يصل صوت وصراخ الضحايا أسماع قوافل الإنقاذ المحيطة بالقرية، من ثكنات، على مرمى حجر من مسرح الجريمة، ممّا جعل الكثير يتساءل أين كان الجيش؟ أين كانت المليشيات الحكومية؟ أين “الوطنيون”؟ أين الحرس البلدي؟ أسئلة عديدة ظلّت عالقة، ممّا أثار العديد من علامات الاستفهام والربية حول هذه المذبحة التي تحمل توقيع فرق الموت المخابراتية.

فيالق الموت، فرية تآمرية، أم حقيقة موثّقة؟

ظلّ الريب على مرّ سنين يحوم حول هذه المجازر، والتساؤلات تُطرح حول هوية منفذيها، حتى “نزلت” شهادة (اعتراف) بالغة الأهمية، بالنظر إلى مصدرها، والمنصب الرفيع الذي كان يتولّاه. تعود هذه الشهادة إلى تاريخ 6 ديسمبر 2001 عندما نشرت يومية Le Quotidien d’Oran مقالًا غير مألوف، بقلم عابد شارف تحت عنوان “فيالق الموت، اعتراف زروال”. استهلّ الكاتب مقاله بعنوان فرعي مفزع “فرق الموت كانت موجودة، لقد قتلوا. وما زالوا يتمتّعون بالإفلات من العقاب”، ثم يواصل، “الاعتراف قاسٍ، قاسٍ جدًا. إنه صادر عن الرئيس السابق ليامين زروال. وبحسب لويزة حنون، فقد اعترف الرئيس الأسبق خلال لقاء رسمي، بوجود فيالق الموت التي كانت تنشط في الجزائر في منتصف التسعينيات، وأكد زروال أنّ هذه الجماعات لم تكن “مؤسسية”، ولم تكن تابعة لهيئات رسمية، بل تتبع لـ “مجموعات مصالح” غامضة يصعب تحديدها. ووفقاً لرواية ليامين زروال، فإنّ فيالق الموت الجزائرية لم تكن مشكّلة بنفس الطريقة المعروفة في أمريكا اللاتينية، حيث يُهيمِن عليها عناصر الشرطة والجيش والقوات الخاصة.

بدأت قصة الاعتراف عندما طرحت لويزة حنون على الرئيس زروال سؤالًا يتعلّق بهذه الفيالق، في أعقاب ما نشرته صحيفة Demain l’Algérie من معلومات تفيد بوجود فيالق الموت، في وقت كانت المعلومة بشأن هذه المجموعات يُنظر إليها على أنها مجرّد حملة تشنيع تشنّها صحيفة مقرّبة من الجنرال محمد بتشين، الذي كان وقتها في حرب ضد نظام الحكم. وقد اعتبرت لويزة حنون هذه المعلومات خطيرة للغاية، وأعربت قلقها بشأنها لدى زروال الذي أكّد لها وجودها بالفعل. وفي ردّه على تساؤلها، أراد الرئيس زروال بشكل واضح تبرئة المؤسسات الرسمية، بجميع أجهزتها الأمنية، التي كانت تحت قيادته رسميًا، وربّما أراد أيضًا تقديم إشارة ودليل يمكن تعقّبه لمعرفة هذه الجهات التي تعمل في غرف مظلمة، بعد شعوره بالعجز التام في مواجهة أطراف نافذة في السلطة، أصبحت خارج سيطرته.

يأتي هذا الاعتراف، حسب كاتب المقال، ليعزّز صدقية عدة شهادات من أقارب الضحايا، ومن جهة أخرى، الشهادات الصادمة لضباط منشقّين، مثل حبيب السويدية ومحمد السمراوي. وقبل ذلك، سبق لمنظمة سرية واحدة على الأقل، غامضة الهوية، أن عرّفت نفسها وصرّحت علنًا أنها ستوّجه ضرباتها، على الطريقة المعروفة لدى فيالق الموت، ويتعلق الأمر بمنظمة الضباط الأحرار الشباب (OJAL)، التي أعلنت عن نيّتها مهاجمة الإسلاميين المشتبه في تعاونهم مع الجماعات المسلحة. وقد وجدت هذه المنظمة دعمًا وصدى وسط دوائر الاستئصال الأكثر تطرّفًا، خاصة منذ أن أعلن رضا مالك، رئيس الحكومة آنذاك، أنّ “الخوف يجب أن ينتقل إلى الطرف الآخر”، خلال تشييع جنازة المسرحي عبد القادر علولة في وهران في 16 مارس 1994.

هذا فضلًا عن مجموعات أخرى كانت تنشط ضمن نفس الإطار، وأحيانًا تحت أوامر “أمراء حرب” محلّيين، على غرار رئيس بلدية غليزان، الحاج فرغان، المتهم علنًا بالاختطاف والقتل في قضايا مماثلة، ونور الدين آيت حمودة المتورّط في اغتيال معطوب لوناس. في تلك الفترة، قليلون جدًا هُمْ مَن كانوا يجرؤون الحديث علنًا عن وجود فرق الموت التي شكّلتها السلطة، رغم أنه كان واضحًا أنّ تجنيد هذه الفيالق تمّ عادة من نفس الأوساط: الأجهزة الأمنية والقوات شبه العسكرية، كونهم يتوّفّرون على الأسلحة والتدريب، وتحفّزهم مشاعر الانتقام ويعتقدون أنهم يخدمون السلطة ومن ثمّ يتمتّعون بحماية الدولة والإفلات من العقاب. وكان في تلك الفترة كل من يثير هذا الموضوع ويشكّك في هوية من يقتل، وفق ما اشتهر عليه “من يقتل من؟” أو (Qui tue qui ?)، يُتَهم من قِبل النظام ومؤيديه، بأنه متعاون مع الإسلاميين، وتُلصق به تهمة الإرهاب.

إنّ دوّامة الثنائية الكلاسيكية، المتمثّلة حسب عابد شارف، في الإرهاب من جهة والقمع من جهة أخرى، في غياب أيّ أفق سياسية، وتواطؤ تيّارات واسعة منسوبة “للحداثية”، التي اختارت غضّ الطرف عن تصرّفات النظام العسكري، ما دام يسدّ الطريق أمام خصومهم الأصوليين، كلّ ذلك أدّى حتمًا، ليس فقط إلى ظهور هذه الفيالق، بل أيضًا سمح بإفلات المسؤولين عن تلك الجرائم من العقاب لفترة طويلة.

الشيء الأكثر إثارة للاهتمام بحسب كاتب المقال، هو معرفة ما إذا كانت الجزائر (السلطة وأجهزتها) قادرة على استدعاء رئيس سابق للجمهورية إلى منصّة الشهود لمساءلته حول تصريحات أدلى بها أثناء ممارسة مهامّه أمام شخصيات سياسية رسمية، ومطالبته أن يقدّم، على سبيل المثال، المعلومات التي دفعته إلى الإدلاء بهذه التعليقات، وأن يقدّم توضيحات حول مجموعات المصالح التي كان يقصدها، وما هي الأعمال التي ربّما شاركوا فيها. وهذا ينبغي أن يؤدّي في نهاية المطاف إلى متابعات قضائية وتوفير العدالة للضحايا ومعاقبة المذنبين، لأنّ من شأن هذا المسار أن يرفع الحجاب عن أحد أكثر الجوانب غموضًا في أحلك عقد شهدته الجزائر.

لكنه يختم بنبرة الشكّ والحسرة، معتبرًا أنّ مثل هذا الافتراض مجرّد خيال، فلن تجرؤ أيّ جهة على تقديم شكوى، ولن يجرؤ أيّ وكيل نيابة على استدعاء ليامين زروال، ولن يتمّ الكشف عن أيّ شيء ممّا جرى. الجزائر بلد يُغمض فيه الجميع أعينهم ويلتزمون التزامًا صارمًا بقانون الأوميرتا (السكوت خشية العقاب). فالحقيقة خطيرة للغاية لو كُشِفت، ولا يمكن قبولها، سواءً بالنسبة للأطراف الرئيسية أو بالنسبة للبلد نفسه، أجل بلدٌ مُفكّك الأوصال، في وضع هشّ ومعرّض للخطر، لكنه سيكون أكثر عرضةً للخطر إذا لم يتحمّل بشكل كامل المسؤولية عن انحرافاته. وبالفعل لم يتوقّف الحدّ عند التضييق أمنيًا على كلّ من تجرّأ على المطالبة بالحقيقة حول ما جرى، بل تمّ تقنين ذلك في إطار ميثاق السلم والمصالحة الوطنية في مادتيه 45 و46، الأمر الذي دفع الضحايا إلى اللجوء إلى محاكم خارج الوطن.

استمرّ جوّ الإفلات من العقاب وكتم أنفاس المواطنين داخل الوطن، وظلّ سيّد الموقف، وزاد في ازدراء الجلادين لضحاياهم، قبل أن تقبل محكمة سويسرية شكوى ضحايا الجنرال خالد نزّار، وتوجّه له تهمة جرائم الحرب وضد الإنسانية، ممّا زرع الفزع ليس في نفس نزّار وحده بل في نفس المنظومة التي كان نزّار مجرّد فرد فيها، مثلما تفسّره حملة الذعر التي أبانت عنهم في تصريحاتهم وكتاباتهم في مختلف الوسائل التي يملكونها. واليوم، أعادت هذه الدعوة من المحكمة السويسرية إلى السطح جرائم العشرية الدامية، وأخرجت إلى السطح والذاكرة شهادة الرئيس زروال ردًا على استفسار حنون بشأن فيالق الموت التي ارتكبت جرائم مهولة تحت إشراف وتنسيق وحماية أعلى مستويات في القيادة لعسكرية. حقًا الدعوة القضائية السويسرية أخرجت اعتراف زروال من النسيان، وربّما ستحفّز ضحايا آخرين ليقدّموا أمام المحكمة السويسرية ومحاكم دولية أخرى شكاوى مماثلة، فتُوّجه دعوة لزروال وحنون لتقديم شهادتهما، ما داما على قيد لحياة، حول ما صرّح به زروال أثناء أداء مهامه كرئيس للدولة. فما ضاع حق وراءه طالب، ومن يدري؟ إنّ غدًا لناظره لقريب.

رشيد زياني شريف | المجلس الوطني لحركة رشاد